بعد المسلسلات.. الروايات التركية وصلت إلى العربية

أي أدب ستقرأ في الشهور المقبلة؟

TT

أكثر من عشرة أعمال أدبية تركية على أجندة «دار قدمس» وحدها. وأجندات دور نشر سورية أخرى تشي بمزيد من الإصدارات المترجمة عن التركية في الشهور المقبلة. وزارة الثقافة التركية باتت تعي ان التعريف بالمجتمع يكون أفضل من خلال الفن والأدب، لذا فهي تدعم الترجمة وتمولها وتقف إلى جانبها بحزم. والنتيجة ان الجارة سورية أصبحت بوابة الأدباء الأتراك، ومنها توزع رواياتهم وقصصهم المترجمة على العالم العربي أجمع. أي نوع من الأدب سنقرأ في الشهور والسنين المقبلة، هذا ما يبينه التحقيق التالي.

المتابع لحركة الترجمة في سورية، والتي تعد واحدة من أنشط الدول العربية في هذا المجال من حيث عدد المترجمين، لا بد أنه سيلحظ تنامي حركة ترجمة الأدب التركي. فبعد أن كانت أغلب الترجمات تنصب على الأدب الساخر كأعمال الأديب عزيز نيسين، ولا تغفل أعمال أدباء مشهورين كالشاعر ناظم حكمت ويشار كمال وأورهان باموك، الذين أصبحوا يتمتعون بشعبية كبيرة لدى الأوساط السورية، بدأنا نشهد ولادة جيل جديد من الترجمات الأدبية التركية التي لا بد انه سيكون لها تأثيرها المستقبلي. فالموقع الجغرافي لسورية المجاور لتركيا والتاريخ المشترك لأكثر من 400 عام، أسهما في جعل الأدب التركي مستساغاً عربياً، وأن ينال اهتماماً خاصاً كون أغلب المترجمين السوريين ينتمون لمناطق الشمال المجاورة للحدود التركية، ما أهلهم لتعلم التركية ومتابعتها من خلال القنوات التلفزيونية الأرضية قبل انتشار الفضائيات العربية. ومن هؤلاء المترجمين من أكمل دراسته في اسطنبول وأجاد اللغة، بحسب ما يقوله المترجم عن التركية بكر صدقي، الذي يرد الإقبال على الأدب التركي إلى أن «الأعمال التي تترجم هي من أهم الأعمال وذات سوية فنية عالية»، منبهاً إلى أن «العرب ما زالوا يجهلون الأدب التركي رغم علاقات الجوار»، فهو كلما قرأ كتاباً جديداً لكاتب تركي يكتشف أنه ما زال يجهل هذا الأدب. ولا يفوت صدقي الإشارة إلى الأثر الذي أحدثته دبلجة المسلسلات التركية لدى الجمهور العربي. فتلك المسلسلات كشفت للجمهور العربي أن له جاراً يشبهه، يعيش في البيئة ذاتها ولديه عادات وتقاليد مماثلة.

سورية التي حسنت علاقتها مع تركيا في السنوات الثلاث الأخيرة، باتت تشكل بوابة حقيقية لها تطل منها على العالم العربي، وعدا السياسة والاقتصاد كانت نتائج تصدير الدراما التركية مذهلة. عملية ترجمة الآداب من رواية وقصة وشعر ودراسات تسير على هذا الطريق، وإن على نحو أضعف. إذ إن التواصل بين الأدب التركي والأدب العربي يعتبر حديث العهد. وقد رأينا، في البداية، صعوبة في التواصل جراء سوء الترجمة التي كانت تتم سابقاً عن طريق لغة ثالثة وسيطة، إلا أن المترجمين السوريين والعراقيين وآخرين تنبهوا إلى ضرورة الترجمة المباشرة عن التركية، بالإضافة إلى ضرورة توسيع قائمة الكتاب المترجم لهم.

افتتح الترجمة عن التركية وبشكل مبكر المترجم فاضل جتكر برواية «جودت بك وأولاده» وصدرت عن وزارة الثقافة، رافقتها بعض روايات نيسين. إلا أن موجة أكبر، شهدتها الأعوام الخمسة الماضية، وكانت لكتاب أتراك غير معروفين عربياً. وكان للمترجم عبد القادر عبدللي فضل في ترجمة بقية أعمال أورهان باموك وإعادة ترجمة روايته الأولى، وتقديمها للقارئ العربي، قبل فوزه بجائزة نوبل. كما ترجم عبدللي لأعلام الأدب التركي المعاصر مثل أورهان كمال وفقير بايكوك، وعرف بكتاب ساخرين غير نيسين مثل مظفر أيزكو، وداد صايغل، خلدون طانر، تحسين يوجل وغيرهم. ونشط مترجمون آخرون مثل فاروق مصطفى وبكر صدقي وجمال دورمش وآخرون، الذين نشروا من خلال عدة دور نشر، اهتمت بالأدب التركي مثل «دار المدى» و«دار فصلت» و«نينوى» و«قدمس».. إلخ.

الملاحظة الأساسية التي اشتكى منها الأتراك سابقاً، أن معظم الترجمات تهتم بأدباء ينتمون للتيار اليساري، مثل ناظم حكمت ويشار كمال، وذلك مرده إلى أن الترجمة لا تزال عمل هواة. والاختيار غالباً ما يعود لمزاج المترجم واعتبارات التسويق. ومع أن هناك اتفاقية بين الجانب التركي واتحاد الكتاب العرب في دمشق منذ عام 2003 للترجمة من وإلى التركية، إلا أن هذه الاتفاقية لم تثمر كما كان متوقعاً منها، أشار إلى ذلك الأديب التركي محمد قارصو رئيس فرع انطاكيا في نقابة الكتاب الأتراك في محاضرة له ألقاها في دمشق الصيف الماضي عن علاقة الأدب التركي بالأدب العربي. قال قارصو، إنه تم تجديد الاتفاقية لخمس سنوات مقبلة على أمل أن يكون هناك نشاط أكبر، مستنداً في ذلك إلى الانفتاح الكبير الحاصل بين سورية وتركيا على كل الصعد.

ومع أن الاتفاقية الرسمية لم تؤت ثمارها، إلا أن الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي جرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة ساهم إلى حد كبير في زيادة الإقبال على الترجمة، بتخصيص وزارة الثقافة والسياحة التركية دعماً مالياً لترجمة الأعمال التركية إلى لغات أخرى ومن ضمنها العربية. من خلال مشروع (تيدا) الهادف إلى تغطية كافة مصاريف الطباعة والنشر في حال وجد الكاتب التركي المترجم والمطبعة، مما شجع دور النشر السورية والمترجمين على توسيع خياراتهم في العناوين المنتقاة وكذلك الأدباء، وفي رفع وتيرة الترجمة. نشط في هذا المجال وكلاء الكتاب الأتراك، وتولوا مهمة الترويج للكتب التركية من خلال شبكة علاقات واسعة، أتاحت التعريف بعدد أكبر من الكُتاب والعناوين، غير المشهورة خارج تركيا، بما يغطي ثغرة كبيرة في النتاج المترجم، وبالأخص أعمال الكاتبات النساء، وأعمال كتاب من تيارات سياسية أخرى غير التيار اليساري الذي ابرز عدداً من الأسماء المهمة، ظلت تستأثر بسوق الترجمة إلى العربية طيلة الفترات الماضية. وفي هذا الخصوص، يقول زياد منى مدير «دار قدمس» إنه خلال زياراته إلى اسطنبول لحضور مؤتمر لوزارة الثقافة والسياحة التقى مجموعة من الكتاب والوكلاء، قاموا بتعريفه على قائمة طويلة من الكتب، وبدوره كان يسأل عن محتواها، وعما إذا كان ثمة ترجمة لها بالانجليزية أو الألمانية لكي يطلع عليها، هذا بالإضافة إلى عرضها على مترجمين ونقاد وسؤالهم عن رأيهم بترجمتها، ليكون اختياره موضوعيا.

من جانب آخر، استفسرنا عما إذا كانت الجهة التركية الداعمة تتدخل في اختيار الكتب؟ فنفى زياد منى أي تدخل من الوزارة التركية، وقال "إن الدار هي التي تقترح العناوين والوزارة تنتقي منها ما ترغب في دعمه. أما في حال كانت الدار تتمسك بترجمة كتاب لم توافق الوزارة على منحه الدعم، فإن الدار تنشره على نفقتها، لأن مشروع النشر بالأساس هو مشروع خاسر تجارياً».

وكان لافتاً خلال العامين الماضيين عناية «دار قدمس» بترجمة روايات وقصص لكاتبات تركيات غير معروفات عربياً، ضمن مشروعها «ولادة» للأدب النسوي. تم إصدار ثلاث ترجمات عربية لثلاث روائيات تركيات خلال عام واحد: «ستزوركم أمي إن لم يكن عندكم مانع» للكاتبة آيفر طونتش، وتتناول الحياة في تركية في السبعينات، و«المدينة ذات العباءة القرمزية» للكاتبة أصلى إردوغان، وتدور أحداث الرواية في مدينة ريودجانيرو، و«بناء خمسة سيفيم» للكاتبة مينه سويوت. وعلى أجندة «قدمس» نحو ثمانية عناوين قيد الترجمة وهي لطيفة هانم «سيرة زوجة كمال أتاتورك» للكاتبة إيبَك تشالشلَر وستصدر قريباً في كتاب من خمسمائة صفحة، يحكي سيرة حياة لطيفة هانم زوجة الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، وما تمثله سيرته نفسها، منظوراً إليها في مرآة سيرة زوجته لطيفة. يتضمن الكتاب معلومات غزيرة عن الملامح الشخصية لمؤسس الجمهورية، وأسلوب قيادته لشؤون الحكم من خلال حكاية امرأة تقلبت، بين ذروة المجد وحضيض التهميش والتشويه، دفعت ثمن طموحها من حبها وحياتها، فخسرت الاثنين معاً. الكتب السبعة الأخرى منها ست روايات ومجموعة قصصية لكاتبات وكتاب لم يسبق أن ترجم لهم للعربية مثل أصلى تومشو وموغه ايليشكي وغونول كفلتشيم وغايه بوره أوليغلو واليف شفق. ومع أن الروايات النسوية الثلاث التي صدرت عن الدار بدعم من وزارة الثقافة والسياحة التركية، وجدت الطريق ممهداً لها عبر الترجمات السابقة للأدب التركي، إلا أنها حملت مفاجأة للقارئ العربي عموماً والقارئ السوري خصوصاً، أولا من حيث اكتشاف أديبات تركيات يمتلكن موهبة رفيعة وقدرة إبداعية لافتة، وثانياً من حيث البيئة الشرقية، بعد عقود من محاولة تركيا الالتحاق بالغرب. فرواية «ستزوركم أمي إن لم يكن عندكم مانع» للكاتبة آيفر طونتش، بدت وكأنها رواية دمشقية من حيث تشابه بيئة الرواية مع البيئة الدمشقية في الأمكنة والعادات والتقاليد. أما رواية «المدينة ذات العباءة القرمزية» للكاتبة أصلى إردوغان، فكانت لافتة في بنائها الروائي والأسلوب واللغة، وأيضاً في الترجمة التي قام بها بكر صدقي، حيث أظهر مقدرة على نقل شاعرية اللغة وصورها البالغة الحساسية. وكانت مجلة «لير» قد اختارت العام الماضي، خمسين كاتبًا من أنحاء العالم، متوقعة لهم أن يتبوأوا صدارة الرواية العالمية، في القرن الحادي والعشرين، ومن هؤلاء الروائية التركية أصلى إردوغان. أما رواية «بناء خمسة سيفيم» للكاتبة مينه سويوت، فمع أنها لم تكن بمستوى الروايتين الأخريين، إلا أنها تميزت بموضوعها الغرائبي، وبتنقلها داخل عوالم خرافية من خلال بعض اللوحات الحياتية الإشكالية التي ينسبها البعض بعد إخفاقاتهم المتكررة في الحياة إلى معتقدات يتحكم الجن فيها بعيداً عن العقل والتعقل.

الأديب محمد قارصو أشار إلى جذور العلاقة بين الأدب العربي والأدب التركي في محاضرته التي ألقاها في دمشق وقال إن «العلاقة بدأت باعتناق الأتراك الدين الإسلامي في القرن الثامن الميلادي، وأن هناك أسساً للأدب العثماني مأخوذة من الأدب العربي والفارسي. فالشعر الديواني مأخوذ من حيث النظم والوزن من الشعر العربي. هذه العلاقة استمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر، الزمن الذي توجهت فيه تركيا نحو الغرب».‏

التوجه التركي نحو الغرب أسهم في أن يكون الابتعاد عن الشرق العربي متبادلاً، بالإضافة إلى التاريخ العدائي الناجم عن احتلال العثمانيين للبلاد العربية 400 عام. لهذا فإن زياد منى مدير «دار قدمس» اعتبر اهتمام الدار بترجمة الأدب التركي «محاولة لإعادة اكتشاف تركيا ولتاريخنا فيها الذي يمتد نحو 400 عام»، وأنه بعد اطلاعه على الأدب التركي اكتشف «أننا لا نعرف تركيا، لأننا تربينا على معاداة الأتراك»، والترجمة هي «نوع من إعادة الاعتبار للأتراك الذين أسأنا لهم».

إن الحديث عن الترجمة كإعادة اعتبار، تحتاج إلى خطة استراتيجية، وهو ما تنبهت إليه الحكومة التركية التي تولي عناية خاصة لترجمة أعمال مبدعيها إلى لغات أخرى، إذ الأدب الوسيلة الأكثر نضجاً ورسوخاً في نقل صورة حقيقية عن المجتمع، وهذا ما رآه المترجم بكر صدقي أمراً في غاية الأهمية. وما ساهم في تنشيط حركة الترجمة، التي مازالت في سورية عمل مترجمين هواة وناشرين مغامرين، كون المترجم هو الذي ينتقي، والناشر يبحث عما يمكن أن يكون رائجاً، دون خطة استراتيجية، الأمر الذي يحتاج إلى تمويل حكومي.

بدورنا كقراء عرب، يجب ألا نستغرب أننا لا نعرف من الأتراك سوى عزيز نيسين وكمال يشار وناظم حكمت، وأن الأتراك لا يعرفون من العرب سوى أدونيس وحيدر حيدر. ومع فتح البوابات من جديد لاكتشاف تركيا من خلال الأدب، كل ما نأمله أن يكون ذلك فرصة لتواصل وتبادل تجارب عميقة ومعرفة حقيقية، لا أن تكون سطحية، أو موضة على طريقة «مسلسل نور».