الحروفية.. إشكالية مفتوحة

كتاب جماعي يحاول قراءة ما أجازه الفنانون العرب

TT

استلهام الخط العربي، واحتضانه، وأهميته كعنصر تشكيلي يقتحم فضاءات الحداثة وعوالمها الإبداعية، وكل ما يجعله مادة لصياغة روابط تتطلع لتجاوز الحداثة إلى ما بعدها. كل هذه المؤشرات هي القاسم المشترك بين البحوث الثلاثة التي ضمها كتاب «المنصوص والمبصور.. بين الكتابة المصورة والصور المكتوبة»، الذي جاء بـ 260 صفحة من القطع الوسط، وهو من إعداد طلال معلا. أما البحوث التي تضمنها فهي «المنجز البصري الحروفي العربي المعاصر، طفرة تراثية أم ريادة تشكيلية..؟» للدكتور محمود شاهين، و«الريادة في استلهام العلاقة الخطية التراثية في الفن المغاربي» للدكتور فاتح بن عامر، و«قراءة نقدية للحروفية» للدكتورة هند الصوفي.

في مقدمته للكتاب يؤكد المركز العربي للفنون في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة التي أصدرته، أن سعي المبدعين لاستنباط اتجاه من اتجاهات الفنون التشكيلية والبصرية العربية حق مشروع، كونه يحمل مبادئ الأصالة والخصوصية في ثناياه، ومن حق النقاد والباحثين إبداء آرائهم ورؤاهم في هذا المنجز.

ويذكّر المركز هنا بأن أكثر من نصف قرن قد مضى على اشتغالات الفنانين العرب على ما اصطلح على تسميته بـ «الحروفية»، ورغم إشكالية هذا المصطلح والاختلاف عليه فإن آليات التعبير التشكيلي المتنوعة باتت تضم في مخزونها هذه التجارب التي لم تنحصر في العالم العربي. ورغم الاختلاف الثقافي بين الأقطار والشعوب، فإن ملامح تكوينية باتت ترسم اللوحة الحروفية أو المرسوم الخطي، بما يهدي الكتّاب والباحثين للعودة مرة أخرى إلى قراءة هذا المنجز، باعتباره الانتمائي من جهة، ولصلته بهوية مبدعيه من جهة أخرى، ولسعيه إلى تأسيس اتجاهات تصويرية تطور الفهم المعاصر للتراث وكل ما تتطلبه الحداثة من رؤية وفهم للعصر والمستقبل.

لدى قراءتنا لبحث الدكتور محمود شاهين نجده يلقي نظرة تاريخية على الخط العربي وفنونه، مؤكداً أنه شكّل أحد المظاهر البارزة والرئيسة للحضارة العربية والإسلامية منذ صيرورتها الأولى وحتى اليوم، وكان أهم دوافعها، والوسيلة الأساس في نشرها وتعميمها، وقد عومل في الوقت نفسه، كعمل فني قائم بذاته، له خصائصه ومزاياه التشكيلية والتعبيرية، التي شهدت بدورها، تطوراً كبيراً، خلال مراحل تطور هذه الحضارة، وما زالت حتى يومنا هذا، موضع اهتمام وبحث وتجريب، بهدف استيلاد منجز بصري عربي معاصر، بما يكتنز عليه، من قيم تشكيلية ودلالية وتعبيرية.

ومن هنا يرى أن الفنان التشكيلي العربي المعاصر الساعي إلى المواءمة بين الآن والمكان، والتغريد خارج سرب الفن الغربي، قد أدرك أن عليه القيام بتغذية تيار الفن التشكيلي العالمي المعاصر بروافد عربية أصيلة، لكن دون الذوبان في هذا التيار، ونقله بشكل آلي بارد، وإنما العمل على الخروج بعمل فني جديد متفرد، يعبر عن جماليات عربية إسلامية، لها نكهتها الخاصة.

وعلى نحو بانورامي يستعرض الدكتور شاهين في بحثه بعض أعمال وآراء الفنانين: محمد سعيد الصكار وضياء العزاوي وحسن المسعود والفنان الرائد شاكر حسن آل سعيد من العراق، والفنانين نبيل هاشم نجدي وفيصل السمرة من المملكة العربية السعودية، والفنانين محمد غنوم ومنير الشعراني وسعيد نصري ومحمد قنوع ومحمد فاروق الحداد وعدنان الشيخ عثمان وشكري خارشو ومعد أورفلي وحمود حماد ومحمد حسن الداغستاني وسامي برهان من سوريا، والفنانين رفيق شرف وسامي مكارم ووجيه نحلة ودياب بنوت من لبنان، وعز الدين نجيب وأحمد مصطفى ومحيي الدين اللباد ومسعد خضير البورسعيدي وحامد العويضي من مصر، ومحمد مختار جعفر وتاج السر حسن من السودان، والفنانين خليفة الشيمي وحسين السري من الإمارات، والفنان محمد امزيل من المغرب.

ولكنه مع متابعاته، وتقييماته الموضوعية لأعمال من سبق ذكرهم، يرى أن الساحة الحروفية وككل ظاهرة في حقول الإبداع المختلفة الوسائل والأدوات، سرعان ما استبيحت، فدخلها العالم والجاهل، الفنان وشبه الفنان، الموهوب وغير الموهوب.

ويخلص بعد كل هذا إلى الاعتراف بأن المنجز البصري الحروفي العربي المعاصر، كان وما زال وسيبقى، إشكالية مفتوحة ومستمرة، تماماً كما هو حال مفهوم الفن وماهيته واتجاهاته ومدارسه، التي ما زالت موضوع أخذ ورد بين الفنانين والباحثين وعلماء الفن والجمال.

وكرس الدكتور بن عامر مجمل بحثه لطرح عديد من المسائل التي تخامره من خلال التعرض إلى رواد استلهام العلامة الخطية العربية بالغرب العربي، وكان أهمها: البحث في الأبعاد النوعية لهذه الممارسة التشكيلية وتقصي التعلاّت التي صاحبت هذه الإبداعات، فذهب نحو مساءلة حضور العلامة على المستوى العربي عموماً والمغاربي خصوصاً. ومن هنا تقصى حضور التراث وسبل علاقتنا به، كما تتبع تاريخ الفن التشكيلي ببلدان المغرب العربي، وذلك للوقوف على أهم الفترات وأهم التقاطعات الحاصلة فيه، في مسعىً إلى الوقوف على التجارب الرائدة ومواقع ريادتها داخل الحيز العام للإطار الثقافي العربي وذلك منذ نهاية الستينات مروراً بالسبعينات وداخل الحيز الخاص للفن التشكيلي بكل من المغرب والجزائر وتونس.

وقد تناول هذه التجارب تناولاً كلياً في إطار واقعي ومرجعي، انطلاقاً من إيمانه بأن مسألة الأصالة والمعاصرة ليست بسيطة، وأنها أثرت في توجيه طليعة فناني السبعينات على مستوى المشرق والمغرب، وهو إذ يرى أن هذا الفعل ليس ببعيد عن الحداثة كمطلب عالمي وإقليمي ومحلي، يرى في ذات الوقت أن التراث هو مرجع كل هذه التجارب.

أما الدكتورة هند الصوفي عساف فقد اعتبرت الحروفية العربية في بحثها من الحركات ذات الريادة في تاريخنا الحديث، وأنها لم تنل حتى الآن القسط الوافي من الدراسة والتمحيص، ورأت أن على الباحثين إعادة النظر في مفاهيم وتوجهات هذه الحركة بهدف تنظيم نتاجها ودراسته كظاهرة فريدة، تعبر عن ميزات وخصائص جماعة تشكيلية دينامية في حقبة تميزت بالبحث الجدي عن الإبداع وعن الذات.

ودعت الدكتورة عساف في بحثها إلى إطلاق مشروع «الموسوعة الحروفية» بما يليق بعطاءات مبدعيها بكل تصانيفهم، معتبرة ذلك حلماً وضرورة تاريخية على ما يكلفه من مشقة ومال. كما دعت إلى إدراج الحروفية في المقررات الجامعية، وتقديم الدراسات الغربية عن الفن الإسلامي الموروث وتنقيح المصطلحات، وفقاً لرؤيتنا الخاصة.

واختتمت بحثها بالتساؤل: ترى متى يتحول المؤرخ إلى إنسان فاعل في التاريخ ومشارك في صنعه؟