المسلسلات التلفزيونية طريقنا المفضل إلى المعرفة

«ثقافة بديلة» تقتحم البيوت العربية

لقطة من مسلسل «نور» المدبلج الى العربية
TT

عشق المسلسلات بات ظاهرة تجاوزت شهر رمضان إلى ما بعده، والأدباء ينظرون إلى هذا الشغف بكثير من الديناميكية. فثمة من يقترح طبع سيناريوهات المسلسلات المحببة في كتب، للتشجيع على القراءة، وهناك أدباء انخرطوا في الظاهرة حد الانتقال من الكتابة الأدبية إلى النصوص الدرامية، حاملين مشروعهم الإنساني معهم، كما يقولون. والأفكار تتوارد للاستفادة من حالة شعبية كاسحة واستثمارها ثقافياً ومعرفياً، فهل هذا ممكن؟ وكيف؟

المتابعة الواسعة ونسبة المشاهدة الساحقة التي حظيت بها المسلسلات التركية، بالإضافة إلى ما سجله تنامي الاهتمام الجماهيري بالدراما العربية، طرحت فكرة إعادة طباعة قصص المسلسلات على شكل كتب للاستفادة من نجاح المسلسلات الدرامية في تشجيع القراءة.

هذه الفكرة أثارت استغراب البعض واستخفافه، لكن وبما أنه يصعب التنبؤ باتجاهات السوق، لم يستبعد بعض آخر أن تلاقي هذه الفكرة تعطشاً من الجمهور. الكاتب والسيناريست والصحافي حسن م يوسف استبعد نجاح الفكرة، مشيراً إلى تجربة أسامة أنور عكاشة الذي أعاد طباعة الجزء الأول من مسلسله الشهير «ليالي الحلمية» على شكل كتاب، لكنه لم ينجح مثل المسلسل. ويرى حسن م يوسف «ان للكلمة المطبوعة خصوصية، وكي يصبح المسلسل أدباً يتطلب ذلك معالجة خاصة».

القاصة وكاتبة السيناريو كوليت بهنا اعتبرت «ان لعبة الأدب مختلفة عن لعبة السيناريو، وإعادة طباعة السيناريو لن تكون ناجحة وقد لا يهتم بها سوى المختصين. فالنص المكتوب للتلفزيون يختلف كثيراً بعد تحوله إلى نص بصري». إلا أن بهنا لم تستبعد إمكانية نجاح فكرة إعادة طباعة المسلسلات على شكل قصص مصورة، لكنها «لن تشكل البديل عن الرواية».

عبد القادر عبد اللي الرسام التشكيلي والمترجم عن التركية الذي قام بترجمة مسلسل «نور» إلى العربية، نبه إلى ضرورة عدم المبالغة بالحديث عن النجاح الذي حققه هذا المسلسل، والبحث في أسبابه، معتبراً أنه لا يعود إلى نجاح العمل ولا أهمية قصته، بل «الفضول للتعرف على شعب جار ـ الشعب التركي ـ فجأة اكتشفنا أننا لا نعرف عنه شيئاً. والسبب الثاني الدبلجة لأول مرة باللغة المحكية القريبة من الفصحى».

لو حسبنا عدد الساعات التي أنفقها العرب في متابعة تلك المسلسلات قياساً إلى الوقت المبذول لمتابعة الإصدارات الحديثة، سنواجه واقع تحول الدراما ـ كفن يعتمد على الحكاية ـ إلى تعويض عن قراءة الأدب القصصي والروائي، رغم ما تشهده الرواية من فورة إنتاجية. ومع هذا فإن عبد اللي نفى بشكل قطعي أن يكون التلفزيون قد شكل «حالة ثقافية بديلة»، معتبراً ما نشهده الآن عبارة عن فورة لن تستمر. وأكد عبد اللي أن التلفزيون «سيعود ليأخذ حجمه الطبيعي»، معبراً عن تفاؤله بأن «يحقق التلفزيون قفزة فنية جيدة ترتقي بمادته الفكرية، على غرار ما حصل في السينما والتي شكلت في فترة ما عبئاً على الثقافة، لكنها حققت ارتقاء إبداعياً على يد مبدعين مميزين وغدت أحد روافد الثقافة».

إنانا عبد اللي، ابنة عبد القادر وطالبة الثانوي، عبرت عن ندمها البالغ على متابعة مسلسل «نور»، وقالت أنها تابعته لأن والدها قام بترجمته، لكن بعد انتهاء المسلسل، شعرت بأن القصة كانت سخيفة ولا تستحق هدر كل ذلك الوقت. وعما إذا كانت ستتابع الأعمال الأخرى التي ترجمها والدها وستعرض قريباً، أكدت بأنها لن تتابعها ولا تظن أن صديقاتها سيتابعونها لأنهن كن يسألنها إذا كان لديها فكرة عن القصة كي لا يضطررن لمشاهدتها. أما فكرة تحويل المسلسلات إلى كتب مطبوعة، فقد أضحكت إنانا، وقالت «لدينا مشكلة مع القراء وليس مع الموضوعات، الناس تتابع التلفزيون لأنها لا تريد أن تقرأ».

فكرة استعادة قصص المسلسلات، تحت صيغة الكتاب المطبوع يصعب التعامل معها بجدية، وتنم عن تجاهل بأن أصل السيناريو قصة، وهناك من يذهب إلى اعتبار الكتابة التلفزيونية أدباً رديئاً. حسن م يوسف رفض هذا الحكم وعده «تعميماً مضللاً». فهناك سيناريوهات تحمل قيمة أدبية وفكرية أكثر بكثير من روايات تنشر وتنال الاحترام، وضرب مثالاً سيناريوهات شارلي شابلن، وتابع عبد اللي «الإبداع هو الذي يحدد قيمة أي منجز بشري».

إلا أن مجرد طرح فكرة إعادة إنتاج الدراما على شكل كتاب مطبوع، يؤكد اتجاه الثقافة البديلة لأخذ مكان الثقافة الأصيلة في مجتمعات لم تتأصل علاقتها مع القراءة رغم الجهود الكبيرة التي بذلت لمحو الأمية. إذ ثمة من يشير إلى أن التلفزيون انتشر في المجتمعات العربية قبل أو بالتوزاي مع انتشار التعليم، ومع الوصول إلى عصر الفضائيات كانت الصلات مع الدراما قد توطدت لتشهد انطلاقة واسعة سرعان ما شهدت فورات محمومة، وجدت في الأزمات السياسية والفكرية مناخاً ملائماً كي تتسلل وتحتل الساحة الجماهيرية. ويقول الباحث الاجتماعي كنعان فهد في إحدى مقالاته «لقد كان مصطلح الثقافة الجماهيرية يعني تقديم مجموعة مختارة من المعارف والعلوم والفنون، تساعد الجماهير على زيادة وعيها.. غير أن هذا المصطلح صار يعني عكس معناه تماماً، لخبث ما صارت تحتوي عليه الثقافة الجماهيرية، من فن هابط، وأدب مسطح، ومواد للتسلية مضيعة للوقت والعقل».

الروائي والسيناريست قمر الزمان علوش يأسف لكون «الدراما التلفزيونية باتت بديلة لكل أشكال الأدب الأخرى». فالحوارات والنقاشات كانت تجرى من قبل على خلفية الأحداث الحاصلة، وبعد انتشار الدراما أصبحت هي المحرض على الحوار والنقاش اليومي لاسيما أنها مبنية على وقائع تمت مشاهدتها جماعياً». ويضيف علوش «هذا الوضع قد يكون مؤسفاً لكنه حقيقة واقعة، والدراما اليوم تأخذ حيزاً كبيراً من يوميات الناس وأحاديثهم وسهراتهم وبتنوعها تتنوع الأحاديث لتطال كل الأسئلة ومعظم القضايا».

يعتبر حسن م يوسف، ان الدراما «لون جديد يضاف إلى سجادة الثقافة»، لكنه لا يغني عن الأدب، الذي «هو المرضعة الحقيقية للفنون الدرامية المرئية خاصة، ودائماً نرى أن العمل الذي لا يوجد فيه لمسة أدبية فقير وسطحي». ولا يجد حسن م يوسف في التوجه الجماهيري نحو الدراما انه «يشكل خطورة على الأدب»، بل «يمكن أن يقدم رافداً لمن يبحثون عن الثقافة البديلة، خاصة ان الكتاب ارتفع ثمنه، فالثقافة البديلة تأتي إلى المنزل مجاناً من دون جهد، فتأخذ وقت المشاهد وأحياناً تعطيه شيئاً أو لا تعطي أي شيء، وقد تكون محرضاً على القراءة». علوش يتفق مع حسن م يوسف في نفي قدرة الدراما التلفزيونية على أن «تكون بديلة عن الرواية، لأنها بالأساس مبنية عليها، قد تكون بديلا عن الكتاب من خلال تحويل الكتابة المطبوعة إلى صورة مرئية، فهذا مريح أكثر بالتلقي وأوسع من حيث الانتشار. فالكتاب يقرأه المئات والمسلسل يتابعه الملايين». ولا يرى علوش ان المشكلة في ذلك وإنما «في كون الدراما السائدة الآن هي في أضعف حالاتها الروائية وكتابها هم من الدرجة الثانية أو الثالثة، وبينهم أميون فكرياًَ وثقافياً، لكنهم يمتلكون حرفية السيناريو. ومكمن الخطر في أن يكون هؤلاء الأميون هم من يصنعون ثقافة الأمة ويرسمون أخلاقياتها».

حسن م يوسف وضع واقع الدراما ضمن إطار امتداد الحالة التي نعيشها بعد ثورة المعلومات التي وفرت خيارات واسعة جداً للمتلقي، لذلك طالب العاملين في الدراما بتطويع أدواتهم وتغيير خطابهم ليبقى «جديداً ومثيراً لاهتمام المتلقي»، منبهاً إلى أن ما شاهدناه خلال الموسم الدرامي الحالي «مثير للتفكير ومقلق في نفس الوقت»، كوننا أمام «حالة انصياع الأديب لأوامر السوق»، معتبرا أن هذا يلغي دور الأديب.

ولا يبتعد علوش كثيراً عن هذا الرأي، حيث لا يرى حلا لمشكلة ضعف الدراما طالما أنها «أصبحت سلعة تجارية تخضع للعرض والطلب وسطوة رأس المال، والأخطر هو سلطة رأس المال الخارجي، الذي سيمسك بمفتاح الثقافة وبما يسمح بالتلاعب بالتاريخ المعاصر، وتبييض الصفحات السوداء فيه».

إذا افترضنا ان الدراما التلفزيونية تمكنت من أن تكون ثقافة بديلة للمتلقي، هل تكون كتابة السيناريو بديلا للأديب عن كتابة القصة والرواية؟ خاصة مع تزايد عدد الأدباء الوافدين إلى عالم الكتابة التلفزيونية. عبد القادر عبد اللي بعد ترجمته عشرات الكتب الأدبية التركية يخوض الآن تجربة ترجمة المسلسلات، وبعد مسلسل «نور»، قام بترجمة ثلاثة أعمال أخرى، في طريقها إلى العرض. لا يخفي الرجل خوفه من الانسياق وراء إغراء ترجمة الدراما، ليس لأسباب مادية، فترجمة الكتب بالنسبة له كمترجم معروف أفضل بكثير من أجر ترجمة المسلسلات، لكن تعامل شركات الإنتاج الفني أفضل من تعامل كثير من أصحاب دور النشر. كما أن ترجمة المسلسلات من حيث الجهد المبذول تبدو أسهل، خاصة بعد تجاوز الحلقات العشر الأولى والإمساك بخيوط القصة. ولا يلقي عبد اللي اللوم على التلفزيون إذ سرقه من ترجمة الكتب، لأن الترجمة بالأساس سرقته من الفن التشكيلي، ولو كان مكتفيا مادياً لم يترجم بالأساس.

قمر الزمان علوش الذي كتب العديد من الروايات، لم يسرقه نشاطه الغالب في السيناريو من الأدب، ويقول أن ما يستخدمه في كتابة السيناريو، هو جزء يسير مما يدخره من صور وأفكار وعوالم روائية، والدراما بالنسبة له استراحة من التأمل العميق الذي تحتاجه الرواية، والأهم من ذلك أن الرواية تحقق له عالماً متكاملاً لا حواجز فيه ولا محظورات، حيث يعبر عن أفكاره بطريقة أرحب وبأشكال تتجاوز التقليدي والعادي.

كوليت بهنا لم تعوض كتابة السيناريو اهتمامها بكتابة القصة، فهي تكتب السيناريو لأسباب أولها مادية، وثانيها الشغف برؤية النص متجسداً بصورة مرئية، ومع أنها حولت كثيراً قصصها وأفكارها الأدبية إلى لوحات تلفزيونية، لكنها تقول «ليست كل الأفكار قابلة للتحويل». وفي مقارنة تعقدها بهنا بين كتابة السيناريو وكتابة الأدب تقول «الأدب مشروع شخصي والكاتب سيد نفسه من الغلاف إلى الغلاف، فالذي يقال في الأدب لا يقال في السيناريو».

الحرية كهاجس متجذر في نفس كل مبدع، حيث لا كتابة دون حرية، حقيقية تصطدم دائما مع الواقع المعيشي وما يتطلبه من انحناء أمام المحظورات، تتمثل في إقبال الأدباء على الكتابة التلفزيونية كمصدر رزق أولاً، وكنافذة لنشر ما يتيسر من أفكار، وإن صب ذلك في صالح الارتقاء بالثقافة الجماهيرية التي تفرض نفسها كثقافة بديلة، إلا أنها لا تصب دائما في صالح الثقافة الأصيلة. يقول حسن م يوسف «دخول الأدباء إلى التلفزيون له ايجابيات وسلبيات، فهو جعل للدراما التلفزيونية قيمة ودورا في تنمية الوعي»، ويضيف:«لست ضد ذهاب المبدع إلى التلفزيون، لكن يجب أن يأخذ معه مشروعه لا أن ينصاع للسقف المنخفض».