الروائي السعودي فهد العتيق: بالونة الأدب الإعلامي على وشك الانفجار

يرى أن الكاتبة السعودية أكثر قدرة وأقل تكلفا في كتابة النص الروائي الحديث من الكاتب السعودي

TT

يعتقد الروائي السعودي فهد العتيق أن الرواية السعودية تعاني في الغالب من تواضع القدرة على المعالجة السردية الحديثة وتستعيض بموضوعات تقليدية مثيرة أو لغة البلاغة المتكلفة، ويرى أن الأدب النسائي السعودي أقل تكلفا وافتعالا من نظيره الذكوري. هنا حوار معه أجرته «الشرق الأوسط» في الرياض:

> ركزت في رؤيتك النقدية عن المشهد الروائي السعودي على جانب ضعف المعالجة السردية في بعض الروايات، هل توضح لنا هذه الرؤية، وكيف ترى مستقبل الرواية السعودية بعد هدوء «العاصفة الروائية» قليلا؟

- الملاحظات النقدية الموضوعية والجادة لا تقلل من قيمة اجتهاداتنا الروائية الطموحة. فنحن جميعا فرحون بهذا الكم من الروايات المتميزة فعلا في بعض فصولها والمتواضعة في فصول أخرى كثيرة، كما أنني أجد متعة وتمرينا ذهنيا في الكتابة عن النصوص التي تعجبني والنصوص التي لي عليها ملاحظات انطباعية، وبصراحة، فقد أبهجني جدا كأنني وجدت ضالتي، حين تصاحب جمال السرد مع عفوية الأداء الفني وعدم تكلفة في روايات «كائنات من طرب»، و«روحها الموشومة به»، و«حدة الأشواك»، و«بنت الجبل»، و«ساق الغراب»، وهذه الروايات بالتتابع هي لأمل الفاران ووفاء العمير وصلاح القرشي ويحيى سبعي، رغم بعض الملاحظات عليها ورغم ابتعاد كثير من فصولها عن هموم وأمراض الواقع المعاش التي تحتاج إلى ضوء سردي فني كبير. وحتى لا يبدو في الأمر مبالغة أقول إن سر جمال هذه النصوص الروائية ليس في قوتها وتجديدها، لكن في بساطتها وتحررها من التمثيل والتكلف والافتعال والحيل والمصادفات والمبالغات التي هي سمة اغلب رواياتنا للأسف. لكن بشكل عام حين تقرأ الكثير من هذه النصوص السردية التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة بهدوء وتأن، سوف تكتشف أن هذه الرواية في كثير من نماذجها المعروفة تعاني من إشكالية البحث عن موضوعات ضخمة، وعن حيل مفتعلة تحيل النصوص وحكاياتها إلى شيء واضح التصنع والتكلف لغة وموضوعا، مع ضعف واضح في القدرة على المعالجة السردية الحديثة، وهذا الضعف بمساحته الواسعة يطغى على الجوانب المضيئة في النص، مما يعني عدم اهتمام الكاتب بنصه السردي قدر اهتمامه بالطباعة. ولم تنشغل هذه النصوص بمحاولة كشف أمراض وأعطاب المجتمع وتشخيص أسبابها التي أوصلته لهذه الحالة التي لا تسر، تجاه جوانب كثيرة مثل تناقضات الواقع بمختلف جوانبه وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، وأسباب ظواهر التطرف في كل جوانب الحياة. أضف لذلك معاناة نصوص روائية كثيرة لكتاب آخرين من لغة البلاغة القاموسية الصعبة التي تدعي شعرية النص، ما يعنى فقد هذه النصوص لتلك السلاسة والعفوية والهدوء التي هي جوهر النص الأدبي.

> هل ينطبق هذا على جميع الروايات السعودية التي قرأت، وماذا عن رواية الكاتبة السعودية؟

- في كثير من الروايات للكاتبات والكتاب، نجد فصولا متميزة بمعالجات سردية رائعة وجادة، لكن الموهبة تحتاج إلى جدية في تطوير ذاتها بعيدا من فكرة غزارة طبع الكتب متوسطة المستوى والحضور الإعلامي والصحافي المسيطرة على أذهان كثير من كتابنا، حيث تعاني اغلب النصوص من افتعال الموضوعات والتعجل في النشر. لكن الروايات الأخيرة التي صدرت لأسماء روائية بعضها جديد على الساحة الأدبية كانت متحررة من مشاكل تكلف الموضوعات الكبيرة والافتعال ولغة البلاغة. وعلى سبيل المثال أرى روايتي «روحها الموشومة به» و«كائنات من طرب» و«حدة الأشواك» من أجمل الروايات المحلية والعربية التي قرأت في السنوات الأخيرة. وهي تكشف أن الكاتبة السعودية أكثر قدرة وأقل تكلفا في كتابة النص الروائي الحديث من الكاتب السعودي. روايات مثل «الفردوس اليباب» و«بنت الجبل» و«حدة الأشواك» و«ساق الغراب» و«الأسطح والسراديب» و«ميمونة» و«بنات الرياض» و«الوارفة» و«الآخرون» و«هند والعسكر» و«فتنة»، إضافة إلى كتابات سردية جميلة قرأناها لبدر الراشد ومحمد الحميد، كانت أفضل من ناحية الأداء الفني والمعالجة والموضوعات الأقل تكلفا وافتعالا، حيث العفوية والهدوء والبساطة الموحية. وبصراحة يمكن القول ان الرواية التي تكتبها الكاتبة السعودية هي في الغالب اقل افتعالا وتكلفا لغة وموضوعا من الروايات التي كتبها اغلب كتابنا ربما بسبب اقتراب المرأة من التفاصيل الاجتماعية للحياة اليومية، بالإضافة إلى أن هاجس الحضور الإعلامي المحلي والعربي والدولي والتعجل في النشر موجود لدى الكاتب أكثر من الكاتبة. وطبعا هناك كاتبات جديدات حاولن بروح ثقافية عالية تعرية ومحاربة العنف الواضح ضد المرأة والظلم الذي تتعرض له وإبراز قضية تجريم الحب في مجتمع ينظر لهذه المشاعر نظرة تقليدية قاصرة، وهذا رائع لولا أنه يتم بأدوات أدبية ضعيفة أحيانا. وبشكل عام ما زالت رواياتنا بحاجة إلى الكثير، لغة ومعالجة وأفكارا، لكي تتحقق بشكل أفضل وهذا لن يحدث إلا في حال تكريس الكاتبة والكاتب لوقته واحتشاده الجاد يوميا بعيدا عن الحضور الإعلامي المبالغ فيه، وبقراءة النصوص الروائية العربية والعالمية المتقدمة في هذا الشكل الأدبي الهام.

> على المستوى العربي، هل ترى أن هناك روايات حققت نقلة نوعية بعد جيل الروائيين الكبار؟

- تصدر المطابع العربية المئات من الكتب الروائية في كل عام، وهي في الغالب متوسطة المستوى، لكن في السنوات الأخيرة شهدنا مولد الكثير من المواهب الروائية العربية الحقيقية، فلدينا ألان أسماء أدبية عربية جديدة ومهملة إعلاميا من كتاب وكاتبات الرواية العربية المتميزين والمتميزات فعلا بنصوص غاية في الجمال والإبداع السردي الروائي الخلاق، إذ لا يمكن تجاهل روايات عربية شابة حققت لذاتها وللرواية العربية نقلة رائعة في المفهوم الحديث للنص الروائي السهل والعميق في آن واحد، وعلى سبيل المثال روايات العراقي علي بدر والسوري خالد خليفة والسورية أنيسة عبود والفلسطينية رجاء بكرية، وسالم حميش من المغرب، وزيد مطيع دماج وعلي المقري من اليمن، والحبيب السالمي من تونس، والطيب الزبير من السودان، إضافة إلى كتاب وكاتبات من مصر مثل سيد الوكيل (فوق الحياة قليلا)، سعيد نوح، عبد الحكيم حيدر (ورد الأحلام)، هويدا صالح، وحيد الطويلة في رائعتيه (العاب الهوى واحمر خفيف)، مكاوي سعيد في رائعته «تغريدة البجعة»، حمدي أبو جليل، حمدي الجزار (سحر أسود) محمد الفخراني (فاصلة للدهشة)، هناء عطية، نجلاء علام، أمينه زيدان، ياسر عبد الحافظ (بمناسبة الحياة)، ياسر عبد اللطيف، توفيق عبد الرحمن، محمود حامد ،حسين عبد العليم (بازل ورائحة النعناع)، وغيرهم من الأدباء والأديبات الذين قدموا في رواياتهم وعيا حديثا للرواية الجديدة بلغتها المبدعة ومعالجاتها السردية المتقدمة غير المتكلفة ليتواصلوا مع مسيرة سرديين عرب كبار مثل إبراهيم أصلان وبهاء طاهر وادوار الخراط وسلوى بكر وغيرهم من كوكبة المبدعين.

> كانت الساحة الأدبية السعودية تعاني من قلة الإنتاج الروائي قبل حوالي عقدين ثم تداعت الروايات بكم كبير فما هي من وجهة نظرك أسباب هذا التدفق الروائي؟

- ربما السبب الأول فني، حيث كان لدى الكثير من كتاب القصة والنقاد فكرة خاطئة عن الرواية، إذ كانوا يتصورون أن الرواية لا يمكن أن تكون رواية إلا في حال كانت طويلة جدا اقرب إلى الملحمة، وكثيرة الشخصيات والأحداث، وان تتناول موضوعات وقضايا كبرى، وتكون معقدة اللغة والمعالجة حتى تظهر قدرات الكاتب! وربما هذه الرؤية القاصرة من أهم أسباب تأخر هذا التدفق الروائي الغزير، وهو أيضا سبب من أسباب ضعف الرواية الآن، لان هذا المفهوم عن الرواية لازال سائدا للأسف. أما السبب الثاني فقد قرأت حوله ورقة إنشائية ألقاها أحد نقادنا في مؤتمر عقد في الإمارات قبل فترة، قال فيها أنه في الثمانينات لم يكن لدينا إنتاج روائي واضح. وقال زميل روائي آخر أن سبب عدم إقبال كتاب القصة على كتابة الرواية قبل عقدين يعود إلى تخوف الكاتب من سلطة النقد الصارمة. وفي الحقيقة لا أتفق مع هذين الرأيين، لسبب أنه في الثمانينات صدر لدينا الكثير من الكتب السردية القصصية والروائية لكن للأسف لم يواكبها نقد جاد من نقادنا الدكاترة، فلدينا أكثر من خمسة نقاد معروفين من الدكاترة يكتبون من الثمانينات حتى الان وهم بطيئون في قراءة الكتب السردية القصصية والروائية التي صدرت لعبد العزيز مشري وإبراهيم الناصر وجار الله الحميد ومحمد علوان وعبد العزيز الصقعبي وصالح الأشقر وعبده خال وشريفة الشملان وبدرية البشر واميمة الخميس وعبد الحفيظ الشمري وغيرهم من الكتاب والكاتبات،ولا نبالغ إذا قلنا لا يقرأونها. وقد صدر في الثمانينات والتسعينات الكثير من الكتب الروائية والقصصية لكنها لم تجد منهم اهتماما.

> روايتك «كائن مؤجل» لاقت قراءات نقدية عربية جادة كما حظيت برؤية نقدية من الدكتور غازي القصيبي الذي وصفها بـ«نبض الشوارع الخلفية». لكن السؤال هل ستكتفي بهذه الرواية مع ستة كتب قصصية صدرت لك كان اخرها الكتابان القصصيان «هي قالت هذا» و«كمين الجاذبية» العام الماضي. هل يمكن اتهامك بقلة الإنتاج الأدبي؟

- بصراحة أنا أفضل القراءة والكتابة والسفر والحياة الهادئة على فكرة الطباعة والحضور الأدبي والإعلامي. أسوأ شيء يمكن أن أرتكبه هو حضور مؤتمر أو ندوة أو متابعة كتاب لي في المطابع، لا أحب ذلك وأسعى إلى تأجيله ما استطعت إلى ذلك سبيلا، كما أن (11) كتاباً في خمسة وعشرين عاما ليست قليلة، وخاصة إذا كان الكاتب يركز على القيمة والمستوى. لقد أصدرت سبعة كتب وعندي أربعة كتب جاهزة للطبع الان، هما روايتان وكتاب مفتوح على أشياء كثيرة اسمه: «قراءة في الكتب والمدن والمقاهي والبارات»، وكتاب قصصي للأطفال، كما أن هذه الحياة بتفاصيلها اليومية هي النص الأدبي الحقيقي من وجهة نظري. فالحياة بكل أفراحها وأحزانها وتفاصيلها الكبيرة والصغيرة هي النص الكبير والجميل الذي أحاول معايشته بكل عمق لمحاولة فهمه، تساعدني في ذلك محبتي الكبيرة جدا للقراءة حيث اقرأ على الأقل بمعدل كتاب كل يومين بمتعة كبيرة جدا، ثم تأتي مسألة الكتابة تاليا بعد ذلك. لكن بصراحة بغض النظر عن الإنتاج الأدبي الكمي، يهمني أن يكون لأدبي صوته الخاص وبصمته الخاصة التي لا تقلد ولا تتكرر وقضاياه المتجددة. وقد حققت هذا الصوت الخاص في كتب «إذعان صغير» و«أظافر صغيرة» و«كائن مؤجل» و«هي قالت هذا» و«كمين الجاذبية». لي ملاحظات نقدية دائمة على تلك الكتب، وأريد فنيا تجاوز هذا المستوى من العطاء بعيدا عن فكرة الحضور الإعلامي والمؤتمرات والترجمة وغير ذلك من أنواع الحضور لأنني على قناعة أن الكاتب بحاجة إلى الهدوء للاستمتاع بوقته وبحياته وإبداعه بعيدا عن ضجيج الإعلام.

> هل «كائن مؤجل» إدانة لعالم انتقل من بيوت الطين البسيطة إلى بنايات الاسمنت المسلحة دون استيعاب للحركة الحديثة ومكوناتها؟

- في «رواية كائن مؤجل» محاولة للتأكيد على روح المكان الذي أعتبره هوية حقيقية للإنسان مقابل رغبات بتغريب المكان وطمس هويته بدعاوى التطوير والتحديث، وتأكيد أيضا على الروح الإنسانية العالية التي بدأنا نفقدها شيئا فشيئا وسط هذا العالم الاستهلاكي الفاسد الذي يقلد الغرب في جانبه السلبي، ويهمل العمل والانجاز الحقيقي، الذي هو جوهر الحياة الإنسانية. لقد اتلف الأديب الياباني الكبير (ميشيما) نفسه احتجاجا على الفجوة الهائلة التي خلفها غياب القيم الأصيلة في اليابان، التي حلت محلها القيم الغربية الفاسدة والانحلال الأخلاقي، معبرا عن وعي حقيقي بأهمية أن يكون الأديب ضمير أمته بمواجهة ومجابهة كل أدوات تخريب الحياة الحقيقية واستبدالها بأخرى مزيفة .

> في «كائن مؤجل» كان الطبيب النفسي أكثر مرضا من بطل الرواية الذي يراجعه. هل تعتقد ان التكوين الثقافي والحضاري المتوارث زرع في نفوس المجتمعات المحافظة شيئا من العقد النفسية؟

- إذا كان هناك تشدد ديني أدى إلى الإرهاب المتخلف سلوكا وممارسة، فهناك تطرف من جانب آخر باسم التحرر أدى إلى الفساد والانحلال الأخلاقي المتخلف سلوكا وممارسة. والمؤسف أن بعض المثقفين والكتاب لازالت تدور علامات استفهام حول سلوكياتهم المتخلفة. ويكفي قراءة مقالة الروائية أميرة القحطاني بعنوان «مع الاعتذار للمثقفين المحترمين» لكي نقف على مأساة هؤلاء المعجبين بذواتهم المريضة .

> ترجمت لك بعض القصص إلى الإنجليزية والفرنسية.. إلى أي مدى خدمتك هذه التجربة؟

- لا تشغلني هذه المسألة كثيرا. يهمني أن يكون لأدبي صوته الخاص وبصمته الخاصة وقضاياه المتجددة وقيمته الحقيقية والمهم فنيا وموضوعيا، وليست القيمة المزيفة أو المفتعلة. لست محتاجا إلى الركض وراء الإعلام الغربي والترجمة لاستجداء حضن غربي، لأنني على قناعة أن الكاتب الذي ليس له قيمة حقيقية في أمته لن يكون له قيمة حقيقية في مكان آخر، هذه القيمة الثقافية العالية هي التي تلقائيا توصل همومك وقضاياك وصوتك الحقيقي المبدع لأنحاء العالم