جدل حول الدور السياسي للمساجد في الجزائر

تجاوزت الديني لتنخرط في صناعة التحولات الفكرية

TT

في وقت لم يحسم فيه الجدل بشأن مشروع «المسجد الأعظم» الذي تراه السلطة مشروعا ثقافيا وسياحياً كبيراً، ويعتبره بعض المعارضين مناسبة لتبديد المال، يخشى الكثير من الجزائريين من انهيار أهم معالم العاصمة الثقافية وهو «مسجد كتشاوة». فهذا المسجد العتيق الذي أغلق أبوابه في وجه المصلين بداية من شهر رمضان الماضي، يخشى بعض الخبراء انهياره في حال عدم احترام شروط الترميم بطريقة علمية، وقد تقرر إغلاقه بعد ظهور تشققات كثيرة وتأثر أعمدته الرخامية، وتآكلها إضافة إلى تسربات مائية تسببت في إتلاف أجزاء منها مما يهددها بالسقوط في أية لحظة، وهي التي ظلت قائمة لقرون. و«جامع كتشاوة» ليس مجرد مسجد، فهو أحد معالم الجزائر العتيقة، ورمز للصراع مع المستعمرين الفرنسيين الذين حوّلوه من مسجد إلى كنيسة طيلة الاحتلال الفرنسي الذي دام 132 سنة، ولم يستعد هويته الدينية الاصلية إلا مع فجر الاستقلال سنة 1962. وكان المسجد قد تأسس زمن الوجود العثماني في الجزائر سنة 1794 بأمر من حاكم الجزائر حينها الداي حسن الذي قيل إنه أراده فخماً يخلّده على مر التاريخ، فبناه في المكان الذي كان يسمى «الرحبة» والتي قيل بأنها ترجمت إلى التركية باسم «قتجاوة» لتتحول إلى «كتشاوة». والمسجد رغم هويته التركية الواضحة يلاحظ زائره أن عمارته الخارجية لا تعبّر عن ذلك، فهو لا يشبه المساجد ذات الطراز التركي المعروف، والسر يكمن فيما حدث له من تحوّل بعد سيطرة الفرنسيين على العاصمة سنة 1830. فقد استولى عليه الدوق روفيغو ليحوله سنة 1882 بعد تعديلات هندسية كبيرة، إلى كنيسة «القديس فيليب». وظل كتشاوة غريباً عن أهله طيلة سني الاحتلال. ومع سنة 1962 استقلت الجزائر لتتحول كنيسة القديس فيليب إلى جامع كتشاوة من جديد، لكن الجامع لم يسترجع هندسته الأولى التي تأسس عليها وأقيمت اول صلاة جمعة فيه بحضور شخصيات ثقافية وسياسية جزائرية كبيرة في أوائل أيام الاستقلال. وبقي المسجد 46 سنة أخرى بعد الاستقلال يحمل الهوية الإسلامية في جوهره وآثار الهوية المسيحية في شكله الخارجي وكأنه يشبه الجزائر التي تصارعت فيها هويتان، وبالقرب منه حصلت بعض الاغتيالات والاشتباكات المسلحة في تسعينات القرن العشرين، ولم يلتفت إليه المسؤولون بالترميم وكان يمكن أن يستعيد شكله الهندسي الأصيل منذ الأيام الأولى للاستقلال، وها هو الآن يعتذر عن استقبال المصلين لأول مرة مكرهاً بعد أن أجبر على تركهم عندما تحول إلى «كنيسة القديس فيليب».

ومع الجدل الذي يثيره مسجد كتشاوة المهدد بالانهيار، ثمة جدل آخر حول مسجد آخر لم يبن بعد هو مشروع «المسجد الأعظم» الذي طرحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ليكون ثالث أكبر مسجد في العالم بعد الحرم المكي والحرم النبوي الشريفين. فالمشروع الذي تأجل البدء به أكثر من مرة ينتظر أن يبدأ تجسيده سنة 2009. وأهم ما أثير حوله ميزانيته التي قال عنها سابقاً وزير الشؤون الدينية والاوقاف الجزائري إنها لا تتعدى الـ800 مليون دولار. لذا اتهم نائب برلماني علماني معارض السلطات بتبديد الأموال قائلا إن ميزانيته تصل إلى أربعة مليارات دولار وإنه سيدشن بالقرب من وادي الحراش ذي الرائحة النتنة. لكن الوزير المكلف بالبرلمان رد عليه بالقول إن الميزانية المخصصة لا تتعدى المليار ونصف المليار دولار، وبخصوص المكان قال إن صاحب المشروع أي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أراده مكاناً رمزياً، حيث أسس فيه الكاردينال الفرنسي لافيجري أيام الاحتلال الفرنسي مدارس تبشير للجزائريين من اجل تحويلهم إلى المسيحية، أما بخصوص رائحة وادي الحراش النتنة فستعالج لاحقاً ليصبح المكان واحداً من أجمل الأمكنة في الجزائر. والمسجد زيادة على مكانته الدينية سيكون واحدا من أهم المعالم السياحية والعمرانية في جزائر المستقبل.

وفي الوقت الذي تتأسس فيه مساجد جديدة يفتقر معظمها إلى الأصالة العمرانية والهوية الثقافية الواضحة تعبيرا عن الاضطراب الذي يعيشه المجتمع الجزائري المعاصر، يبقى جامع كتشاوة موضع خلاف، ومشروع «الجامع الأعظم» موضع جدل سياسي، ولا يعرف أحد متى يرى النور. كل ذلك في ظل دعوات متكررة من الكثير من المثقفين والسياسيين إلى فصل الدين عن السياسة، لكن يبدو أن ذلك الأمر صعب، بل يكاد يكون مستحيلاً في مشهد جزائري بهذا الشكل.