أبطال الحقبة الثورية.. يتذكرون

غسان شربل في «أسرار الصندوق الأسود»

TT

لو لم يكن غسان شربل صحافياً وكاتباً سياسياً، لكان على الأرجح محققاً قضائياً أو مخرجاً سينمائياً بامتياز. وعلى رغم ان مهنة البحث عن المتاعب ربحته باختياره لها، فإن مهنتي القضاء والإخراج السينمائي لم تخسراه، إذ زوّد الأولى بأسلوب جديد وسلس في استنطاق المتهمين، بعيداً عن إرغامهم على الاعتراف تحت التعذيب. فيما زوّد الثانية بمادة بحثية غنية صالحة لتكون سيناريوات مثيرة لعشرات الأفلام التسجيلية أو الوثائقية عن «الحقبة الثورية» في تاريخ العرب الحديث. يعرف غسان شربل من أين تؤكل كتف الموضوعات المثيرة لـ«غدد القراءة». هو الذي خاض غمار المهنة في كبريات المؤسسات الصحافية، كـ«النهار» اللبنانية و«الشرق الأوسط» اللندنية... قبل أن يتبوأ رئاسة تحرير مجلة «الوسط» وبعدها صحيفة «الحياة» اللندنيتين. فأكسبته التجارب والمواقع خبرة واسعة في كيفية جذب القارئ العربي الى التهام موضوع ما (مقالة كان أم تحقيقاً أم مقابلة) من عنوانه. وها هو ينقل تجربته المهنية الغنية الى الكتب.

يروي كتاب غسان شربل الجديد «أسرار الصندوق الأسود» الصادر أخيراً عن دار «رياض الريس للكتب والنشر» (لندن – بيروت) «السيرة النضالية» لأربع شخصيات شغلت العالم طوال حقبة سياسية صاخبة ومعقدة امتدت من ستينات القرن العشرين الى ثمانيناته، عبر حوارات مباشرة وعميقة معهم أو مع أصدقائهم و«معاونيهم» والمقربين إليهم. وهؤلاء الأربعة هم:

> وديع حداد أحد مؤسسي «حركة القوميين العرب» مطلع الخمسينات، ومسؤول عمليات «المجال الخارجي» لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وهو المجال الذي قامت على عاتقه «العمليات الإرهابية» من خطف طائرات أو رهائن أو زرع عبوات في زمن الصخب الثوري للقضية الفلسطينية.

> كارلوس، الفنزويللي «الأممي» الشيوعي و«الإرهابي» الدولي، واسمه أليتس راميريز سانشيز، أشهر مطلوب في العالم قبل أن يرث أسامة بن لادن اللقب بامتياز مطلع القرن الحالي، والذي يمضي حالياً فترة حكم مؤبد في سجن فرنسي.

> أنيس النقاش، اللبناني الذي نشط في صفوف التنظيم الطلابي لحركة «فتح» تحت إشراف القائد الفلسطيني «أبو جهاد» (خليل الوزير)، ثم أصبح مساعداً لكارلوس في احتجاز وزراء نفط «أوبيك» في فيينا عام 1975، قبل أن يدفع الثمن سجناً عقداً من الزمن في فرنسا بتهمة محاولة اغتيال رئيس الوزراء الإيراني السابق شهبور بختيار في باريس.

> جورج حبش، الأمين العام السابق لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وزميل حداد في تأسيس «حركة القوميين العرب».. قبل أن يصبح صاحب اللقب الشهير «حكيم الثورة». هؤلاء الأربعة، إذاً، هم أبطال الصندوق الأسود الذي عثر عليه غسان شربل، بعد رحلة بحث طويلة ومضنية، وفتحه بعناية ومهارة شديدتين، ليجيء كتابه مرجعاً وثائقياً لقراءة مرحلة بكاملها، بخلفياتها وكواليسها ودلالاتها. يبدأ شربل كتابه بأسلوب درامي مشوّق يحاكي أغاثا كريستي في رواياتها البوليسية: حاورت كارلوس فرن الهاتف وجاءني صوت مجهول قال: «أنت تنشغل بكارلوس وتنسى من جعله نجماً.

كان مهماً حين كان يستمع إلى توجيهات معلمه وديع حداد الذي أحاله إلى التقاعد بعد عملية فيينا. القصة الفعلية موجودة لدى رفاق وديع، فلماذا لا تبحث عنها؟ لديهم خزنة أسرار تتعدى قصة كارلوس». سأل شربل صاحب الصوت المجهول عن اسمه ورقم هاتفه، فاكتفى بالقول إنه مجرّد قارئ. لم يتّصل مرة أخرى، لكن نصيحته كلّفت شربل آلاف ساعات العمل وأسفاراً في اتجاهات مختلفة. وحتى يُؤتي العمل أُكُله، كان لا بد لغسان شربل من أن يتقمّص دور المحقق السري، بقدرته على التخفي وراء الأسئلة، بحثاً عن المعلومات والدلائل والوثائق التي تثبت ضلوع «أبطال روايته» في تنفيذ عملياتهم، على رغم أنهم تدرّبوا طويلاً على الحذر والشك والاحتراز.

لكن ثمة تحت ثوب «المحقق السري» الذي لبسه شربل، صحافياً استقصائياً يملك من أدوات البحث والتقصي الكثير، ليس أقلّها إصراره على جمع خيوط الأحداث وتقاطعاتها، ليعيد رسمها مجدداً في صورة جذابة ومغرية. ولا شك في ان الطبيعة المهنية الصارمة للكاتب ساعدته كثيراً في تحقيق ما كان يصبو إليه. إذ راح غسان شربل يلملم بين دفتي كتابه الواقع في 433 صفحة من الحجم الوسط، شذرات مبعثرة من الوقائع والحقائق. يرقّم كل معلومة. يشذّبها. يربطها بمعلومة ثانية تتقاطع معها. يدقق في الاثنتين معاً. يتفحصهما. يحللهما. ويستولد منهما معلومة أخرى تفيد في استجواب أبطاله الأربعة. ثم يعيد ترتيب المعلومات والوقائع جميعها، في تنسيق متناهٍ، ليرسم في النهاية لوحة فسيفسائية واضحة ومعبّرة عن حقبة «الطفرة الثورية» في تاريخ القضية الفلسطينية.

بدا غسان شربل، بأسلوب أنيق، ممسكاً بتلابيب الوقائع وتفاصيلها الصغيرة. وهو وإن تماهى مع شخصيات كتابه، إلا أنه ظل محايداً ومحافظاً على مهنيته العالية.

ولعل هذا ما دفع هؤلاء إلى الاسترسال في كشف أسرار وأسماء للمرة الأولى. وفي هذا الإطار، يروي الكاتب انه التقى الرجل الذي كان إلى جانب سرير حداد لدى وفاته عام 1978، وسأله إن كان مات مسموماً.

والتقى الرجل الذي تولى القيادة بعده. والرجل الذي شارك في خطف حبش من سجنه في سورية. والرجل الذي تسلم من ألماني غربي هبط في مطار بيروت حقيبة تحوي خمسة ملايين دولار في مقابل الإفراج عن طائرة «لوفتهانزا»، كما التقى من شارك في عملية «مطار الثورة» في الأردن وفي عملية عنتيبي التي تحوّلت إلى مأساة، ومن شارك في التخطيط لعملية اللدّ التي نفذها يابانيون. والتقى الرجل الذي أشرف على تدريب كارلوس في معسكر جعار في اليمن الجنوبي. وحكى هؤلاء عن علاقة «المجال الخارجي» بالعراق وليبيا والجزائر.

وعثر شربل في «الصندوق الأسود» على ما لم يكن يتوقعه، إذ اعترف أحد الذين التقاهم أنه «بعد ساعات من قصف الموساد منزل وديع (حداد) بالصواريخ في بيروت ذهبت إليه صباحاً. وجدت شاباً يجمع كسر الزجاج لكن ليس من المناسب كشف اسمه». أغلق الكاتب – المحقق آلة التسجيل وسأل عن الاسم، فجاءه الجواب: رفيق الحريري.

وفي قصر قريطم في بيروت، سأل الكاتب الحريري لاحقاً عن القصة، فردّ بابتسامة معترفاً ومسارعاً إلى القول: «لماذا تحب نبش الماضي، دعنا نفكر في المستقبل». وكشف متحدث آخر للكاتب ان حداد «نجح في تجنيد شباب يساريين من جنسيات مختلفة وأرسلهم في مهمات في أوروبا وبينهم شاب كردي عراقي يساري يلعب حالياً دوراً قيادياً». أغلق الصحافي شربل آلة التسجيل وسأل، فجاءه الجواب: جلال طالباني. وبعد أعوام سأل الصحافي نفسه الذي أصبح رئيساً لتحرير «الحياة» الرئيس طالباني عن القصة، وفاجأه باعترافه بصحتها. هنا، تظهر بوضوح حرفية غسان شربل الصحافي في متابعة معلوماته والتقصي عنها وسردها من مصادرها، حتى لا يقع في فخ الأقاويل أو الإشاعات المتداولة، ما يُكسب الكاتب – ومعه كتابه – صدقية عالية.