محمود تراوري: ما دام الجمهور يقرأ الروايات السعودية فليس مهما رأي النقاد

القاص والروائي السعودي في حوار مع «الشرق الأوسط» : لقد توارى زمن الملاحم

محمود تراوري
TT

حاول الأديب السعودي محمود تراوري من خلال مجموعة من الإصدارات القصصية والروائية، بينها مجموعة (بيان الرواة في موت ديما) الصادرة عام 1993، و(ريش الحمام) في 1997، و رواية (ميمونة) في 2002، أن يفتح نافذة على التراث الحجازي غربي البلاد. لكنه يقول انه لم ينجح بعد في نقل تفاصيل هذه البيئة الحجازية، وما زال يطمح لذلك. هنا حوار معه:

> هل يمكن القول إنك استطعت أن تنقل إلى القارئ البيئة الحجازية بتفاصيلها الثرية وفضاءاتها المفتوحة؟

- لا، لم أستطع بعد. إنما هو حلم وطموح مشروع، اسأل الله أن يهيئ ظروفا للإتيان بفعل كهذا أراه واجبا عليّ، بل هو خزيني الذي أمتح منه، على نحو ما فعلت به الروائية الكبيرة رجاء عالم، خاصة في ما يتعلق بالجانب اللامرئي أو المستتر وهو عوالم النساء، الذي قاربته رجاء عالم بجمال في أعمالها. فالبيئة الحجازية، كذاكرة، شديدة الثراء.

> في مجمل نتاجك الأدبي والصحافي ثمة شغف واهتمام بالمجتمع المكي من حيث التاريخ والعادات والتفاصيل الشعبية والحكايا.. حدثنا عن هذه التجربة؟

- أنا لم أنجز شيئا كثيرا أو مهما حتى الآن في إطار الرؤية التي تقول بها، من منطلقات كثيرة أولها الثراء الشديد الذي عليه هذا المجتمع (الكوزموبولاتي).. ذي العمق الحضاري والبعد التاريخي المهيب. في أعمالي البسيطة شيء من هذا الهيام ولكن لا أميل إلى أنه يسيطر ذلك علي، لأنني حريص كل الحرص في كتاباتي على ألا أبدو كمن ينتحب، أو يعيد ما أعتبره حالة كئيبة في الأدب العربي وهي (الوقوف على الأطلال). صحيح أن المجتمع المكي الآن تبدل، واختفت شخصية المدينة شكلا وانثروبولوجيا بل وحتى طبوغرافيا إن شئت، مما يوفر لأجيال ما قبل التحديث والتبدل فرصة هائلة للحرقة على المندثر من واقع أننا مجتمعات عاطفية تبالغ في تمجيد الماضي ولعن الحاضر. لا أزعم هنا أني أختلف عن هذه العقلية، فأنا أيضاً أتحسر على فقدان الجماليات والأشياء الحميمة، ولكني في الوقت نفسه لا أذم الحاضر والتحديث.. أنتقد بعض مظاهره وإفرازاته على الصعيد الاجتماعي والسلوكيات، ولكن لن أتغافل عن حتمية التبدل والتحديث. وكل هذا لا يمنحني الحق في أن أكتب أدبا يتوجع وينتحب وهو واقف على الاطلال.

> تذكر عوالم النساء.. كيف تنظر لتجربة المرأة السعودية في كتابة الرواية في هذا السياق، خاصة أن الكل يعرف أنك أسهمت في تقديم أكثر من موهبة نسائية وفي المقدمة الكاتبة ليلى الجهني؟

- بالنسبة لي، أرى أن رجاء عالم تختلف عن كل الروائيات السعوديات من حيث أن لديها مشروعا ابداعيا، واضحا تشتغل عليه، وتعمقه في كل عمل لها بشكل تراكمي، عكس بقية الكاتبات اللواتي مازلن أسرى الابداع النمطي المقولب في هموم الأنثى، وليس المرأة، فقط، إنما أصرّ على أنها هموم أنثوية بحتة، والتعاطي مع الابداع بهذه الرؤية الانثوية الضيقة يقتل الموهبة، ويجعل الجانب الابداعي ضيقا وربما محصورا في احلام ذاتية محضة، وهذا ما نأت عنه رجاء عالم باقتدار، لتعيد صوغ حياة ومدن وعوالم تضج بالانساني الواسع والعريض والعميق في ذات الوقت.

> هل يمكن اعتبار (ميمونة) ملحمة بشكل ما؟ بمعنى أنك تعلن فيها حضورك الروائي وتسجل من خلالها ما لم تقله في غيرها؟

- لقد توارى زمن الملاحم. «ميمونة» صرخة صغيرة خجولة في برية شديدة التعقيد. أما الملحمة بمفهومها الكلاسيكي، فلا أعتقد أنها تتناسب والعصر الذي نعيش فيه.

> هناك من يقول إن «ميمونة» عبارة عن توثيق تاريخي للأشخاص والأمكنة والأحداث أيضا، إلى أي حد يجد محمود تراوري نفسه في تقنية التوثيق «الإبداعي»؟

- قد يبدو هنا مفهوم (تقنية التوثيق الإبداعي) غير محدد الملامح، لكن إجمالا أنا ممن يميلون إلى أهمية (التوثيق الإبداعي) سواء بواسطة الصورة، أو الكلمة، لكن دون الخروج الفج أو المدعي عن أطر الشرط الفني. وأظن أن واحدة من أهم مآزقنا الوجودية في المجتمع السعودي تقصيرنا كثيرا في عملية التوثيق، حتى غدونا عند الأجيال الجديدة مشوهي الهوية، تشويها يصل حد الاضطراب والفقد عند نسبة ليست ضئيلة من الأجيال. لو كان للتوثيق حضور وفعل في مجتمعنا لما ابتلينا بسلوكيات مزعجة ما كان يعرفها المجتمع قبل ثلاثين عاما، أو لم تكن حاضرة بهذا الفحش وفي مقدمتها العنصرية، والتناحر وفق هذه المنطق البائس عبر مختلف صيغه، سواء عرقية أو مناطقية أو مذهبية.

(>) قيل إن المؤرخ ما هو إلا روائي فاشل، لكن ألا يمكن القول ـ ارتكازا على «ميمونة» ـ بأن الروائي يمكن أن يكون مؤرخا ناجحا؟.

- أتذكر الآن مقولة أن «الرواية تقول ما لم يقله التاريخ». وبالقياس يمكنك أن تذهب إلى «ميمونة» على جناح هذه المقولة، لكن دون أن تعتبرني مؤرخا في «ميمونة» فهناك فارق واحد فاصل بين العالمين: التاريخ معني بالمعلومة والاقتراب من الحقيقة إلى أقصى الممكن، بينما الرواية تحتفل بالروح والفن أكثر. التاريخ يكتبه المنتصرون دائما، بينما الرواية يكتبها الحالمون بقيم الإنسان ونبل الحياة وعدالتها. التاريخ يستر ويداري وربما يداهن، بينما الرواية لا ترض بغير الكشف.

> بدأت قاصاً وكتبت أعمالاً مسرحية وكثير من نصوصك تتقاطع مع الشعر.. والآن تتجه للرواية، كيف تفسر ذلك؟

- أنا كرجل يحاول أن يكون مبدعا. والمسألة في ظني مجرد تعبير صحافي يتماهى مع ثقافة الموضة، فكما هناك موضة في العوالم الاستهلاكية من سيارات وجوالات وحلي نسائية وعلى نفس النسق ظهرت بعض التعبيرات وبعض الجمل والكلمات، لتكون بمثابة موضة (تعبيريا) في المشهد الثقافي. فإضافة إلى (الرواية ديوان العرب الآن) خذ – مثلا – (نحن والعولمة.. كيف نواجه العولمة؟) (قصيدة النثر إلى أين) (الشعر الشعبي أمات الشعر الفصيح) (الحداثة وأخطارها)، (الغزو الفكري وكيف نواجهه) (خطر الفضائيات على الأسرة) وهكذا نبقى أمة خائفة أبدا من كل شيء، أمة خاملة غير منتجة إلاّ للخوف والرهاب، عالة على الأمم التي تفرغت للتفكير والإنتاج وعمارة الأرض، وانتظر ريثما تستوي موضة (الجندر) التي لم تتسع للآن في ساحتنا وسترى.

> لماذا تعرف الرواية السعودية ازدهاراً في المبيعات، بينما يجري تجاهلها وتهميشها في الدراسات النقدية؟.

- والله ما دام الإقبال عليها كبيرا فليذهب النقاد (المزعومون) إلى الجحيم. جميل أن يتلقى القراء الكتاب بطريقتهم بعيدا عن دجل وزيف بعض النقاد، الذين قد يفسد الكتاب الناجح ذائقتهم، وربما يكبلها. الكاتب الواثق في ما يكتب لا يكترث بالنقاد كثيرا. رجاء لا أريد أن تقدمني هنا كمن يستجدي أو ينوح عند أبواب النقاد على نحو ما يشغل تفكير بعض أصدقائي الكتاب، ولهم أقول: بهجتكم تلقونها عند القارئ العادي، اهرعوا اليه ودعوا الناقد يعود إلى مدرجه إن كان أكاديميا.

> كيف تنظر إلى دعوة البعض إلى ملاحقة ومصادرة اعمال روائية أو المطالبة بمنعها؟

- بعيدا عن الأسماء، تظل هذه واحدة من أوجاعنا الثقافية، وعلينا هنا أن نسائل العقل العربي. فنحن مجتمعات تستهويها ثقافة الفضيحة.. لسنا مجتمعات تبحث عن المعرفة أو تنتجها.

فكرت في هذا إبان الصراخ غير العقلاني حول «وليمة لأعشاب البحر» يومها كنا نضحك حزنا أنا وبعض الأصدقاء لأننا كنا معا قد قرأنا تلك الرواية قبل سنوات طويلة ونحن طلبة في الجامعة. وتساءلنا يوم علا الصراخ: ولم الآن فقط الكل يريد أن يقرأ هذه الرواية؟!ولعل من أبرز سلبيات هذا السلوك الثقافي الذي لا يعرفه العالم غيرنا نحن العرب، هو ما يتسلل إلى لا وعي بعض الكتاب خاصة الجدد بأن طريق الشهرة والحضور هو التعرض للتابوهات العربية، حتى وان غيبنا الفن نهائيا وأنتجنا أعمالا لا تحمل رؤية. وتبدو الكارثة أشد حينما يدخل في النقاش من لا ناقة له ولا جمل من المزايدين والانتهازيين والأفاقين. نحن مجتمعات مفقرة من بديهيات مفاهيم الفن وثقافة السؤال والتفكير، أكثرنا يرهن عقله لسواه ليفكر عنه ويقرر عنه أحيانا. وعندما يهم العقلاء لقول شيء يرهبونهم بالكلمات ويستعدون المجتمع عليهم مستغلين المشاعر الدينية للناس.