حرب باردة جديدة؟

التطورات التي طرأت على روسيا منذ سقوط الدولة السوفياتية

TT

هذا الكتاب، «الحرب الباردة الجديدة»، لأدوارد لوكاس، يمكن أن يقرأ كما لو أنها عودة إلى مرحلة أمل الناس بأنها مرّت بسلام وسوف لن تعود ثانية، وهي مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية والمعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي السابق.

المؤلف، وهو صحافي بريطاني خبير بالشؤون الروسية ويرسل تقاريره حول شرق ووسط شرق أوروبا، حينما كانت الكتلة الشرقية آخذة بالتفكك، يسخّر نصف مادة كتابه حول التطورات التي طرأت على روسيا منذ سقوط الدولة السوفيتية، والنصف الآخر على موضوع اندلاع حرب باردة جديدة، تختلف هذه المرّة في مضامينها عن الحرب الباردة القديمة التي كانت قد شبت بين الإتحاد السوفيتي والغرب.

يعتقد المؤلف بأن انتخابات بوتين الرئاسية عام 2000 و2004، وانتخاب ديمتري مدفيديف رئيساً في الآونة الأخيرة، لم تكن سوى «مسرحيات هزلية»: المرشحون الذين وقفوا أمام مرشحي الكرملن تمّ «تشويه سمعتهم بشكل روتيني، أو أن أسماءهم لم تكن توضع على لوائح الاقتراع السري. وعلى الصعيد الخارجي، نادراً ما كان بوتين يسعى إلى تجميل صورته المشوّهة لدى الغرب، حيث دائماً ما كان يهاجم الساسة الغربيين لتدخلهم في شؤون روسيا وشرق أوروبا. أسعار الطاقة فرضت على أوكرانيا ورفعت، حينما بدأت كييف تتحدى سيطرة الروس، كما وأن أغلب التكهنات تشير إلى أن روسيا ستستمر في استخدام مواردها الطبيعية كأداة لزيادة تأثيرها على الغرب».

هكذا يرسم المؤلف صورته عن روسيا ويؤكد أن المشاكل كانت قائمة منذ البداية لمواجهة هذه التحديات الآتية من روسيا، إلا إنه يقرّ بأن العلاقة بين روسيا والغرب لم تعد كما كانت في السابق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية التي اتّسمت منذ الأربعينات من القرن الماضي وحتى الثمانينات منه بالتأزّم والتوتر الشديدين. أما الآن فإن الكرملن لم يعد ينشر أيديولوجيته التي كانت تتبناها أقطار تغطي ربع الكرة الأرضية، والدولة الروسية لم تعد تحكم إمبراطورية خارج حدودها، والصدامات الدولية مثل الأزمة الكوبيّة التي تفجّرت عام 1962، ليست محتملة الحدوث اليوم. المؤلف يسلّم بكل ذلك، لكنه، في الوقت نفسه يؤكّد على مصطلح الحرب الباردة الجديدة على ضوء أحداث الماضي وازدياد التوترات في الوقت الراهن. ومن المعروف ان السلطات الروسية لها مصلحة حيوية في الحفاظ على اتفاق مقبول مع دول الاتحاد الأوروبي، فتصدير الغاز والبترول لهو شيء أساسي بالنسبة للقدرة الاقتصادية الروسية، والأوروبيون يعتبرون زبائن يعتمد عليهم الروس، إذ إنهم يدفعون في الوقت المحدد وبشكل كامل. ويقول لوكاس بأن لندن تشكل مركز جذب كبيرا للروس بسبب أنظمتها المالية التي تمتلك حرية أكبر من تلك التي تمتلكها نيويورك. لذا فان السبب الرئيس في هجوم الروس المالي على لندن هو سمعة التسهيلات المالية الإنجليزية. وهنا ينبّه الكاتب على عدم إغفال سلطة الكرملن الآخذة بالتوسّع. فخلال السنوات القليلة المنصرمة استطاعت روسيا السيطرة على تجهيزات الطاقة المستقبلية في بريطانيا، وهذا لم يتم بسبب جلوس روسيا على احتياطي هائل من البترول والغاز، وإنما لاستغلالها هذه الهيمنة على التجهيزات من أجل تحقيق السيطرة على عملية التسويق في الأسواق البريطانية الحرّة وشراء الحصص من شركات الطاقة عبر أوروبا. هذه الهيمنة الروسية نمت وتركّزت مع الارتفاع الهائل لأسعار البترول والغاز خلال الأشهر القليلة الماضية. وبالذات. فخلال فترة رئاسة بوتين، كان هناك ارتفاع في أسعار السوق العالمية للغاز والبترول. ومثل بريجينيف عام 1973، ولكن عكس غورباشيف في منتصف الثمانينات، حالف الحظ بوتين كثيراً، فقد تجاوز العجز الكبير الذي كان مخيماً في عهد يلتسين، وأصبح ارتفاع البترول والغاز يصبّ في صالح بوتين الذي أمكنه أن يستخدمه لتغيير الطريقة التي ينظر بها الروس إلى أنفسهم. ولكن ضمن هذا الاستخدام تمّ «اقتلاع كل جذر أخضر من جذور المجتمع المتفتّح والعودة إلى المبادئ السوفيتية القديمة». مثل هذه العودة تشكّل أمراً جديّاً، كما يرى المؤلف «خاصة حينما يتم إسكات الأصوات التي لا يرتاح لها النظام، بشكل منتظم، مثلما حدث في اغتيال الكاتبة والصحافية، أنا بوليتكوفسكايا. أما حادث تفجير مجموعة من الشقق في موسكو من قبل البوليس السري الروسي عام 1999، وقتل المئات من الناس وذلك لشن الحرب وإحكام السيطرة على الشيشان ودعم سلطة بوتين، فقد أصبحت حقائق قابلة للتصديق». من هنا يرى العديد من الروس الآن إلى «ديمقراطية بوتين المهيمنة» على أنها عودة بالبلد إلى تقاليد حكم الدولة المطلق.

يتتبع المؤلف كيفية تمركز السلطة في يد بوتين من أجل احتكار سياسة الطاقة الروسية واستخدام هذه السلطة كسلاح قومي خطير ضد الجيران القريبين مثل جورجيا وأوكرانيا، وربما على المدى البعيد «يمكن استخدامه لابتزاز الاتحاد الأوروبي». لوكاس يعتبر كل هذا «الاقتصاد اللصوصي» الروسي ما كان ينتعش لولا وجود قاعدة قانونية له وموقع فعّال لتنميته. بعالم «يتضوّر جوعاً للطاقة» وصديق جديد هو الصين، وانفجار اقتصادي، تجد روسيا نفسها آمنة «للاستمرار في حربها لفترة زمنية أخرى. إنها ليست حرب آيديولوجية، وإنما، ببساطة، حرب هيمنة. ليست حرب أفكار، وإنما، حرب مالية، حرب رأسمالية بحتة، يشعر الروس بالسعادة لانضمامهم إليها». بعد ذلك، يناقش لوكاس وظائف «روسيا الرأسمالية»، ويرى بأنها جميعاً، تقريباً، تجري على هوى السلطات، ويلاحظ هنا كم كان يسيراً على الكرملن وقف توظيفات شركة شل وشركة النفط البريطانية في سيبيريا، منتهكاً بذلك الأعراف العالمية في التعاملات التجارية. كل ذلك يتم لحساب سيطرة شركات الدولة، مثل شركة غاز بروم Gaz prom. ثم يقتبس الكاتب نص اتهام المدعي العام في موسكو الذي يشير إلى أن مبلغ الرشوة السنوي قد بلغ (240) بليون دولار، وهو ما يعادل الميزانية القومية للبلد.

كتاب «الحرب الباردة الجديدة» يعكس، في الواقع، الحالة الروسية الجديدة ولكن، بطابع الحرب الباردة القديمة. المؤلف يشرح أسباب شعبية بوتين والأسباب التي ينبغي على الغرب أن يقلق بشأنها، موحياً ببعض الهواجس حول خطط روسيا المستقبليّة.