التجارة غير المشروعة.. مقبرة فقراء العالم

ليست ظاهرة خفية تتم تحت الأرض وكثيرا ما تكون تحت إطار من الشرعية

الكتاب: تجارة غير مشروعة تأليف: موسى نعيم
TT

من المستحيل أن تقرأ صحيفة ما في بلد ما دون أن تقرأ خبرا عن «التجارة غير المشروعة» من زيادة الأسعار، تجارة الكلى، الأدوية المغشوشة التي تقتل، تجارة العبيد، النسخ المقلدة من كل المنتجات، سهولة تداول المخدرات.. وغيرها.

لكن لماذا لم تطرد التجارة المشروعة التجارة غير المشروعة؟ ولماذا لم تدعم الابتكارات التكنولوجية عمليات تطبيق القانون لـ «إخضاع الأشرار»، وفرض النظام؟ ثم إلى أين ننطلق؟

هذه الأسئلة وغيرها يطرحها كتاب في غاية الأهمية كتبه موسى نعيم رئيس تحرير مجلة Foreign policy الصادرة عن مؤسسة كارنيجي الوقفية للسلام الدولي، والذي شغل سابقاً منصب وزير الصناعة والتجارة بفنزويلا لعدة سنوات، وعمل كمدير تنفيذي بالبنك الدولي، وينشر بانتظام في مجموعة من أشهر الإصدارات في العالم مثل Financial timesوتم ترجمة وإصدار النسخة العربية لهذا الكتاب تحت رعاية معهد دراسات السلام الذي أقامته حركة سوزان مبارك للمرأة من اجل السلام بمكتبة الإسكندرية.

يشير الكتاب من أول صفحة لآخر صفحة إلى شيء خطير وهو أن التجارة غير المشروعة لم تعد حكرا على مجتمع دون آخر، بل إن كل المجتمعات الغنية والفقيرة في ذلك سواء، كما يؤكد أيضا على أن هذه التجارة ليست ظاهرة خفية تتم تحت الأرض أو في عالم آخر بعيد عن عالمنا فهي أقرب إلينا مما نتصور، وكثيرا ما تكون تحت إطار من الشرعية. ويشرح نعيم كيف أن التكنولوجيا الحديثة لعبت دورا في توسيع نطاق وحجم السوق سواء من حيث سهولة النقل، أو خلق مجالات جديدة مثل برامج الكمبيوتر المنسوخة، أو المخدرات المعدلة جينيا، وفتح مجالات جديدة كان من المستحيل من قبل التعامل معها مثل الكلى البشرية.

إذاً، لا يوجد منتج بالعالم في مأمن. فحتى الأدوية يتم تقليدها وتتراوح ما بين الأدوية الفعالة التي لم تتم حمايتها عن طريق التسجيل في دائرة العلامات التجارية، إلى الأدوية الفتاكة كدواء السعال المغشوش الذي تسبب في مقتل ما يقرب من 100 طفل في هايتي. وتمتد قائمة الأعمال المحظورة المتزايدة مثل العاج المأخوذ بصورة غير شرعية من أنياب الأفيال، والأسلحة المهربة حتى لو كانت نووية، والمخدرات حتى أن موسى نعيم تكلم مع بعض المراهقين فقالوا بأنهم يمكنهم الحصول على حقيبة مليئة بالمرجوانا خلال عشرين دقيقة. أما الكوكايين فيتطلب بضع ساعات، كما قال له أحد المراهقين ذوي الخمسة عشر عاما. إنهم يجدون عملية شراء سيجارة حشيش أسهل من شراء علبة سجائر.

انهيار سور برلين في أوائل التسعينات له علاقة قوية بتجارة المخدرات، إذ قامت عدة دول بتخفيف القيود التي وضعتها أمام الاستيراد والتصدير وتخلصت من القوانين والقواعد التي تعوق الاستثمار الأجنبي، كما لعبت الخصخصة وعمليات تحرير التجارة من القيود دورا أيضا في زيادة التجارة غير المشروعة. ويشير الكتاب إلى أن كل هذا لا يعني أن ملكية الدولة تمثل تأمينا بل على العكس تماما، كما أوضحت تجربة الصين، حيث ارتبطت الشركات التابعة للدولة بعمليات التزييف. وفي الوقت نفسه فإن الاتجاه إلى رفع القيود عن التجارة لم يشجع عمليات الخوض في مجال الأعمال والاستثمار فحسب، وإنما ضاعف أيضا الطرق التي اعتمد عليها التجار غير الشرعيين لإنشاء واجهات مشروعة لغسيل أموالهم.

أسهم انهيار سور برلين أيضا في خفض تكلفة القيام بالأعمال التجارية. فمركزية السلطة لا تعمل جيدا في السوق العالمي سريع الحركة حيث تتغير الفرص والمخاطر بسرعة شديدة. ويلمح الكتاب صراحة إلى أن الجماعات الإجرامية الأكثر تنظيما تتشابه مع الشركات، فكلما زادت المركزية والروتين أصبحت غير قادرة على القيام بأنشطتها على الوجه الأمثل.

ويتوقع الكتاب أن تلعب أنشطة شبكات التجارة العالمية غير المشروعة وشركاؤها في العقود المقبلة دورا أكبر مما نتخيله فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، واستراتيجيات التنمية والتطوير، ومجال الأعمال والتمويل، والهجرة، والأمن العالمي. فالصفوة السياسية والعسكرية ورجال الأعمال في كثير من الدول سوف يجدون الدفاع عن أشكال التجارة غير المشروعة أجدى من انضمام دولهم إلى منظمة التجارة العالمية.

وتحت عنوان «قمة الانحلال الأخلاقي» يكشف الكتاب أقنعة تجارة الرقيق، وخاصة الرقيق الأبيض، في العصر الحديث، التي يصفها بأنها من أدنأ الطرق التي تنتقل بها العمالة في ظل النظام العالمي الجديد، حيث يتم خداع النساء باستخدام الوعود الكاذبة في معظم الأحيان، أو أحيانا يتم ببساطة اختطافهن، ونقلهن عبر الحدود بالتواطؤ مع بعض المسؤولين. أيضا يتم شراء أطفال والمتاجرة بهم وعرضهم للتبني في الغرب. ففي ألبانيا يقوم التجار غير الشرعيين بمنح العائلات الفقيرة خمسة آلاف يورو مقابل الوليد الجديد، وأحيانا تتم الصفقة قبل عملية الإنجاب مقابل سعر بخس مثل تلفزيون A Son for TV وهو عنوان إحدى المقالات المنشورة بصحيفة النيويورك تايمز عام 2003 عن طفل ألباني عمره ثلاث سنوات قام أبوه ببيعه لأحد الوسطاء مقابل جهاز تلفزيون، وهذا بدوره باعه في ايطاليا مقابل ستة آلاف دولار. ويوضح الكتاب أنه برغم الجهود المبذولة لمحاربة هذه الممارسات إلا أن تقريرا أصدرته الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون بأوروبا عام 2003، يشير إلى أن هذه التجارة لم تتراجع، وإنما على العكس.

ما هو القاسم المشترك بين إنسان الغابة والكلى البشرية والنفايات وفان جوخ؟ إنه أحد عناوين الكتاب الذي يتحدث فيه المؤلف عن عمليات نقل الأعضاء بشرائها من فقراء بسعر بخس، ليس الكلى فقط، بل القرنية، والكبد، والرئة، والبنكرياس، والقلب.. الخ. وهناك بعض المواد المتاحة بالفعل للبيع مثل الدم والسائل المنوي، البلازما والنخاع. وفي هذا المجال، برزت شبكات عالمية متطورة إلى حد كبير، تضم أطباء وجراحين ومديري مخازن وسماسرة ومسؤولين حكوميين مقابل رشاوى، أو رسوم يتقاضونها. وكما يذكر المؤلف فإن الساحة تضج بقصص مرعبة عن «تبرعات» تتم بالقوة، فقد يتم تخدير المريض لإجراء عملية بسيطة ليجد المريض نفسه وقد خسر كليته!. ويتكلم الكتاب تحت نفس العنوان عن التجارة في فصائل الحيوانات النادرة وكذلك الأشجار، وتسهم هذه التجارة في انتقال الأمراض الحيوانية إلى الإنسان مثلما انتقلت عدوى السارس والايبولا. وكذلك التخلص من النفايات السامة تحت مسميات مختلفة، وفي ظل وجود شركات وهمية تعمل كواجهات في العديد من الدول ولها علاقات وطيدة مع سياسيين ومسؤولين عن تطبيق القانون.

ثم ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى قضية أخرى وهي سرقة الأعمال الفنية، مشيرا إلى أن اللص لم «يعد نبيلا متعلما معتمدا على الحيلة»، فقد أصبحت هناك عصابات متخصصة تستخدم هذه «السرقات الفنية» لغسل الأموال.

ويتساءل نعيم عن السمات المشتركة بين أشكال التجارة غير المشروعة، والإجابة أنها كلها ضخمة ومتنامية، ونتيجة لذلك، تفشل الحكومات برغم الجهود الضخمة المبذولة، في محاربتها، والحد من نشاطاتها في الأقل، بينما هناك حكومات متورطة في التواطؤ معها. يجيب المؤلف بأن النجاح في هذه الحرب يتطلب تغييرا جذريا في الطريقة التي نتعامل بها معها، فهذه التجارة ليست لغزا، فلدينا كل المعلومات اللازمة لتحديث ما نعرفه عنها. وعلينا، أيضاً، أن نضع في حساباتنا عدة اعتبارات في التعامل معها، أولها: إن التجارة غير المشروعة تتحرك بدافع تحقيق مكاسب مالية ضخمة، وليس نتيجة القصور الأخلاقي. ثانيا، تشكل هذه التجارة ظاهرة سياسية فلا يمكن أن تتقدم وتنمو دون مساعدة من شركاء في حكومات يتقلدون مناصب رفيعة فيها. ثالثا: هذه التجارة ترتبط بالمعاملات أكثر مما تدور حول المنتجات، وبدلاً من محاربة كل شكل من أشكال هذه التجارة بشكل مستقل، من الأفضل أن نفكر في التجار غير الشرعيين حسب الدور الذي يقومون بتنفيذه، من مستثمرين، ومديري بنوك، ورجال أعمال، وسماسرة، وجهات نقل، وأصحاب مخازن.. الخ.