«أبو الأنثروبولوجيا» يطفئ 100 شمعة

كلود ليفي ـ ستراوس: فتوحات كبيرة مصحوبة بالجدل والإثارة

TT

نزوع كلود ليفي ـ ستراوس، الأنثروبولوجي والإثنولوجي الفرنسي الكبير، ذي الجذور اليهودية، إلى الابتعاد عن الأضواء جعل الكثيرين يتصوّرون أنه رحل عنا منذ فترة، ولكن الحقيقة هي أنه لا يزال حياً ويرزق وقد بلغ الآن سن المائة (28 نوفمبر 1908)، شأنه في ذلك شأن المخرج السينمائي البرتغالي مانويل دي أوليفيرا (12 ديسمبر 1908). والاحتفالات الفرنسية الحالية بهذا العالم المتميز لها ما يبررها، فقد أثار ستراوس من خلال أبحاثه وآرائه جدلا كبيرا، ولا تزال طروحاته تثير الأسئلة، وتعين على فتح آفاق جديدة. من هو ستراوس؟ وما الذي منحه تلك الأهمية التي يستحق؟

نخرج من قراءة نصوص ليفي ـ ستراوس بصورة عن المفكر الموسوعي، الذي كتب في غير ما موضوع، عن «أنظمة القرابة» عن البنية والبنيوية (تحليله الشهير لقصص بودلير) عن التواصل «الذي هو فيزيقي ورمزي في آن معا» و«كل ما يدور بين البشر، من ممتلكات وكلمات وأشخاص، يمكن أن يعتبر فعلاً تواصلياً». وقد كتب ستراوس عن الطبيعة/ الثقافة: «إن التمظهر الأول للثقافة باعتبارها منتوجا للعقل البشري هو وُجود قواعد. توجد قواعد في الفن والقرابة والدين. فالطبيعة تستجيب لأسباب، وبعض القواعد مثل التحريم وزنا الأقارب هي كونية، من حيث المبدأ، ولكنها مختلفة من خلال تمظهراتها». وثمة مواضيع أخرى تناولها ستراوس مثل «الطوطمية» و«تنوع الثقافات» وغيرها. وقد تسببت مواقفه من تنوع الثقافات في الكثير من الجدل، خصوصاً حين حكم على فكرة «الحضارة العالمية» بكونها تجريداً، وحين تحدث سنة 1971 عن «صمَم» بين الثقافات.

وقد كان اكتشافه لماركس والتحاقه بالحزب الاشتراكي من بين الأسباب التي جعلته يبتعد عن الشأن الديني، بل ويعبر عن نفور شخصي شديد من التدين، لكنه سيعود لاحترامه. «كنت في سن العشرين، معادياً للشعور الديني لكن مع مرور الزمن أصبحت أكثر تسامحاً، على الرغم من أني أظل أصمّ إزاء الأجوبة الدينية».

وقد كان ظهور كتاب «مدارات حزينة» بمثابة قنبلة في حينه، وأعلن عن ظهور مفكر ورحالة وعالم وأديب. ونجاح «مدارات حزينة»، الذي ظهر في أكتوبر 1955، كان سريعا، وحظي بتقريظ من قبل أهم كتاب عصره ومن بينهم موريس بلانشو وجورج باتاي وميشيل ليريس وريموند أرون. وعلى الفور اشتهرت تعابير أطلقها ستراوس مثل «أنا أمقت الأسفار والتنقلات» و«وداعا للمتوحشين، وداعا للأسفار». ولأن كتابه كان متميزاً، عبرت لجنة جائزة الغونكور حينها، أي في ديسمبر من نفس السنة، عن أسفها لعدم استطاعتها منح الجائزة للكتاب لأن قوانين الجائزة تفترض أن تمنح لكتاب تخييلي. ويبدو أن نجاح الكتاب فتح أمام ستراوس الكثير من الآفاق، فقد منح جائزة أول ريشة ذهبية، تعطى لأفضل كتاب عن الرحلة أو مغامرات السَّنَة، لكنه رفض تسلم الجائزة. وهذا ما جعله يتكرّس ليس فقط كعالِم بل وككاتب يعكس صورة عن الحياة الفكرية.

إن كتاب «مدارات حزينة»، يرى فيه الكاتب الفرنسي ريجيس تيتامانزي Régis TETTAMANZI في كتابه «الكتاب الفرنسيون والبرازيل» (دار لارماتان 2004) أنه يشكل نقطة فارقة في العلاقة مع البرازيل والهنود الحمر هناك. وبالتالي يشكل قطيعة مع كل الكتابات السابقة، وخصوصا كتابات القس جوزيف بورنيشو وألبير كامو وبول كلوديل وبنيامين بيريت وغيرهم. لقد كان دفاع ستراوس عن الهنود الحمر وأنماط عيشهم قوياً، وساهم مع جامعيين آخرين في تأسيس جامعة ساوباولو. وشهرته الكبيرة في البرازيل جعلت منه نجماً أثناء انعقاد سنة البرازيل في فرنسا. وليس من الغريب أن يشاطر الهنود الحمر البرازيليين خيبة أملهم من عدم تنفيذ الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا لوعوده الانتخابية في ما يخصهم.

لم يكن الكتاب الذي يبتدئ بمقولته الشهيرة «إني أمقت الأسفار والاستكشافيين»، احتقارا للسّفر وإنما دعوة لنوع جديد من السفر. ويفسّر ستراوس معنى هذه الجملة التي أثارت غضب واستغراب الكثيرين وعلى رأسهم بول ريفت، في كتاب «عن كثب وعن بعد». وهي محاورات أجراها معه الصحافي ديديي إيريبون DIDIER ERIBON، بالقول: «تطلب الأمر مني كثيراً من الرحلات. لكني لا أحب السفر من أجل السفر. وأنا على اتفاق كامل مع مدام ستايل حين تقول: إن السفر يظلّ إحدى مُتَع الحياة الأكثر حزنا. وما عدا سنواتي الأولى، لم تثر الأسفار حماسي أبداً».

ولكن ما هو أكثر استفزازا في الكتاب يبقى موقفه القاسي من الإسلام ومن العرب. في مقابل اللطف والتسامح الشامل للبوذية والرغبة المسيحية في الحوار، فإن اللاتسامح الإسلامي يتبنى شكلاً لا واعيا لدى أتباعه. لأنهم إن لم يكونوا يريدون دائما أن يقودوا الآخرين، بطريقة عنيفة، إلى تقاسم حقيقتهم، فإنهم (وهنا يبدو الأمر أكثر خطورة)، يَبْدُون عاجزين عن تحمّل وجود آخَرين باعتبارهم آخَرين. الوسيلة الوحيدة بالنسبة لهم للاحتماء من الشكّ والإهانة تتجلى في «عملية إفناء» الآخرين، الذين يُنظر إليهم باعتبارهم شهود إيمان آخر وسلوك آخر.

ويذهب ستراوس إلى درجة مقارنة جمود الإسلام بجمود فرنسا العاجزة عن تجاوز عظمة الحقبة النابوليونية. ويقول أيضا «المشكلة التي يعاني منها الإسلام تتجلى في التفكير في العزلة. فالحياة، بالنسبة للإسلام، هي قبل كل شيء الجماعةُ، والموتُ يستقر دائما في إطار جماعة، محرومة من كل مُساهم».

ولكن ما يجب الإشارة إليه هو أن موقفه من إسرائيل هو الآخر لم يكن مؤيداً، أو أعمى، وهو ما كان يثير حزن المفكّر الفرنسي اليميني ريمون أرون. وفي رسالة أرسلها ستراوس لأرون يقول: «لا يمكنني أن أنظر إلى تدمير الهنود الحمر كجرح، وأتصرف عكس ذلك حين يتعلق الأمر بالعرب الفلسطينيين، على الرغم من أن اللقاءات القصيرة التي جمعتني بالعالم العربي أوحت لي بنفور لا يمكن استئصاله». ويعترف ستراوس أن عدة شهور قضاها في بنغلاديش لم تجعله يحس بأي ميل نحو هذا البلد.

ويبدو أن مواقف ستراوس من اليهودية وإسرائيل هي التي جعلت مواقفه من الإسلام تبدو أقل قسوة، أو أنها أثارت انتقادات أقل إذا ما قورنت بالاحتجاجات التي أثارتها مواقفه من الأعراق ومن التنوع الثقافي.

«اليهودية كانت بالنسبة لأبويّ ليس أكثر من تذكار. لقد ترددتُ كثيرا قبل زيارتي إلى إسرائيل، لأنّ إعادة الاتصال الجسدي مع الجذور تشكل تجربة مؤلمة». كما أن ستراوس عبر في رسالته السابقة الذكر إلى ريمون أرون عن اتفاقه مع مقولة الجنرال دوغول الشهيرة عن دولة إسرائيل: «واثقة من نفسها ومُهَيْمنة». ويعبر عن قرفه من قيام بعض زعماء الطائفة اليهودية في فرنسا بالتحدث باسم جميع اليهود. بالفعل كانت مواقف كلود ليفي ـ ستراوس أحيانا غير منتظرة، وهو ما يشكل أصالته. فها هو يرفض التوقيع على «بيان 121» من أجل الدفاع عن «حق العصيان، أثناء حرب الجزائر»، في حين أنه وقّع، سنة 1958، على النداء من أجل السلام في الجزائر، على الرغم من أنه الآن لا يتذكر إن كان بالفعل قد وقّع على البيان.

وثمة موقف آخر للاختلاف، عن الآخرين، عبر عنه الأنثروبولوجي الفرنسي، سنة 1971، وهو تبنيه موقفاً مختلفاً عن برنامج اليونسكو. وقد اعتبر أن منظمة اليونسكو تتيه حين تحاول مُصالَحَة نزعتين تناقضيتين، سبق للانثروبولوجي أن أشار إليهما في كتابه «عرق وتاريخ»، وهي أن التقدم التحديثي (التمديني) يقود إلى ازدياد السكان، وهو ما يساعد على التبادلات الثقافية. ولكن هذه التبادلات تقود إلى محو التنوع الثقافي.

يتدخل ستراوس للتأكيد على حق كل ثقافة في أن تظل «صمّاء» إزاء قِيَم الآخَر أو انتقادها. وهو ما يعني استبدال التصور الذي تدافع عنه اليونسكو عن الإنسان المنفتح، على الآخر، بتصور آخر عن إنسان يميل، إلى أن يكون متحفظاً وحَذِراً إن لم يكن معادياً.

وقد دافع عن أفكاره في مقر اليونسكو مما تسبب في أزمة حقيقية، اعتبرها هو: «فضيحة جميلة». لكن الكثيرين اعتبروا أفكاره نوعاً من شرعنة الطروحات العنصرية. وقد ظل الأنثربولوجي الفرنسي وفياً لهذه الطروحات ودافع عنها مرة أخرى أمام اليونسكو سنة 2005، وكرّر القول ان الانفجار الديموغرافي هو كارثة مسؤولة عن مصائبنا وتقود إلى إفقار التنوع الثقافي. ويرى أنه من أجل الحفاظ على التنوع الثقافي، يتوجب على الشعوب أن تَحُدَّ من التبادلات وتحافظ على مسافة فيما بينها.

التنوع الثقافي العزيز على قلب اليونسكو وعلى قلب ليفي ـ ستراوس، يطرح إشكالية حقيقية، في زمن العولمة، حيث العالم أصبح قرية كونية، وحيث اللغات تموت كل يوم. وبالتالي فإن طروحات الأنثروبولوجي التي كانت تعتبر عنصرية وتصب في اتجاه حزب الجبهة الوطنية العنصرية، حسب اتهامات اليسار الفرنسي حينها، تتطلب إعادة قراءة باعتبارها تتضمن نسبة لا يستهان بها من القلق المشروع.

الاحتفال بعيد ميلاد ستراوس فرصة لقراءة كتبه ومناقشة أفكاره، وفيما يخصنا، نحن كعرب، فلا نزال نناضل، دونما تقدم كبير، من أجل أن نفرض احترام الآخرين لنا، ونقنعهم بأننا قابلون للتطور مثل شعوب العالم الأخرى.