«ركوب النار» معرض يجسد لحظة سقوط صدام حسين من دون سياسة

فنانو الداخل العراقي يقولون كلمتهم في لندن

لوحة من أعمال الفنان كاظم نوير
TT

افتتح في لندن أخيراً معرض «ركوب النار: الفن التشكيلي العراقي تحت الاحتلال». ويقدّم 42 عملاً لفنانين لم يغادروا العراق، وخمسة أعمال لفنانين اثنين، هاجر أحدهما أخيراً إلى بريطانيا والثاني إلى سورية، وبالتالي يمكن اعتبار اعمالهما ضمن سياق النتاجات الفنية العراقية الداخلية، التي أرادها المنظمون معبرة عن لحظة تاريخية، هي لحظة سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق عام 2003. فكرة المعرض الذي يستمر في «غاليرى أرتيكا» حتى 31 من نوفمبر الحالي، تأخذ إذن في الاعتبار ما يمكن ان يخلفه فنياً، هذا التغيير السياسي الكبير وتداعياته، وتفترض ان الأعمال تحمل ملامح مرحلة جديدة في التاريخ الفني العراقي.

الاعمال تمثل عدداً لا يستهان به من الفنانين، من أكثر من جيل ومدرسة، وتميل عموما الى التجريد المتدرج، وهو أمر ينطبق على الرسم والنحت معاً. هناك التشخيص التصويري (مع احمد نصيف وكاظم نوير وجعفر محمد) واستخدام الاشكال الهندسية والرموز مع بعض التصوير (مع شداد عبد القهار، حسن ابراهيم وفاخر محمد وغيرهم) وصولاً إلى ما يشبه التجريد التام (عند محمد مسير وفي اعمال النحات علي رسن) باستثناء بعض الاعمال التي يمكن وضعها في إطار الواقعية التعبيرية مثل لوحتي علي عبد الجليل «أطفال ونساء» و«زفاف» إضافة إلى بعض المنحوتات التي لا تنزع إلى التجريدية العالية مثل عملي «الحلاج 1 و2» لنجم القيسي و«رجل الاهوار» لعلوان العلوان.

كما ان الأعمال المعروضة تقيم توازناً مهماً بين جناحي الفن العراقي الكبيرين (النحت والرسم) وتسمح بمقاربات حول ما يجمعهما وما يفرقهما.

تميل مواضيع اللوحات إلى العودة للطفولة وذكرياتها، كما في عملي ضياء الخزاعي «ذاكرة طفولية 1 و2» و«طفولة 1 و2» لستار درويش، و«ذاكرة» و«حكاية شعبية» لكاظم نوير، كما يمكن اضافة «ذكريات من الجنوب» و«امرأة جنوبية» لهادي ماهود، و«امرأة وأطفال» و«زفاف» لعلي عبد الجليل إلى هذه القائمة، وصولاً إلى «مدينة من بلادي» و«بغداد» لثامر الخفاجي. فكل هذه العناوين تمتحّ من ذاكرة سابقة على الواقع ويجمعها الموضوع الطفولي والتذكر لأيام ماضية، مع اختلافات تفرضها أساليب الفنانين المشاركين.

يستخدم الخزاعي وكاظم نوير ألوانا زاهية وفاقعة مليئة بالحركة الخطية مع بعض الاشكال التي تحيل بشكل من الاشكال الى الطفولة (الدراجة) في حالة الخزاعي وبالأشكال المتعددة التي تحكي قصصاً أو تحيل إلى واقع فردوسي عجيب في حالة نوير، وباستخدام الأحرف والكلمات العربية لخلق أشكال هندسية وتشكيلية بألوان زاهية بديعة مع ثامر الخفاجي.

تستمر هذه الألوان الحارة مع علي عبد الجليل مع ميل مستمر نحو حالة داكنة وحزينة في تضاد مع عنوان مثل «زفاف» حيث تتفارق الفكرة مع التشخيص واللون نفسه الذي يغالب حرارته ليقع في قتامة مؤلمة، فيما يسحب هادي ماهود الحالة باتجاه غلبة للسواد الذي ينازع الأصفر البرتقالي مكانته ويتناظر معه على تعيين الحالة ومفارقتها، وهي ظاهرة تجتمع عليها الاعمال، بما فيها أكثرها زهاء وطفولية روح وحيوية ألوان.

اما مع جعفر محمد فتنقلب اللوحة الى مأساوية صريحة حيث يتجرّد الكائن إلى خطوط سوداء مرفوعة بقوة غامضة فيما الخطوط تتضارب وتتجمع لتؤلف ما يمكن أن يكون دبابة أو سيارة مفخخة أو موتاً عاماً.

الموضوع الثاني الذي يرخي بظلاله على اللوحات وبعض المنحوتات هو الموضوع التاريخي الميثولوجي منه والذي يستوحي التشكيلات القديمة ورموزها، كما في «رموز سومرية 1 و 2» لشداد عبد القهار، و«رموز بابلية 1 و 2» لفاخر محمد و«طقوس ورموز 1 و 2» لوسام زكو، و«الفينيق» لقاسم سبتي، ويضاف إلى ذلك أعمال نحتية مثل «سيزيف» لطه وهيب و«الحلاج» لرضا فرحان.

لا يسجل الموضوع السياسي حضوراً مباشراً، وحتى الأعمال التي يمكن للمحلل أن ير? علاقة ما لها بالسياسي أو الاجتماعي الراهن (مثل «ذكريات من بغداد» لجعفر محمد، و«كونكريت» لاحمد نصيف و«حوار الكراسي» لجبار عبد الرضا و«حوار» لمنذر علي و«الكرسي») فإنها لا تحيل الى مدلول مباشر، وإنما تحتاج تأويلاً.

«الكرسي» عمل علي رسن يهبط بالكائن الموجود على الكرسي إلى حالة مسخية بحيث لا تعود ملامحه قابلة للتمييز عن معالم الكرسي نفسه، أما «حوار الكراسي» لجبار عبد الرضا فيقدّم ما يشبه لوحتين تزيينيتين بألوان فاقعة التنفّج في تعبير عن الغنى الفاحش فيما تكاد الكراسي المتحاورة تنقلب على بعضها بعضا، في إشارة ربما لتقلّبات الحكام وانقلاباتهم.

وعلى عكس ما يمكن أن يظنه المشاهد من أعمال فنية قادمة من العراق، فإن الكثير منها يحمل طاقة جمالية ولونية عالية مليئة بالأمل (مثل أعمال كاظم نوير وضياء الخزاعي)، وفيما الحرائق تأكل كلام الجرائد الهابط من السماء تجد أطفالا يمرحون ويلعبون (لوحتا ستار درويش «طفولة»)، وحتى الأعمال التي تعارك اليأس قادرة على إعطائنا، بشكل ما، قدرة عالية على الفرح.