حجازي يعلن الحرب على قصيدة النثر

شعراء عرب يتصدون للهجمة

TT

قصيدة النثر... هذه الطفلة الممتلئة فرحًا وشغبًا، تشعل الحروب بين الشعراء، وتمضي غير عابئة بالجرحى والمعطوبين. إنها «كالدولة العبرية، ولدت في الحروب ولا تعيش إلا في مناخات الحروب»، بتعبير جهاد فاضل. وقد أثار كتاب أحمد عبد المعطي حجازي: «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» ردود أفعال متباينة، جلها ينتقد صاحب «مدينة بلا قلب». وقد تواصلنا مع الكثير من الشعراء لمعرفة إن كان هجوم حجازي على قصيدة النثر هو صراع أجيال أم أن هذه القصيدة لم تستطع أن تثبت نفسها، وبقيت جنساً أدبياً متأرجحاً بين الشعر والنثر، وهل الأمر يستحق كل هذه الضجة؟

الشاعر العراقي «شوقي عبد الأمير» يرى بأن قصيدة النثر صارت واقعاً في حياتنا الشعرية، فقد اجتاحت الساحة والغالبيّة العظمى من الشعراء الشباب يكتبون قصيدة النثر لا غير، ويتنبأ عبد الأمير بانقراض القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، قبل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا الأمر ـ بالنسبة إليه ـ صار من المسلّمات لدى محبّي قصيدة النثر ومعارضيها. ولهذا التطور أسباب يوجزها شوقي في تطور الخطاب الشعري العربي وعلاقته الوثيقة بالخطاب الشعري العالمي، كأحد الملامح الأساسية للشعر المعاصر، وتلاقح المعارف والفنون الإنسانية مع التطورات التكنولوجية: «التي أحدثت ثورتها وأنجزتها في العالم من حولنا، وما زلنا نحن نعوم في محيط فولكلوري مثل أسماك في أكواريوم معزول».

ويضيف بأن هذه الحقيقة تفرض نفسها حتى على: «من يتحسرون على الإيقاع والخطاب الغنائي الشعري. إنه عصر النثر شعراً ونثراً. أي إن خطاب هذا العصر هو النثر، وكل شيء يمرّ عبره. كما كان خطاب العصور القديمة هو الشعر، وكان كل شيء يمر عبره بما في ذلك الطب والفيزياء والنحو والتأريخ... كلّها كانت تكتب شعراً (الألفيّات). انعكست الآية اليوم وصار النثر هو الخطاب».

أما الشاعر المغربي «صلاح بوسريف» فيجزم بأن «ماضي الشعر يعلمنا أن الشعر يَصون مستقبله، في غفلة منا جميعاً، ولا يمكن أبداً، رهن مصير الشعر، بغياب شاعر ما». ويرى بأن: «الشعر اليوم، ليس هو ما كان بالأمس، بمعنى أن شعر المتنبي، وأبي تمَّام، أو غيرهما ممن خاضوا الشعر بشَغَف، لم يعد يُكتب بنفس الشروط، ولا بنفس الأشكال، أو المقترحات الإيقاعية، إذا حصرنا الأمر في الإيقاع تحديداً».

ويرى بوسريف ان الشعر استطاع تجاوز كل الأزمات، ويتخذَ لنفسه صيغاً أخرى للتعبير عن شِعْريته: و إذا عدنا لنصِّ حازم القرطاجني، في المنهاج، في رَده على من حكموا على الشِّعر بالفساد، أو بالانتهاء، سيتبين لنا، كيف أن الشعر أكبر من أزماته، أو هو يتجدَّد بأزماته، التي تكون نوعاً من المراجعة، أو القَومة، كما في تعبير بعض الفقهاء.

ويستدل بوسريف بمحمود درويش، وتجارب، ما بعد «أحد عشر كوكباً»، التي جاءت أكبر من الوزن: «كما أن درويش لم يكن وحده المعني بوزن الشعر، فثمة شُعَراء، غيره، ما زالوا يخوضون الوزن، في سياقه الإيقاعي الأوسع. حين نقرأ الأعمال الأخيرة لمحمود درويش، نجدُ نوعاً من النزوع نحو تخفيف الشعر من ثقل البلاغة، أو من شعرية القصيدة. وهذا لا يعني أن محمود تنازل عن الوزن، بل عمِل على استدْراجِهِ إلى جهات التركيب، والتعبير النثريين. يبقى فقط، على الشُّعراء الشبان اليوم، أن يستثمروا هذه المساحة التي خاض في أُفُقِها محمود تجربته الأخيرة، للخروج من فَقْرِ النثر، حين يذهبون إليه، بِيَد انها يَنقُصُها الشعر، أو لا تملك القدرةَ على وعي الإيقاع، بالصورة التي ذهب إليها درويش. إنَّ تجربة محمود، مثل تجربة أنسي الحاج والماغوط، وعفيفي مطر، وأدونيس، وسعدي يوسف، وغيرهم ممن يُزاولون الشعر اليوم بفَرح، أو يُزاوِلُونَ دَهشته، هي طريق، أو إحدى طُرق الشعر، التي تجعل الشعر يحيا، حتى في ما نفترض أنه أزمة».

وشبّه «شوقي عبدالأمير» إصرار حجازي على موقفه السلبي من قصيدة النثر بـ «إصرار» المستر باسبارتو بطل رواية «حول العالم في ثمانين يوماً»، الانجليزي التقليدي الوفي الصارم الذي يحترم قواعد وقوانين الحياة الانجليزيّة، ولن يقبل التنازل عنها. وعندما يسافر شرقاً تتغيّر الساعة بالطبع، ولكنه يرفض القبول بهذا التغيير، فيحتج وبقوة مؤكداً أن ساعته الانجليزية هي الصحيحة، وأن الشمس هي التي قد تخطِئ. ويضيف عبد الأمير: «لكن مهما كان من أمر الشاعر حجازي فإن له الحق في إصراره هذا، وبالتالي أجد موقفه هذا ضرورياً لتكامل صورة الحداثة الشعرية بكل أقطابها، ولكن بالمحصلة فإن مثل هذه المواجهات لا تقدم شيئاً ذا بال للشعر، ولو أنه أصدر ديواناً جديداً مثل «مدينة بلا قلب» لكان رائعاً حتى ولو كان شعر تفعيلة». بينما الشاعر الأردني «أمجد ناصر» يعلق بأن أحمد عبد المعطي حجازي اعتاد على هذا النوع من تناول الأشكال الشعرية العربية والصراعات الحتمية في داخل النص الشعري العربي، ويتساءل: «لا أعلم لِمَ كل هذا العداء تجاه قصيدة النثر من شاعر اعتبره رائداً في ما نسميه الآن القصيدة ذات النزعة اليومية والتفصيلية والمشهدية؟». ولأن حجازي لم يكتب الشعر منذ وقت طويل، ولم يقرأ له أمجد ناصر جديداً منذ عقدين، فهو: «يعوض حضوره في المشهد الشعري بهذا النوع من الجدل الذي يعرف، مسبقاً، أنه سيثير لغطاً». ويجزم ناصر بأن قصيدة النثر موجودة ولا مجال لنفيها مطلقاً من الكتابة العربية، «ولا ضير في وجود أكثر من شكل شعري واحد. فالشعر لا ينحصر بشكل، كما لا تنحصر القصيدة بقالب بعينه».

ولا يعترض الشاعر الفلسطيني «موسى حوامدة» على رفض حجازي لقصيدة النثر، ووصفها بما يشاء: «فمن حق من يكتبون هذه القصيدة ـ وأنا منهم ـ أن يواصلوا الكتابة»، ويضيف بأنه لم يتضايق من حجازي، منذ أن بدأ بطرحه قبل سنوات، لأنه: «شاعر كبير وله تجربة، ومن حقه أن يقول ما يشاء». ويلاحظ حوامدة: «أن عددا كبيراً ممن يكتبون قصيدة النثر لا علاقة لهم بالوزن ولا بالموسيقى ولا بالعروض. وبعضهم لا يعرف معنى التفاعيل والأوزان ولا عدد بحور الشعر، ولم يسمعوا بالفراهيدي. وهذه مصيبة كبرى. فكثير ممن يكتبون قصيدة النثر، كأنهم يكتبون خواطر أو قصصا قصيرة. لذا لست متضايقاً من رأي حجازي في قصيدة النثر».

ويرى حوامدة أن المؤمنين بالموسيقى والوزن في الشعر، ومنهم حجازي أقرب لروح الشعر الذي لا بد أن يحمل موسيقى وإيقاعاً بالضرورة، وليس كلاماً نثرياً خالصاً، لا تتوفر فيه شروط قصيدة النثر. فالكتابة صارت مشاعاً لمن يعرف ولا يعرف، والأسماء تفرض دون النظر لمستوى المكتوب».

ويواصل: «حتى لو غضب مني من يؤمنون بقصيدة النثر، أرى حجازي محقاً، على الأقل في احترامه لوجهة نظره وقناعته ودفاعه عنها دفاعاً مميتا».

الشاعرة المصرية «فاطمة ناعوت» تؤكد بأنها قرأت معظم مقالات حجازي في الصحف قبل أن يجمعها في كتاب وتعلق: «مللتُ السجالَ والدخول في معاركَ «خرساء» للدفاع عن كيان أقوى من الدفاع عنه، هو القصيدة الجديدة كما أسميها. حجازي عندي هو أوجست رينوار، الفنان الانطباعي الشهير، الذي هاجم المدرسة «الوحشية» التي ابتدعها هنري ماتيس ورفاقه في أوائل القرن الماضي، بعدما ضجروا من كلاسيكية التأثريين والانطباعيين في تعاملهم مع اللون على نحو سطحي. نحن الشعراء الجدد ماتيس. وحجازي، ومن على شاكلته، هو رينوار. لم يقدر رينوار على قتل ماتيس ومدرسته، بل قويت شوكتها وأفرزت السوريالية والتكعيبية وما بعدهما. فلينعتها بالقصيدة الخرساء أو العرجاء أو ليقل بشأنها ما يشاء. نحترم رأيه، ولا نأخذ به». أما الشاعر اللبناني «وديع سعادة» فاكتفى بالقول: «حين أقرأ كلام حجازي الهجومي على «قصيدة النثر» أضحك كثيراً. في الواقع، إن حجازي يسلّينا».