ثقافة الصورة في السعودية: الممنوع الاجتماعي والممنوع الرسمي

في مجتمع يستهلك الصورة ويتوجس منها في الوقت نفسه

المصورون السعوديون: تصاريح مؤقتة تحد من حريتهم («الشرق الاوسط»)
TT

على الرغم من القرار الرسمي الصادر عن مجلس الوزراء السعودي بحرية التصوير في الأماكن العامة، وتنظيم عمل المصورين، فإن الفوتوغرافيين السعوديين، ومعهم آلاف الشباب والشابات الذين استهوتهم الكاميرا، ما زالوا يجدون صعوبة في التعبير عن تطلعاتهم بتوثيق المشهد العام، والتقاط الصور، وممارسة فن هواية التصوير في وضح النهار. والسعوديون حسب الإحصاءات، أكثر شعوب الشرق الأوسط امتلاكاً للأجهزة الرقمية، والكاميرات على نحو الخصوص. وتسجل أسواق السعودية فورة في مبيعات الكاميرات وأجهزة الهاتف الجوال الذي يشتمل على كاميرا عالية الدقة للتصوير. وفي الأسبوع الماضي تم انتخاب مجلس إدارة الجمعية السعودية للتصوير الضوئي، وهو المجلس الأول بعد إقرار نظام الجمعية، وجرت انتخابات تم فيها انتخاب 10 أعضاء بينهم امرأتان لعضوية مجلس الإدارة للجمعية الوليدة. إلا أن الفوتوغرافيين السعوديين يرون أن المشكلة التي تحد من تطلعاتهم هي في المقام الأول مشكلة ثقافية، لا ترى في ثقافة الصورة سوى جنوح نحو الفضح وانتهاك الستر، لذلك، فعلى الرغم من أنه لا يخلو بيت من كاميرا رقمية، إلا أن فعل التصوير ما زال مشوباً بالعيب الاجتماعي.

ويزيد الطين بلة، أن وزارة الثقافة والإعلام التي من واجبها توفير مناخ «آمن» للمصورين، تصدر تصاريح مؤقتة تحد من حريتهم وتمنع فعلياً عملهم، أما الجهات الأمنية فهي تتعامل مع الكاميرا «كمخالفة» يستدعي حملها تصريحاً، واستخدامها تصريحاً آخر، وكثيراً ما تعرض مصورون على شاطئ البحر وفي الأماكن الخلوية وفي الطرقات والميادين العامة، إلى توقيف بسبب التقاطهم صوراً لتلك الأماكن.

التحقيق التالي، يسلط الضوء على معاناة المصورين الفوتوغرافيين في السعودية، ويبحث جذور هذه المشكلة.

* الدريعي: «شرهة» وزارة الإعلام

* يقول المصور الفوتوغرافي ورئيس جمعية أصدقاء الضوء هاني الدريعي: «إن رفض ثقافة الصورة لدى المجتمع السعودي وعدم تقبلها، يعودان بالتأكيد إلى صورة نمطية قديمة تكونت على مدى عقود طويلة عن التصوير، رغم أني أجزم أن هناك كنزا هائلا من الصور لدى العامة يوثقون فيه لحظاتهم الخاصة، وجزءا كبيرا من هذه الصور لا يقع تحت بند الخصوصية، ويمكن إطلاع الغير عليه من دون حرج، إلا أن حتى عرضنا للصور يقع ضمن العيب، لأن مجرد عرضها يثبت أننا كنا نرتكب محظوراً».

وهاني الدريعي مصور محترف أسس مجموعة أصدقاء الضوء للتصوير الضوئي ـ المجموعة العربية الأكبر على الإنترنت، التي يتجاوز أعضاؤها 15 ألف مصور حول العالم. ويؤكد الدريعي أنه حتى المصورون الذين تحدوا هذا الحاجز النفسي ما زالوا يخشون شيئا ما، «فصورنا لا تعكس كثيراً طبيعة حياتنا، ونعمد وبتشجيع رسمي إلى تصوير ما لا يعكس هذه الطبيعة، فهناك تراكم من الصور عن التطور العمراني وآخر عن الزهور والبعض الآخر عن الغروب، لكن الجانب الإنساني لا يمثل إلا جزءا صغيرا من هذه الأعمال، ورغم تميز المصور السعودي بشكل كبير، إلا أنه لا يريد تحمل وزر هذا الأمر، ويحيل هذا الموضوع إلى مصور آخر لا نجده بيننا».

ويضيف: «إن الصور نقلت الكثير من معاناة الصامتين، وبوجود الصور انتهت معاناتهم وزالت همومهم، لذلك من المهم أن نعيد النظر في هذا الأمر وأن نجعل للتصوير رسالة أهم من نقل صورة جميلة فقط، فالعالم مليء بالرمادي والأسود، وهو بالتأكيد أهم كثيرا من الأبيض الجميل».

وبالنسبة للدريعي، فإن المصور في السعودية يواجه معضلتين: «الأولى اجتماعية، والثانية أمنية. فالجانب الأمني ـ كما يقول ـ يمثل حاجزاً حقيقياً أمام المصور، ومشكلة «الأمني» ليست بالضرورة رسمية، فالكثير يمارس «سلطات» قهرية لمنع المصور من أداء رسالته، أو حتى مجرد حمل كاميرا، وكثيراً ما تعرض مصورون للمنع حتى على الشواطئ، حيث يصورون غروب الشمس، او انكسار الموج. وقد تم التعامل مع الجانب الرسمي في إطار قانوني ينظم عمل التصوير، وصدر نظام يسمح بالتصوير في الأماكن العامة من مجلس الوزراء، لكن للأسف لم يقرأ هذا النظام إلا المصورون أنفسهم، أما الجهات الأخرى، وبينها الجهات الرسمية، فلم تطبق هذا النظام، كما لم يبلغ رجال الأمن بذلك ليتعاملوا مع المصورين كما يجب».

ويصف الدريعي ترخيص وزارة الإعلام الذي يمنح للمصورين بأنه أشبه بـ(الشرهات)، وهي الهِبات التي تمنح لمحترفي التصوير، ويقول «أسمع عن هذا الترخيص ولا أعرف أين يصدر، وأنظر له شخصيا على أنه «شرهة» يتكرم بها مسؤول إعلامي على مواطن هو في أمس الحاجة إليها». ويضيف: «رغم أن بضاعة وزارة الإعلام هي الصورة، إلا أنها تقنّن التقاطها، ورغم أن هناك تصاريح خاصة لمناسبات خاصة ويحق للوزارة أن تعطيها أو تمنعها حسب ضوابطها الخاصة، إلا أن تصوير البلد لا بد أن يكون مسموحا، بجانبيه المشرق والمظلم، فكثير منا لا يعرف الجوانب المظلمة مع أن تحويلها إلى مشرقة جميلة لا يتطلب إلا صورة فقط، بالإضافة إلى أن حظر التصوير، يمنع ملايين العمال الأجانب الذين يعيشون في السعودية، من إرسال صور لأهلهم عن بلادنا، فبدلا من أن نحول صورهم إلى بطاقات بريدية مجانية لا تكلف وزارة الإعلام فلسا أحمر عن بلدنا، فإننا نمنعهم لينزووا في مكان بعيد عن الحضارة ليصوروا بعضهم بعضا عند سيارة قديمة أو جهاز لامع، كما أننا لن نستطيع أن نجد توثيقا حقيقيا للبلد، فرغم التغييرات الكبيرة التي شهدها أكثر مدن الوطن، إلا أننا لا نرى صورا تمثل مراحل تطور مدينة كالرياض، فإما تجد صورا منذ 70 سنة أو صورا منذ خمس سنوات».

* العنزي: الارتياب من الكاميرا

* أما المصور الفوتوغرافي كريم العنزي، نائب رئيس جمعية «أصدقاء الضوء»، فيقول:«على الرغم من أن التصوير الفوتوغرافي في أوج انتشاره في السعودية، إلا أن ثقافة الصورة ـ على الرغم من أهميتها ـ لا تلاقي الاهتمام، فما زال رجل الشارع البسيط يرتاب من هؤلاء الذين يبحثون عن الجمال وهم يتأبطون «كاميراتهم» ويحملون رسالة لم يستوعبها الكثيرون، فأصبح الارتياب هو الانطباع الأول والمنع هو ردة الفعل التي أصبحت طبيعية للأسف. ويبدو أن الانطباع الذي ارتسم عن الصورة في أذهان الناس كونها أداة لالتقاط الصور ومن ثم استخدامها في الابتزاز أو التشهير أدى إلى تكريس هذه «الفوبيا»، التي يعيشها الكثيرون بمجرد رؤيتهم لأحد المصورين وهو يحمل أدواته».

ويشير العنزي إلى أن المحاذير التي يواجهها المصورون في جزئها الأمني نوع من المحاذير الاجتماعية، فليس هناك عذر لرجال الأمن في منعهم للمصورين من انجاز أعمالهم، خصوصا عندما يكون المصور ملتزما بالتعليمات التي وردت بقرار التصوير في الأماكن العامة الذي لا يعلم عنه الكثير من رجال الأمن، واغلب ردود فعلهم تكون نتيجة اجتهادات شخصية مصدرها رؤية المجتمع للتصوير الفوتوغرافي».

* مصلح جميل: قوة الصورة

* إلى ذلك، يعتقد المصور الفوتوغرافي مصلح جميل، ان المجتمع بشكل عام غير متصالح مع اغلب الفنون الحديثة مثل التصوير والسينما. ويشير إلى أن ذلك انعكس على رؤيتنا لهذه الفنون إما بالتعالي عليها ورفضها أو بتحريمها.

«وقد ولد ذلك ـ كما يضيف ـ مشكلة أكبر وهي تحريم الصورة، وهذا ما حد من انتشار الكاميرا، وجعل فعل التصوير فعلا منبوذاً لدى الكثيرين».

ويستطرد قائلاً: «إن ثقافة المحافظة جعلت المهمة صعبة، وقد يكون الأمر متعلقاً بالصورة الفوتوغرافية ذاتها وليس بأمر آخر لأنها ـ أي الصورة ـ تساهم في نقل الحقيقة، أو، بمعنى آخر، الصورة تفضح وتنقل الحقيقة التي يصعب تكذيبها، ونحن مجتمع ندعي المحافظة، فبالتالي كل ما له علاقة بفعل الفضح أو بالحقيقة التي لا يمكن تكذيبها أمر مزعج وممنوع. ومن جهة أخرى، الصورة وثيقة أيضا وشكل من أشكال التواصل، ونحن مجتمع لم نعِ بعد أهمية توثيق حياتنا اليومية وصراعاتنا مع الحياة ولحظات الفرح والحزن».

ويرى جميل أن الإرث الحضاري الذي تربى عليه جل أبناء المجتمع السعودي لا يقدر كثيرا الفنون البصرية مثلما يقدر الكلمة والقصيدة والحكاية. وساهمت المؤسسة التعليمية في السعودية أيضاً في تكريس النظرة الدونية لهذا النوع من الفنون، فهي لا تقدمه كتخصص في كلياتها وجامعاتها ولا يشار إليه في المناهج الدراسية بأي شكل من الأشكال، ما عدا مناهج هزيلة تدرس لطلاب المعاهد المهنية مع تخصصات الحدادة والكهرباء وغيرهما من التخصصات المهنية التطبيقية، وكأن التصوير هو فعل ميكانيكي فقط.

* أثير السادة: مجتمع يستهلك الصورة ويلعنها

* المصور أثير السادة، يقول: «إن وفرة أجهزة الكاميرات في السوق السعودي واعتباره من أكبر أسواق هذا النوع من الأجهزة في منطقة الشرق الأوسط، نوع من المفارقة ووجه من أوجه المواجهة مع معطيات الحداثة. فالمجتمعات المحافظة لا تدرك ما فعلته الصورة في عالم اليوم من تحولات على مستوى الوسط الثقافي والإعلامي، بل على مستوى الوعي الإنساني بأكمله، فهنا تستقر المواجهة الفكرية، فيما تتحول المسألة اجتماعيا إلى دفاع عن هوس الخصوصية بمعنى التأكيد على مساحة الخاص في مقابل العام، حيث تجعل الصورة من لحظاتنا الخاصة موضوعا متاحا للآخرين، وتجعل منا مادة للنظر».

ويضيف: «المجتمع السعودي لا يتفاعل مع ذلك بمرونة. ستجد حتى الأطفال في أحيان ينظرون إلى الكاميرا بعدم رضا لأنها تتجاوز حدود فضائهم وتخرجهم من دائرة الستر إلى الكشف، فضلا عن بعض المتدينين الذين يرون في الصورة خروجا على قواعد الدين، وينصحون شركات الإعلان والمحلات التجارية بطمس ملامح الوجه».

ويعتبر السادة أن أكثر ما يعيق حرية المصور هو شعوره بغياب القانون الذي يحميه، فالمحاذير كثيرة في كل شيء، لكن أن تبقى في مساحة رمادية لا تعلم فيها أن كان القانون يسمح أو لا يسمح بالتصوير هو ما يجعلك تتردد في إطلاق العنان للصورة في اكتشاف الأشياء من حولك. ويقول إن قانون التصوير في الأماكن العامة الذي جاء بعد محاولات واجتهادات طويلة للهيئة العليا للسياحة، أجاز للمصورين التصوير في المواقع العامة: «هذه المواقع التي لم نعلم بحرمتها إلا بعد القانون»، كما يضيف، ويستدرك: «غير أن القانون لا يبدو ساري المفعول حقيقة، ولن يجد فيه المصور وثيقة تعفيه من مضايقات رجال الأمن في الشوارع، وحرس الحدود عند الشواطئ ورجال الهيئة في الأسواق، ما أراه أن الأمور لم تتبدل كثيرا، فهناك من لا يفرق بين حامل الكاميرا وحامل السلاح أو بينه وبين لصوص النهار!».

ويصف السادة ترخيص وزارة الإعلام بأنه احدى المفارقات، ويقول: «إنه شاهد على عدم جدوى القانون الذي سعت إليه الهيئة العليا للسياحة، ففي مقابل هذا القانون لا تزال وزارة الثقافة تمنح تراخيص مؤقتة ومقننة للتصوير في كل تلك المواقع التي، بحسب قانون الهيئة العليا للسياحة، هي مدرجة ضمن خانة الأماكن العامة المتاحة للتصوير بلا ترخيص، ولا يزال هناك من يطالبك به حتى لو كنت تنوي تصوير قوارب ناعسة عند الشاطئ».

إلا أنه يرى أن المصورين شبوا عن الطوق وأخذوا المبادرة بأنفسهم، وباتوا اليوم أكثر جرأة وأكثر انطلاقا في تعاطيهم مع الحدث اليومي والشأن العام وليسوا بحاجة إلى كل التراخيص، وربما وجدوا في حس المغامرة واحتمالات المواجهة سببا آخر للاهتمام بشأن التصوير الفوتوغرافي، والالتفات إلى حساسية هذه الممارسة الفنية في مجتمع يستهلك الصورة ويلعنها!.

* ماجد الخميس: المطلوب ثقافة الكاميرا

* يقول الفوتوغرافي ماجد الخميس: «لن ينفع أن تكون البلاد مكتنزة بملايين الكاميرات، من دون أن يسبقها إشاعة ثقافة الصورة، وكيفية التعامل معها، سواء أكانت صورة ثابتة، أو متحركة. الصورة في السعودية، أسيء لها كثيراً، وما زالت الإساءة مستمرة، إذ ليس هناك تعليم أكاديمي لهذا الفن الرفيع، وكأنه شعوذة وسحر لا يمكن تدريسه. إضافة إلى ذلك، نجد أن القنوات الفضائية الرسمية في واد آخر، فهي بعيدة عن الاهتمام بتقنيات الصور، كما أن أغلب الصحف المطبوعة تضع المصورين في الدرك الأسفل من الاهتمام، رغم المقولة الشهيرة «الصورة تغني عن ألف كلمة». ويذهب إلى أن الإساءة الأكبر، التي تلقتها ثقافة الصورة، هي ما حدث حين حرم بعض الدعاة والمشايخ، الكثير من الأشياء، ومن ضمنها التصوير والصورة، وهو ما انعكس سلبياً على شغف الناس الفطري بالصورة والألوان، وما زال لذلك التحريم تأثيره في الواقع، رغم أن العديد من الذين حرموه، عدلوا، أخيراً، وتراجعوا، عن تحريمه».

«ومع ذلك ـ يضيف الخميس ـ هناك تحول مشرق في ثقافة الصورة حدث بين الشباب والشابات السعوديين، خلال الستة أعوام الأخيرة، وذلك بسبب دخول (الإنترنت) إلى البيوت، الأمر الذي فتح آفاقا أخرى، وأوجد أعدادا كبيرة من السعوديين الذين يحترفون التصوير، ونال بعضهم جوائز عربية وعالمية، كما أن منتديات التصوير أصبحت تغص بروادها وزوارها، وتم إنشاء العديد من جمعيات التصوير في الآونة الأخيرة، قد يصل عددها إلى 10 جمعيات فوتوغرافية، كما أقيمت المئات من المعارض، وبات هناك تنافس شبه يومي بين المصورين من الشباب والفتيات».