مصطفى كمال أتاتورك يفجر أزمة في تركيا

فيلم يتسبب في تصفية حسابات بين العلمانيين والإسلاميين

TT

بعد 70 سنة على وفاته لم يتحول مصطفى كمال أتاتورك إلى جزء من التاريخ الماضي بعد، فهو عند كل منعطف يعاد استذكاره لنراه في صلب النقاشات التي تعالج حاضر تركيا ومستقبلها. هذه المرة مجرد فيلم وثائقي عن أتاتورك، كان كفيلا بأن يشعل الجدل ويعيد المتاريس بين المتشددين العلمانيين والإسلاميين. فمن هو أتاتورك بالنسبة للأتراك اليوم؟ وما هي دلالات استذكار رمز العلمانية في بلد حكم العالم الإسلامي؟

أراد أحد الشبان الأتراك العاطلين عن العمل لفت الأنظار إلى حالته، فاشترى مسدساً وتوجه إلى أقرب هيكل لأتاتورك في المدينة، مصوباً السلاح نحوه ومهدداً بإطلاق النار. طوقت الشرطة المكان، وبعد ساعات من المحاولات نجحت في إقناعه بالعدول عن فعلته هذه. في اليوم التالي يقصد الشاب نفسه المكان ليضع إكليلا من الورد أمام الهيكل مبدياً أسفه واعتذاره.

نقابات العمال التركية، من ناحيتها، عندما تشعر أنها وصلت في مفاوضاتها مع الحكومة لتحقيق مطالبها إلى الطريق المسدود، تقصد ضريح أتاتورك في أنقرة لتقدم شكواها هناك. وهو ما يترك المسؤولين عرضة لانتقادات لاذعة، بسبب إيصالهم الأمور إلى هذا الحد. هكذا ينظر الأتراك اليوم إلى أتاتورك، مؤسس الدولة الحديثة ودوره وموقعه، كمنقذ وملجأ دائم رغم مرور عشرات السنين على وفاته.

«مصطفى» هو عنوان الفيلم السينمائي الوثائقي الذي اختاره الإعلامي التركي الناجح جان دوندار، لتقديم جوانب جديدة، غير معروفة لدى الكثيرين من الاتراك، حول حياة أتاتورك، ففجر أزمة سياسية ثقافية داخلية، لا يعرف أحد أين ستتوقف، وكيف ستنتهي؟

فيلم وثائقي استغرق العمل عليه 9 اشهر كاملة، أوجزت في ساعتين. وكان حفل العرض الأول في 29 من الشهر المنصرم، وهو تاريخ إعلان الجمهورية في تركيا. مشاهد الفيلم صورت بين أنقرة واسطنبول وسيلانيك اليونانية. أخرج هذا الفيلم وأشرف عليه دوندار إلى جانب نخبة من الفنانين الشباب، شاركهم الموسيقي لغوران بريغوفيتش بموازنة تزيد عن المليون يورو قدمتها أسرة صابانجي المعروفة بغناها وامتلاكها لأهم المؤسسات والشركات التجارية والتعليمية في تركيا والتي أعلنت أنها غير نادمة على دعم مثل هذا المشروع.

المنتقدون يصرّون على أن المشرفين على الفيلم تعمدوا إبراز نقاط ضعف أتاتورك والجوانب السلبية في حياته، فيما هم اختصروا وأوجزوا في تقديم النواحي الإيجابية البطولية المؤثرة في مواقفه الشخصية والقومية. تحريفات كثيرة في حياة أتاتورك لم تبق لنا منه اي شيء. الغاية كانت تحويل أتاتورك الى «مصطفى» بصورة مفتعلة مقصودة مدروسة من الداخل والخارج.

«صفعة من معلم المدرسة الابتدائية وتتغير حياة أتاتورك ويقرر التوجه إلى المدرسة الحربية» التي كان اختيارها، كما يلمح المخرج انتقاماً من مدارس ذلك الوقت.

النقمة لها علاقة مباشرة طبعا بتصفية الحسابات السياسية التي لم تحسم بين العلمانيين المتشددين وحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي دخل الكثير من القلاع، وكان آخرها قلعة رئاسة الجمهورية مع عبد الله غل وزوجته المحجبة.

الاكاديمي المعروف يشار نوري اوز تورك هو بين المنتقدين الذين يرون أن دوندار أصر على تقديم أتاتورك وحيداً منزوياً منعزلاً، مدمنا على التدخين وشرب الكحول وعاشقاً دائماً يتجنب النوم في العتمة. دوندار اختار تقديم السنوات الأخيرة من حياة أتاتورك، مركزاً على النواحي الشخصية، محاولاً إبراز جوانب التردد والخوف والقلق والحزن، متجاهلاً حروب الاستقلال والتضحيات والمواقف البطولية الشجاعة التي قادت إلى إعلان الجمهورية.

«عام 1930 استدعاه صديقه فتحي اوكيار وسأله: ماذا يقولون بشأننا في الخارج.. لا معارضة سياسية، حزب واحد، شخص واحد يقود البلاد. علينا ان نفعل شيئاً، ستقود أنت حزباً للمعارضة، وهكذا نصبح نظام الحزبين».

أكاديميان تركيان قدما بالأمس القريب رسالة شكوى إلى مدعي عام اسطنبول، يطالبونه بالتدخل المباشر لوقف عرض هذا الفيلم ومعاقبة مخرجه دوندار، أولاً، لأنه يطال من سمعة أتاتورك، وثانياً، لانه قدمه على أنه مدمن شرس على شرب السجائر، محاولاً بذلك استخدام اسم أتاتورك للترويج لهذه المادة، رغم كل قوانين حظر الدعاية للتدخين في الاعلام والصحافة.

المدارس الابتدائية التي كانت تتسابق على حمل صغارها لمشاهدة هذا النوع من الأفلام مترددة هذه المرة، وهي تنتظر ان تحسم المعركة لتعطي قرارها على ضوء ذلك.

فيلم تتجنب أهم الوزارات الاقتراب منه، فهو قد يتحول في أية لحظة إلى حبات كستناء ساخنة تحرق الأصابع، ولا أحد من قيادات العدالة والتنمية يريد التضحية ودخول هذه المغامرة، على مرأى ومسمع المدعي التركي العام والمحكمة الدستورية التي ترصد كل شاردة وواردة.

الإعلامي مصطفى اوزديل المنتقد هو الآخر يقول: ذهبت ورأيت ولم يخبرني احد.. رأيت مصطفى المدمن على الخمر الذي تنهمر دموعه كلما سكر. البارد بلا روح بلا قلب. الشخصية التي يهمها التعرض لمحيطها وتهديد كل من يعصي الأوامر. المتخلي عن أصدقائه في أحلك الظروف، فاتح قلب النساء والمحب لحياة اللهو والتسلية. الفيلم يستحق جائزة حتماً، أقلها ان تكون نوبل مثلاً، وهو يغمز من قناة الكاتب أورهان باموك.

الابنة المعنوية لأتاتورك اولكو اده تابه، قالت:«ان مدخل الفيلم كان جيداً، لكن القسم الثاني منه لم يعجبها، إذ أظهر أتاتورك وكأنه عاجز لا يستطيع فعل أي شيء، بينما الحقيقة هي غير ذلك. أتاتورك حتى في سنواته الأخيرة كان سعيداً يقرأ ويكتب ويواصل ثورته وإصلاحاته».

الإعلامي الليبرالي إحسان داغي يقول «ان دنيز بيقال زعيم حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الذي أسسه أتاتورك هو الذي أعطى إشارة إعلان الحرب على مخرج الفيلم دوندار الذي نعت بأكثر من صفة وتعرض لأكثر من هجوم وحملة كان بينها وصفه برجل أميركا وأحد أنصار الجمهورية الثانية». وهي التسمية التي تطلق على مجموعة من المفكرين والإعلاميين الأتراك التي تدعو لقراءة اكثر واقعية وعملية في التعامل مع الفكر الأتاتوركي في البلاد.

«مشكلة دوندار هي أنه اخرج أتاتورك من الصورة الرسمية الكلاسيكية المعروفة التي تم تبنيها ويجري الاعتراف بها والتعامل معها ووضعه في قالب جديد فاجأ الكثيرين، خصوصا جناح العلمانيين المتشددين كونه أقحم أتاتورك في عالم واقعي آخر، يقولون انه ينال مباشرة من شخصية الرجل الرمز والقائد وحولها إلى شخصية رجل عادي. ويكفي ان نقول انه جعل منه «مصطفى» دون اي تردد».

قائد الجيش الاسبق يشار بيوك انيت قال انه «من المستحيل ان نحصر حياة أتاتورك في فيلم وثائقي، يعرض لمدة ساعتين لكن حسب الطاقات والامكانات المتوفرة هو فيلم ارشيفي جيد».

عايشة أرمان، الاعلامية التي حاورت دوندار مطولاً حول فيلمه استغربت أن يحظى مثل هذا الفيلم العادي جداً بكل هذا الضجيج، وهذه الاثارة التي لا يستحقها. هل يضحك دوندار في سره، لأنه نجح في تفجير كل هذا السجال السياسي الإعلامي الفكري بين الأتراك ودفعهم مجدداً إلى الاصطفاف وراء المتاريس والخنادق الدائمة الجهوزية، للاستخدام عند أبسط خضة من هذا النوع؟ وهي خضات عاشتها تركيا في السنوات الاخيرة على المستويات الامنية والسياسية والثقافية.

خطأ دوندار هو انه بالغ في عملية عزل أتاتورك عن محيطه التاريخي والسياسي القائم وقتها، وقدم لنا صورة منسلخة عن الواقع المحيط.

رئيس حزب «الديمقراطية والحرية» افق اوراس قال انه فيلم غني بالعبر والدروس فيما وصفه الصحافي غوناري جيفا اوغلو انه يستحق ان يحمل إلى العالمية.

جان دوندار يعرف تماماً انه تجاوز حدود الخط الاحمر واقترب من موضوع يعتبر من المسائل الحساسة في تركيا. ومع ذلك فالمدافعون عن فيلمه هذا يصرون على ان كفة دوندار هي التي سترجح عنما يحاول البعض وزن ثقل المحبة التي يكنها المخرج لمصطفى كمال بالمقارنة مع الكثير من المتهجمين والناقمين.

أصحاب الأقلام والمواقف الداعمة لدوندار يصرون على أنه ساهم في فتح علبة الباندورا التي نجح البعض في إخفائها وإحكام إغلاقها لحقبة طويلة من السنين، وأنه لم يعد بعد الآن ممكناً إغلاق هذه العلبة التي سقطت على الارض، وتحطمت وتبعثرت محتوياتها التي ستتسبب في مواجهة مفتوحة بين العلمانيين والأتاتوركيين المتشددين والليبراليين الذين اخذوا يتحصنون وراء قلاع قدمها الاتحاد الاوروبي على طريق العضوية الكاملة لتركيا. وقد حاول دوندار الدفاع عن نفسه وقال «أنا وحدي أتحمل مسؤولية اختيار النص والمشاهد والحبكة السينمائية، هكذا رأيت أتاتورك، وهكذا أردت تقديمه من خلال ما وصلت اليه من وثائق ومعلومات. هم لا يفعلون أي شيء، كل همهم هو انتقادنا عندما نقوم بعمل ما، فليتفضلوا هم لإنجاز ما يستحق ان نكتب عنه».

دوندار الإعلامي المتواضع المحترف الذي عرف بمصداقيته ورصانته المهنية هو حقا وسط حقل من الالغام، لا يعرف أحد كيف سينجو منه هذه المرة. هل سيغفر له إشرافه على الكثير من الافلام الوثائقية التلفزيونية الناجحة والتي احتل صدارتها فيلم «صاري زيبك» الذي يوجز حياة أتاتورك بشكل واسلوب مختلفين تماما؟

انتهى الفيلم، أشعلت الأضواء، تلفت الجميع من حولهم بصمت، بتعجب واندهاش، وبدل ان يكون السؤال، هل أعجبك الفيلم ام لا؟ برز سؤال آخر إلى العلن: هل أنت مع الفيلم أم ضده؟