كيف أدار الصليبيون مملكة بيت المقدس؟

دراسة سعودية تتناول تنظيماتهم الدستورية والإدارية والاقتصادية والقضائية والعسكرية

TT

يمكن الحكم على أية دولة، قوة وضعفاً، من خلال قياس قوة أو ضعف تنظيماتها المختلفة التي تمكنها من إدارة أهدافها ومسيرتها وطموحاتها كذلك، كالتنظيمات الدستورية والإدارية والاقتصادية والقضائية والعسكرية. من هنا تجيء أهمية دراسة الدكتورة موضي بنت عبد الله السرحان «تنظيمات الصليبيين في مملكة بيت المقدس» بالنظر إلى ما أبرزته من أسس وما انتهت إليه من نتائج، ومما أعطى لهذا العمل عمقاً علمياً حقيقياً أنه كان موضوع رسالتها للحصول على درجة الدكتوراه، كما ظهر تميز المؤلفة بقدرات تحليلية علمية توحي بالثقة في ما توصلت إليه من نتائج من خلال اعتمادها على ثلاثة أنواع مصدرية، المصدر الأول: المصادر العربية التي عاصرت الإطار الزمني للدراسة فحفلت بمعلومات غزيرة أثرت البحث كماً ونوعاً ولا سيما كتاب (الاعتبار) لأسامة بن منقذ المعاصر للأحداث، والمصدر الثاني: المصادر الأجنبية مثل كتاب (أعمال الفرنجة حجاج بيت المقدس) لفوشيه الشارتري لقربه من الأحداث حتى اصبح شاهد عيان لما دونه في كتابه، ومثله ريموند آجيل في كتابه (تاريخ الفرنجة غزاة بيت المقدس). وبتخصص أدق يعد كتاب (تشريعات مملكة بيت المقدس) لجون أبلين ورفاقه مصدراً دستورياً مهماً في هذا الموضوع والمصدر الثالث: المراجع العربية والأجنبية والمعربة التي تناولت تأريخ الحروب الصليبية وكانت ضرورية لإبراز المظاهر الحضارية لمملكة بيت المقدس.

حددت الباحثة الإطار الزمني للدراسة في المدة من 1099 ـ 1291، كما ركزت على الجانب التأثيري لهذه التنظيمات في أوضاع مملكة بيت المقدس في عموم الشام، مشيرة إلى ولادة مملكة بيت المقدس في أحضان الحملة الصليبية الأولى عام 1099، مما يمكن معه وصف هذه الدراسة بأنها متميزة في موضوعها الذي عرضته المؤلفة من خلال تمهيد وأربعة فصول، حيث تناولت في التمهيد بداية الحركة الصليبية مؤكدة على أن مملكة بيت المقدس صورة من صور النظام الإقطاعي الأوروبي ثم أوضحت حدودها السياسية وأهم مواردها، ثم خصصت الفصل الأول للحديث عن تنظيمات الحكم والإدارة مشيرة إلى منصب الملك والوصي والنائب، وإلى المحكمة العليا الإدارية المسؤولة عن التشريع والتنفيذ وإلى الإدارة المحلية في الاقطاعات التابعة للدولة وموردة الآثار الإيجابية والسلبية لكل عنصر من هذه العناصر في كيان مملكة بيت المقدس وفي الترتيبات الإدارية للدولة. وفي الفصل الثاني تناولت المؤلفة التنظيم القضائي مشيرة إلى المحاكم في مملكة بيت المقدس، وهي المحكمة العليا والمحاكم البرجوازية والإقطاعية والوطنية والتجارية والكنسية منوهة بدرجة التقاضي في كل محكمة ومدى حجية أحكامها وحرية التقاضي إليها وأثر ذلك في بناء الدولة.

وكان التنظيم الاقتصادي والمالي تحديداً محور الفصل الثالث الذي عالج وضع الإدارة المالية وعملة الدولة وإيراداتها الثابتة وغير الثابتة والنظام الضريبي وميزانية التشكيلات العسكرية وقوى الأمن الداخلي والمصروفات الإدارية والمصروفات الشخصية للقيادة السياسية.

وحظي التنظيم العسكري بتركيز تحليلي وافٍ من الباحثة في الفصل الرابع لا سيما أهمية القيادة العسكرية في حفظ كيان الدولة ومظاهر التخطيط الاستراتيجي للحملات العسكرية من حيث تحديد الأهداف وترتيبات إقامة المعسكرات والتموين العسكري وأساليب القتال وأنواع التسليح الهجومي والدفاعي والمساندة البحرية والمدن التجارية، موضحةً تشكيل عناصر الجيش وتجهيزات كل عنصر وأثره الحربي والسياسي والاقتصادي، كما أشارت الباحثة إلى إتقان جيش مملكة بيت المقدس فن التجسس هجوماً ومكافحة ونوهت الدراسة بشكل خاص إلى حرص الصليبيين على الوضع الأخلاقي داخل معسكراتهم.

وأظهرت الدراسة أيضاً حرص تنظيمات مملكة بيت المقدس على توفير الحوافز المادية والمعنوية من أجل استقطاب الجهود البشرية، حيث كان نظام التعويض عن الخيول المصابة في المعارك أو استبدالها حافزاً للإقبال على المشاركة الحربية من الأفراد القادرين لما يوفره لهم هذا النظام من الأمن الاقتصادي وهو ما أوضحته المؤلفة عند حديثها عن الأسلحة وآلات الحصار وأثرها.

وتعد ثقافة التسليح صورة أخرى مما تميزت به هذه الدراسة التي القت الضوء على تطور هذه الثقافة في تنظيمات مملكة بيت المقدس لا سيما ما يتعلق منها بلباس الفارس الصليبي للسترات الواقية وما توفره من حماية شاملة له أثناء المعارك.

وفي نهاية الكتاب ألحقت المؤلفة اثني عشر ملحقاً من الوثائق المتعلقة بتنظيمات مملكة بيت المقدس مع ترجمتها باللغة العربية.

* عضو الجمعية العلمية السعودية للدراسات الدعوية

[email protected]