هل يتحكم التاريخ بمصير الإنسان؟

لوك فيري يهجم على فوكو لكي يزيحه عن عرشه ويعيد لسارتر هيبته

الكتاب: ما هو الانسان؟
TT

هل يمتلك الانسان هامشاً من الحرية أم انه مشروط تماماً بالظروف المادية والبيولوجية والسوسيولوجية والطبقية والفئوية؟ على هذا السؤال يحاول ان يجيب الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في كتابه الأخير الذي يتخذ العنوان التالي: ما هو الانسان. دراسة حول المسائل الاساسية لعلم البيولوجيا والفلسفة. وقد ألفه بالاشتراك مع عالم بيولوجي مشهور من فرنسا هو: جان ديدييه فانسان. فلوك فيري ألف الجزء الأول والأكبر الخاص بالفلسفة. والثاني ألف الجزء الأخير المتعلق بعلم البيولوجيا، أو علم الأحياء والوراثة. ولوك فيري لمن لم يسمع باسمه هو أحد أبرز الفلاسفة الذين ظهروا في الساحة بعد موت جيل الكبار من أمثال: التوسير، وميشيل فوكو، وجيل ديلوز، وسواهم. وهو يتميز بالعقلانية النقدية على طريقة كانط، وكذلك بوضوح الاسلوب والفكر. ومنذ البداية يقول المؤلف بما معناه: ربما كنا نتذكر صيحة أحد الثوار الفرنسيين الذي صرخ قائلاً: تاريخنا ليس قانوننا! وكان يقصد بذلك ان الناس ليسوا سجناء ماضيهم، أي عهدهم القديم، وانما هم قادرون على التحرر منه وابداع تاريخ آخر، أو مستقبل آخر مختلف كلياً عن الماضي. وهنا يكمن الفعل الثوري بامتياز. فخصوصية الانسان التي تميزه عن بقية الحيوانات أو الكائنات الموجودة على سطح الأرض هي انه قادر على التخلص من مشروطياته الطبيعية والتاريخية أو الارتفاع فوقها. ولكننا نعلم أن الفلاسفة الماديين يقولون بعكس ذلك. فهم يعتقدون بأن الانسان مشروط بها كما لو انها اغلال أو أصفاد. والصراع بين هاتين النظريتين يخترق تاريخ الفلسفة، بل ويخترق تاريخ الفكر الديني المنقسم الى جبريين وقدريين أي القائلين بالجبر من ناحية، أو حرية الاختيار من ناحية أخرى. من الواضح ان لوك فيري ينتمي الى فلسفة الحرية التي أسسها جان جاك روسو، وايمانويل كانط، وهوسيرل، وسارتر.. ويقف بالتالي ضد الفلسفة التي سادت أثناء المرحلة السابقة: أقصد مرحلة البنيوية التي جسدها ليفي ستروس، وفوكو، وبورديو، الخ، ولكن فلسفة الحرية، كما يقول لوك فيري، تصطدم الآن بالتيارات المادية المهيمنة حالياً على علم البيولوجيا والعلوم الانسانية في آن معاً. فهنا تسيطر الحتمية لا الحرية. ففي رأي هذه التيارات ان التاريخ يبدو وكأن مساره مضاد للحرية: انه يبدو كقانون إكراهي قسري يتحكم بمصير الانسان دون أن يدري. فنحن محكومون بشيئين اثنين لا فكاك منهما: أسرتنا وطبقتنا الاجتماعية أولاً، ثم ارثنا الطبيعي أو البيولوجي ـ الوراثي ثانياً. وبالتالي فالحرية بحسب هذا المنظور ليست الا وهماً. وهذا الوهم ناتج عن تعقيد الحتميات التي تتحكم بسلوكنا دون ان ندري. وهذه الحتميات الطبيعية والتاريخية معقدة ومتشابكة الى درجة اننا لا نستطيع ان نفهم بشكل صحيح القوى التي تجعلنا من نحن على غير علم منا. وهكذا نعتقد ان معرفتنا غير المحددة بمن نحن وما هي أصولنا هي عبارة عن عدم تحديد بحد ذاته أو شكل من أشكال الحرية. اننا نتوهم بأننا أحرار ولكننا في الواقع لسنا أحراراً. ووحدها الفلسفة المادية العلمية تستطيع تبديد هذا الوهم عن طريق الكشف عن البواعث اللاواعية التي تتحكم بنا بشكل صارم لا فكاك منه. ما هو الاكتشاف الكبير للنظرية البيولوجية المعاصرة أو للفلسفة المادية التي تقبع خلفها؟ انها تقول لنا ما يلي: على عكس ما علمتنا التراثات الدينية الكبرى وأحد الخطوط الفكرية الموروثة عن عصر التنوير فانه لا توجد أي قطيعة بين النسق الحيواني والنسق الانساني. فالانسان في نهاية المطاف حيوان مثله في ذلك مثل بقية الحيوانات. انه يأكل ويشرب ويتناسل ويموت، الخ.. وبالتالي فهناك استمرارية، لا قطيعة، وسط هذا المجال المشترك الواسع الذي ندعوه بالطبيعة الكونية. لا توجد أي خصوصية تميز الانسان عن الحيوان! هذا ما تدعيه الفلسفة المادية المحضة... انها تختزل الانسان الى مجرد آليات عضوية أو فيزيولوجية. لكنْ، هناك تراث آخر في الفلسفة مضاد لهذا التيار: انه تراث فلاسفة الحرية. ما هي المبادئ الاساسية للفلسفة المادية؟ كنا قد حددنا بعض سماتها آنفاً ولكننا سوف نتوسع في ذلك أكثر الآن. انها تقول لنا بما معناه: حياة الروح ناتجة عن المادة وتتحكم بها المادة ولا يوجد شيء آخر غير المادة. وبالتالي فإن الافكار الفلسفية أو الدينية، وكذلك القيم الأخلاقية والقانونية والسياسية والتحف الفنية والمبدعات الثقافية الكبرى لا تمتلك اية حقيقة ذاتية مستقلة وخاصة بها. وإنما هي عبارة عن بنى فوقية بحسب اللغة الماركسية الشيوعية: أي منتجات متولدة عن المراحل المادية التي نشأت فيها. وهذه المرحلة المادية أو البيئة المحيطة تشرط كل هذه الأشياء وتتحكم بها تماماً حتى ولو كان ذلك بشكل معقد ومتعدد الوجوه. وبالتالي فإن عالم الروح أو الفكر ليست له أي استقلالية ذاتية حقيقية بالقياس الى هذه المادة الطبيعية والتاريخية التي تتحكم بكل شيء. ان فلاسفة المادة يعادون بشدة كل فلسفة تفترض وجود قطيعة بين عالم الانسان وعالم الحيوان، أو تقول بأن الانسان قادر على تجاوز مشروطياته: أي الانتقال من شرط الحتمية الى شرط الحرية.

بعدئذ نلاحظ ان لوك فيري ينقض على «فلاسفة الشك والارتياب» الذين سيطروا على الساحة الفرنسية في الستينات والسبعينات. وهو يستهدف بشكل أساسي البنيويين من أمثال فوكو وبورديو والتوسير وسواهم. ويتهمهم بأنهم اتباع لماركس، ونيتشه، وفرويد. فماركس قال بأن الانسان مشروط كلياً بالاقتصاد، ونيتشه قال بأنه مشروط بالغريزة، وفرويد قال بانه مشروط بلاوعيه وكل البواعث الجنسية المكبوتة التي تختلج فيه أو تضطرب.. وبالتالي فالانسان يتوهم بأنه حر، ولكنه ليس حراً على الاطلاق. فهناك قوى مظلمة، قوى خفية لاواعية تتحكم به دون أن يدري. لهذا السبب دعيت فلسفة ماركس أو نيتشه أو فرويد بفلسفة الشك والارتياب. فهي راحت تشك في كل فلسفة الوعي والحرية التي ورثناها عن ديكارت أو عن روسو وكانط بشكل أخص. ومن تلامذة هؤلاء في عصرنا الحديث بورديو والتوسير فيما يخص ماركس، وفوكو فيما يخص نيتشه، ولاكان فيما يخص فرويد. ولكن الفلسفة المادية يقول لوك فيري ينبغي ان تتحمل مسؤولية هاتين الخاصتين الاساسيتين: الاختزالية والحتمية.

والواقع ان الفلسفة المادية تنقسم اليوم الى تيارين عريضين: الأول يتمثل بالمادية التاريخية ـ السوسيولوجية، والثاني يتمثل بالمادية الطبيعية البيولوجية. أنصار التيار الأول يقولون بأننا محكومون كلياً بالبيئة الاجتماعية ـ التاريخية التي تربينا فيها. فإذا كانت بيئتنا صحراوية رعوية، غير ما إذا كانت ريفية زراعية، أو مدنية عمرانية. واذا كانت بيئتنا فقيرة غير ما اذا كانت غنية. واذا كانت بيئتنا أو عائلتنا مثقفة غير ما اذا كانت أمية، الخ.. وبالتالي فنحن محكومون الى الأبد بالبيئة الخصوصية التي شاء القدر ان نولد فيها. ولا حيلة لنا في الأمر ولا نستطيع تغيير وضعنا.. وأما أنصار التيار الثاني فيذهبون الى أبعد من ذلك عندما يقولون بأن موروثاتنا البيولوجية وبخاصة العصبية هي التي تتحكم بنا وبسلوكنا. وبالتالي فلا داعي لبذل أي محاولة من أجل تغيير انفسنا او سلوكنا لاننا محكومون سلفا بمورثات طبيعية تتجاوزنا ولا حيلة لنا بها. وهذا النوع الثاني من الحتمية لا يرفض الاول ضمن مقياس انه يولي ايضا اهمية كبيرة للبيئة والتربية. وبالتالي فهو يزاوج بين الطبيعي والمكتسب: أي بين ما تلقيناه خلقة، وبين ما اكتسبناه بعد ولادتنا من بيئتنا وتربيتنا، لكنه يعطي الاولوية بالطبع لما هو موروث بالفطرة: أي للعوامل البيولوجية فهي تظل أهم بكثير في نظره من العوامل الاجتماعية، وهي التي تحسم الأمور أي تحدد طبيعة شخصيتنا وسبب تصرفنا بهذا الشكل لا بذاك؟

في الواقع ان للفلسفة المادية مبرراتها وليست كلها خاطئة، فهي تتحدث لنا عن اشياء واقعية محسوسة، لا عن افكار وهمية او تجريدية، ففرويد يتحدث لنا عن الجنس او الليبيدو ومدى تأثيره سلبا او ايجابا على شخصية الفرد، ونيتشه يتحدث عن الغرائز العميقة التي تسكننا وأهمها غريزة حب القوة والتوسع والهيمنة، فلا يكاد يخلو منها أي انسان وماركس يتحدث لنا عن اشياء محسوسة، أي عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية الموجودة في بيئتنا والتي تؤثر حتما علينا. واما علم الاجتماع البيولوجي فيتحدث عن ذلك الجزء من الحيوانية الذي يسكننا والذي حاولت التراثات المثالية من دينية او فلسفية ان تخفيه من اجل التركيز على سمو الانسان، كل هذه اشياء لا يمكن انكارها، لكن على الرغم من ذلك فإن الفيلسوف لوك فيري يرى في المادية فلسفة اختزالية وناقصة لا تستطيع ان تفهم جوهر الانسان او خصوصيته بالقياس الى عالم الحيوانات وبقية الكائنات. ولهذا السبب فانه يتبنى فلسفة الحرية لا الحتمية، لكن ما هي فلسفة الحرية هذه؟ وما هي المبادئ الاساسية التي ترتكز عليها؟ يرى لوك فيري ان المناقشة الاساسية جرت حول الفرق بين الانسان والحيوان، او بين عالم الطبيعة وعالم الثقافة. فمنذ القرن الثامن عشر راح الفلاسفة يركزون على هذه النقطة لكي يثبتوا ان الانسان يمكن ان يكون حرا، لكن ليس الحيوان، فالحيوان اسير العادة والغريزة الطبيعية، في حين ان الانسان يستطيع ان يتجاوز ذلك، ان فلاسفة الحرية، وعلى رأسهم جان جاك روسو، يعتقدون بان خصوصية الانسان تكمن في مقدرته على تغيير اوضاعه او تحسينها. اما الحيوان فيظل كما هو دون أي تغيير او تبديل منذ البداية وحتى النهاية وبالتالي فمن الخطأ اختزال الانسان الى مجرد آلياته العضوية او الفيزيولوجية كما يفعل الماديون. فالانسان ارقى من ذلك وأعلى، ويرى المؤلف ان هناك فجوة او قطيعة تفصل بين العالم القديم الارستقراطي ذي الطبقات الاجتماعية المتفاوتة الاهمية والذي عبرت عنه فلسفة ارسطو على اوضح وجه، وبين العالم الحديث الديمقراطي الذي لا يفرق بين الناس من حيث ولادتهم وأصولهم وانما من حيث كفاءاتهم الشخصية فقط. وهذا العالم الحديث تجسد في فلسفة روسو وكانط وهوسيرل وسارتر. ولذلك يدعوهم المؤلف بفلاسفة الحرية. والواقع ان انبثاق المفهوم الحديث للحرية على يد روسو وكانط كان قد تجسد سياسيا وعمليا في الاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن، لكن فلسفة الحرية كانت معاصرة للفلسفة المضادة لها: اقصد فلسفة الحتمية المادية والاختزالية. وهذا ما نراه لدى ديدرو الفيلسوف المعاصر لروسو والمضاد له من هذه الناحية والواقع ان ديدرو متأثر كثيرا بفلسفة سبينوزا ومعلوم ان هذا الاخير كان يعتبر الحرية بمثابة وهم ويريد التخلص منها بأي شكل، فالكون محكوم بقوانين فيزيائية ومعادلات رياضية لا يحيد عنها حراكا، كذلك الانسان فانه محكوم بقوانين بيولوجية وفيزيولوجية وظروف محيطة. وبالتالي فان الصراع بين المادية الحتمية وفلسفة الحرية كان قد اندلع منذ اواخر القرن الثامن عشر ولا يزال هذا الصراع مستمرا حتى يومنا هذا، لكنه في كل مرحلة تاريخية يجدد من أدواته واساليبه ويتخذ شكلا آخر، واليوم يستخدم فلاسفة المادية الحتمية نتائج علم البيولوجيا والقانون الوراثي لتقوية مواقعهم في مواجهة فلاسفة الحرية، بل والقضاء عليهم اذ امكن. فالماديون يقولون لنا: ان كل مشاعرنا واحاسيسنا وكل خياراتنا الجمالية والاخلاقية محكومة بقوانين بيولوجية تخفى علينا. وهكذا يريدون القضاء على فكرة الحرية من اساسها، أي القضاء على الانسان ذاته، وبالتالي تحقيق تلك النبوءة التي أعلنها ميشيل فوكو في اواخر كتابه «الكلمات والاشياء» عن موت الانسان! ومعلوم ان هذه العبارة أحدثت ضجة كبيرة وفرقعة هائلة عام 1966 عندما صدر كتاب فوكو المذكور وكان يقصد به ان مفهوم الانسان الحر قد اصبح قديما باليا، عفى عليه الزمن، لقد مات الانسان بالمعنى المثالي الذي كنا نتخيله وحل محله مفهوم جديد: الا وهو الانسان المشروط بالحتميات البيولوجية والتاريخية والسوسيولوجية. انه الانسان الآلي البنيوي الذي تتحكم به كل البنى الاجتماعية والبيولوجية والتاريخية والاقتصادية السائدة.

عندما اطلق فوكو عبارته هذه كانت البنيوية في أوج مجدها. وكانت تعتبر انها قادرة على كشف جميع القوانين التي تتحكم بالانسان وسلوكه، وكذلك بالمجتمع ككل، ومعلوم ان العلوم الانسانية ازدهرت في تلك الفترة كثيرا، لكنها كانت خاضعة اكثر من اللزوم للفلسفة الوضعية التي تعامل الانسان وكأنه آلة مركبة من عدة اجزاء. وكان ليفي ستروس يقول بأن هدف العلوم الانسانية ليس بناء الانسان وانما تفكيكه وانحلاله. فلا يوجد شيء اسمه انسان، وانما يوجد هذا الكائن المركب المعقد المشكل من جملة الآليات الفيزيولوجية والعضوية، كذلك التصرفات التاريخية والسوسيولوجية والاسطورية ايضا، وبالتالي فينبغي ان نكتشف جميع القوانين التي تتحكم بالانسان واساطيره، ولكي نكتشفها فإننا مضطرون للتعمق في العلوم الانسانية: كعلم الانثربولوجيا والاجتماع والتحليل النفسي والتاريخ.. الخ.

وراح فوكو وليفي ستروس يهاجمان سارتر وتصوره المثالي عن الانسان! وراحا يضحكان عليه ويتهمانه بانه عاجز عن فهم العلوم الانسانية لانه فيلسوف مثالي تجريدي عاجز عن رؤية الواقع الثقيل بكل اكراهاته وقيوده. ويبدو ان لوك فيري يحاول هنا ان ينتقم لسارتر الذي طغت عليه الموجة البنيوية آنذاك وهمشته الى حد ما. وكان الجميع يقولون بأن فوكو حل محله على سدة الفكر الفرنسي، لكن ها هو لوك فيري يهجم على فوكو لكي يزيحه عن عرشه ويعيد لسارتر هيبته واحترامه كأحد فلاسفة الحرية الاساسيين في التاريخ.