الألمان يكتشفون الثقافة العربية عبر البوابة الإماراتية

الاستشراق والاستغراب واختلاف حول «حرب اللغات»

الشاعر أدونيس
TT

فجأة وبدون مقدمات، التقى مثقفون وكتاب وشعراء ألمان بنظرائهم العرب، وأين؟ في دبي التي تعودنا أن يلتقي فيها التجار ورجال الأعمال وأهل المال، فما الذي أتى بهؤلاء المثقفين الألمان ليبحثوا عن سبل التقاء الثقافتين الألمانية والعربية على ارض الإمارات؟

أكثر من 200 من المثقفين والأدباء العرب والألمان، التقوا من خلال فعاليات ملتقى الحوار العربي الألماني، الذي تمكن بالفعل خلال يومين من تسليط الضوء على عدد من القضايا الثقافية ذات الاهتمام المشترك بغية استكشاف قنوات جديدة لمنح زخم جديد للتدفق الثقافي والمعرفي بين الشرق والغرب.

وقد فاجأ حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الحضور من المثقفين، العرب والألمان، بحضوره بينهم بدون موعد مسبق، ويبدو أن الزيارة المفاجئة للشيخ محمد كانت تهدف إلى تأكيد اهتمام الإمارات بالثقافة والمثقفين، كما هو اهتمامهم بالسياسة والاقتصاديين كذلك.

الغزل الألماني العربي كان واضحا في كثير من المحاور التي ناقشها الملتقى، وإن كان هناك من شذ عن هذه القاعدة ناقدا بل ومهاجما الثقافة الألمانية ودورها في الشأن العالمي.

كانت المناسبة فعلا لمعرفة ما الذي يريده المثقفون الألمان من نظرائهم العرب، وكان لافتا أن نقاط التلاقي بين الطرفين أكثر من تلك التي تفرقهم، خاصة أن التاريخ والجغرافيا أثبتا لنا أنه لا يوجد في التجربة العربية مع الألمانية ما يمكن أن يشكل حاجزا منيعا لمثل هذا الالتقاء.

وكعادتها، لا تزال ظاهرتا الاستشراق والاستغراب، تستقطبان الجدل الأكبر بين المثقفين أينما حلوا، وكذلك كانت إحدى الجلسات التي حملت عنوان «الاستشراق والاستغراب: التحولات والسجالات»، والتي كانت بالفعل عنوانا رئيسيا أشارت إلى أن الاختلاف كان محدودا بين المثقفين العرب ونظرائهم الألمان.

الدكتور فهمي جدعان أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي، طرح بعض الأمثلة على ما وصفه بالاستشراق النبيل من خلال تسميته لبعض المستشرقين القدامى والحاليين مستعرضاً بعضاً من مؤلفاتهم وأهم أعمالهم وأثرها في العالم.

كما تحدث عما وصفه بالاستشراق السلبي مدللاً على ذلك ببعض الأمثلة الحية من التاريخ والقائمة في وقتنا الحاضر وقال «يشتد ساعد الاستشراق السلبي من جديد» في إشارة إلى تنامي هذه الظاهرة مؤخراً.

أما الشاعر أدونيس فاعتبر أن كلاً من الاستشراق والاستغراب هما عبارتان ملتزمتان تخضعان للمنطق الإيديولوجي السياسي، والبحث فيهما ينطلق من الإيديولوجيات المغلقة، «ولو نظرنا إلى الفلسفة العربية التوفيقية التي جمعت بين الدين والعقل، سنجد أن هناك العديد من المستشرقين قد كتبوا بإعجاب وعمق عن الثقافة العربية أكثر من العرب أنفسهم وكذلك الحال لدى بعض المستغربين».

وذكرت البروفسورة الألمانية كاترينا ممزن إن الأصل أن يقوم الحوار على الاحترام والثقة، «فالتاريخ يشير إلى أن الحضارات كانت متسامحة في أوج قوتها، وأعتقد أن من جاء بمصطلح الاستغراب هو شخص يدعو إلى التسامح».

ودعت ممزن إلى ضرورة التسامح مشيرة إلى أن العديد من المفكرين لم يكونوا مقبولين في مجتمعاتهم وتعرضوا للرفض والقمع، وأن الاستغراب قد جاء كردة فعل على المهانة من بعد الاستقلال من الرأسمالية الغربية. وعبرت عن أملها أن يجعل الاستغراب الإيجابي العالم أكثر تسامحاً وتقارباً.

وتحدث البروفسور الألماني بيتر هاينه في ذلك السياق فقال: «إن هناك فرقاً بين الاستشراق كعلم وبين الاستشراق كموقف، وأن الكثير من الباحثين لم يتطرقوا إلى الإسلام كما هو على الأرض في الحقيقة وإنما كما يتصورنه في أذهانهم، والموقف الآن في ألمانيا يشبه هذه الفكرة إلى حد كبير».

ولفت البروفسور هاينه إلى أن هناك اهتماماً متزايداً لدى الغرب لفهم الإسلام، وقد زاد الوعي للتعرف على المزيد من المسلمين والعرب، داعياً الجميع لبذل مزيدٍ من الجهود والتعاون لمعرفة المزيد عن بعضنا البعض.

من ناحيته قال الدكتور حسن حنفي، مؤلف كتاب «مقدمة في علم الاستغراب»: «إن الاستغراب لا ينم عن كره أو حقد، بل هو التوجه نحو الغرب كمصدرٍ للعلم لكي يصبح موضوعاً والنظر إليه كمصدر كوجهة وحيدة للتعلم، يجب على العرب أن يتحرروا من هذه الفكرة وكأن العرب موضوع للدراسة وليسوا ذاتاً».

* حرب اللغات

* لعل الجلسة الأكثر إثارة حملت عنوان «حرب اللغات»، ليس لعنوانها المثير فحسب، ولكن لمضمونها المتعدد، ولأنها أيضا ناقشت محنة اللغات الأم في ظل هيمنة اللغة الإنجليزية في العالم، وما يترتب عليها من تبعية للثقافات الأخرى لثقافة معينة وضرورة الحفاظ على اللغات والثقافات الوطنية. وهنا نشير إلى عدم حضور للدكتور عبدالله الغذامي الذي كان مقررا له أن يكون متحدثا، لكنه غاب في آخر اللحظات، بحسب قول المنظمين.

وذكر الدكتور سليمان الهتلان المدير التنفيذي للمنتدى الاستراتيجي العربي، الذي أدار الجلسة، أن أهمية الجلسة تكمن في أنها تعقد وسط تغيرات متسارعة يشهدها العالم اليوم في كافة المجالات السياسية والاقتصادية ومع تنبؤات عالمية ببروز قوى دولية جديدة، وفي وقت أصبحت فيه الأزمات العالمية تشكل هماً مشتركاً.

وطرح الدكتور الهتلان مجموعة من التساؤلات الأساسية المتعلقة بهيمنة اللغة الإنجليزية وسيطرتها على بقية اللغات في العالم، وكيف للمشاركين العرب أن يطلعوا على التجربة الألمانية في هذا المجال، وما إذا كان هناك جانب إيجابي في هيمنة اللغة الإنجليزية كأداة لتعزيز الحوار الحضاري أم أن هناك حساسية مفرطة غير مبررة تجاهها.

وتلا ذلك مشاركة الدكتور حسام الخطيب، الذي استشهد بمثال حي يتعلق بكتاب «تاريخ اللغات ومستقبلها» للكاتب هارلد هارمان، الذي تمت ترجمته مؤخراً إلى اللغة العربية والذي وصفه بالخريطة المفصلة لأوضاع اللغات في بعض أنحاء العالم.

وأشار إلى أن الكاتب هارمان قد شمل في كتابه معظم لغات العالم، ودرس العديد من اللغات شبه المنقرضة في دول عدة إلا أنه لم يتعرض إلى اللغة العربية بالرغم من أنه قام بتأليف وإعداد الكتاب من دولة المغرب، وتجنب حتى الإشارة إلى العديد من الإحصائيات والحقائق المهمة المرتبطة بواقع اللغة وإسهامها في انتشار الدين الإسلامي لدرجة أن قارئ الكتاب بالكاد سيعرف أن هناك لغة تدعى العربية. وتساءل الخطيب إلى أن ذلك الإهمال ربما حدث لأسباب سياسية أو ثقافية مما يثير تساؤلات علمية مهمة على المادة العلمية والأرقام والإحصائيات غير الدقيقة التي تقدمها.

من ناحيته تساءل الكاتب والشاعر الألماني ميخائيل كروغر عن اللغة التي ستهيمن على العالم بعد 100 سنة من اليوم، وأجاب إنه يستحيل التكهن بها، وضرب بعض الأمثلة من الدول التي رزحت تحت الاحتلال واضطرت إلى تعلم لغات جديدة خاصة بها بسبب الاستعمار، وأشار إلى أن اللغة الألمانية كانت منفذاً إلى أوروبا ككل رغم من أنها تعتبر لغة أقلية في العالم، واعتبر أنها مهمة جدا من اجل قراءة الأدب والتاريخ وأن الترجمة تلعب دوراً حيوياً في مد جسور التواصل بين الحضارات.

ولفت الكاتب الألماني إلى أن عدد الطلبة الذين يدرسون الألمانية في الولايات المتحدة في تراجع كبير وأنه يشعر بأسف شديد عندما يسمع أن لغةً ما قد انقرضت أو أن لغةً أخرى تعاني من تراجع، وأن على العالم أن يتكاتف من أجل إنقاذها من الضياع أو التراجع.

وبدورها أعربت المترجمة السويسرية الدكتورة إيلما راكوزا عن سعادتها لأنها غير مضطرة اليوم للتحدث بلغة أخرى غير الألمانية مما يشعرها بأنها أقدر على التعبير بدلا من استخدام اللغة الإنجليزية التي لا تتقنها بطلاقة كما الألمانية لغتها الأم.

قال إن تدريس الفلسفة في التعليم العام طريق العرب لإيجاد جيل من المثقفين

الجابري: العالم العربي مصاب بعدة أمراض

الدكتور محمد عابد الجابري أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي السابق بجامعة محمد الخامس في الرباط، قال إن العالم العربي مصاب بعدة أمراض، فهو في حالة حرب أهلية معلنة في بعض أقطاره وغير معلنة في أقطار أخرى، مشيراً إلى أن هذه الحرب الأهلية ليست فقط في الانفجارات والمشاحنات المسلحة ولكنها أيضاً حرب أهلية بواسطة الكلام والفكر والقلم، موضحاً أن هذه الحرب منغمسة أو محنطة في أكوام من الجهل.

وأضاف في مداخلته في الملتقى: «أن علاقة العالم العربي أيضاً بالعالم الخارجي هي علاقة صراع بحيث لم يعد العربي صانعاً للتاريخ لا الخاص ولا العام، ولم يعد وراء العرب إلا الشكوى وغالباً ما تكون شكواهم بكلام غير دقيق لا يترك تأثيراً في الشخص الذي يشكون إليه أو يشتكون منه». وأعرب الجابري عن اعتقاده بأن المثقف ليس عالماً أو فقيهاً أو سياسياً أو قائداً أو مجتهداً، كما أنه ليس لمصطلح المثقف أساس في اللغة العربية فهي كلمة فرنسية، مفضلاً استخدام كلمة «المفكرون» لتعريف المثقفين.

وقال الجابري إنه لكي يتم إيجاد جيل من المثقفين في العالم العربي فلابد أن تحتوي المناهج الدراسية منذ المرحلة الثانوية على مواد للفلسفة والكلام مع ضرورة العمل على فهم الفلسفة، مشدداً أنه لا يمكن أن يخرج مثقفون في مجتمع منغلق على نفسه، أما المقلدون فكل ما يفعلوه أنهم ينتحرون بدون أن يعرفوا ذلك.

لماذا غاب التراث العربي عن ألمانيا؟

في هذه الجلسة، التي أدارتها أمل الجبوري، رئيسة اتحاد ديوان الشرق الغرب ومقره برلين، تحدث كل من البروفسور كلاوس بيتر هازا، والدكتور مصطفى ماهر وهو أستاذ غير متفرغ وهو من مؤسسي دراسات فقه اللغة الألمانية وآدابها والترجمة منها وإليها، والدكتور عبده عبود وهو أحد المتخصصين في الأدب المقارن في مجال الأدبين الألماني والعربي وله العديد من المؤلفات في هذا المجال.

وهنا يشير الدكتور مصطفى ماهر الأستاذ غير المتفرغ وأحد مؤسسي دراسات فقه اللغة الألمانية وآدابها والترجمة منها وإليها إلى تجربته التي قام من خلالها بتأسيس نظرية تقوم على ما وصفه بـ«المتحف الخيالي» الذي يضم تراثا وذخائر إنسانية.

وأشار الدكتور ماهر إلى أن نظريته أيضا توضح أن هناك حركة مستمرة يتحرك فيها الإبداع من المستوى الفردي المحلي إلى الفضاء العالمي الأوسع والأشمل، ومن ثم يعود الإبداع مرة أخرى إلى المستوى المحلي الفردي في حراك دائم لا ينقطع، حيث عزا للترجمة الفضل الأكبر في تعزيز هذا الحراك.

وشدد الدكتور ماهر على أهمية أن يقرأ الألمان للعرب وأن يقرأ العرب للألمان، منوها بظهور مجموعة من المثقفين من الجانبين الذين يتقنون اللغتين نثرا وشعرا، مشيرا إلى تجربته الذاتية في هذا الخصوص، حيث ترجم أكثر من 40 قصة قصيرة عربية إلى الألمانية ومن بينها قصة لنجيب محفوظ إضافة إلى ترجمته لأجزاء من كتاب «الأيام» للمفكر والأديب الكبير طه حسين، معربا عن أمله في أن يزداد عدد المترجمين بين اللغتين.

من ناحيته، أشاد البروفسور كلاوس بيتر هازا أحد كبار الأساتذة المتخصصين في الفنون العربية الإسلامية وهو مرجع عالمي في هذا المجال وأستاذ كرسي العلوم الإسلامية في جامعة كوبنهاجن، بالإسهام العربي في الحضارة الإنسانية، وقال إن الأعمال الفنية التي تضمنتها واجهات القصور العربية القديمة تضمنت فنا عكس مزيجا تم استقاؤه من الحضارات المختلفة في دليل دامغ على عالمية الإبداع وقدرة الثقافة العربية على استيعاب وهضم الثقافات المختلفة، واستشهد في ذلك بجزء من واجهة قصر عربي أردني قديم أهدي إلى القيصر فيلهيلم والذي يحمل مزيجا من النقوش النباتية الإسلامية والمنحوتات ذات الطابع الإغريقي. وأشار البروفسور هازا إلى أن آثار الحضارة الإسلامية والعربية ملموسة في مختلف أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، منوها بأن الإبداع الفني دائما ما يواجه فترات ازدهار وتراجع في مراحله الزمنية المختلفة، وقال إن العصر الأموي مثل واحدة من أهم المحطات للإنتاج الإبداعي في الحضارة العربية.

من ناحيته، استعرض الدكتور عبده عبود مجموعة من المبادرات العربية والألمانية المختلفة التي سعى أصحابها وبجهود فردية إلى تعزيز التواصل العربي الألماني، وتضمنت تلك المبادرات مجموعة من المطبوعات والنشرات الدورية الصادرة باللغتين العربية والألمانية، كما نوه بإسهامات بعض المفكرين الألمان الذين حرصوا على تعزيز التواصل الثقافي بين الجانبين.

وفي مداخلة للكاتب المصري جمال الغيطاني، أعرب عن قناعته بأن الثقافة العربية لا تزال معزولة في ألمانيا، والجهود التي تتم لتعزيز التواصل الثقافي العربي الألماني لا تزال محصورة في جهود فردية، منوها بدور ألمانيا الديمقراطية في التعريف بالثقافة العربية حيث بدأت هناك ترجمات الأعمال الفكرية والأدبية العربية، كما نوه بمشروع النشرات الإسلامية في ألمانيا والذي تمكن من تحقيق مكتبة عربية مهمة ضمت العديد من نفائس المؤلفات وأمهات الكتب العربية، إلا أنه للأسف تعثر في المرحلة الأخيرة بعد أن قدم للمكتبة الألمانية مجموعة محققة بالغة الأهمية من المؤلفات العربية التراثية.