ناشرون يحتفلون بالحرية.. والأمان يعيد تجار الكتب إلى لبنان

«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» من دون ممنوعات

TT

«معرض بيروت للكتاب ما يزال هو الأهم عربياً، والكتاب اللبناني يبقى في طليعة الإصدارات العربية توزيعاً ومبيعاً». هذا رأي للعديد من الناشرين والموزعين العرب الذين التقيناهم في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» والذين جاؤوا يشترون ويشحنون لقرائهم ما يمكن ان يفتح شهيتهم للقراءة.

منذ ثلاث سنوات وهذا المعرض يقام بشق الأنفاس، فلا الوضع الأمني مشجع ولا العرب يجدون الأمان الكافي ليستقلوا طائراتهم. هذه السنة يحلّ المعرض وسط مصالحات سياسية، وتوازنات داخلية لبنانية أتاحت له أن يستعيد بعض العافية. صحيح ان القراء اللبنانيين يتناقصون، لكن «المعرض لا يقام لهم وحدهم» كما قيل لنا، «وإلا لكانت الدور أفلست والناشرون غيروا مهنتهم». يختلف البعض على تقييم أهمية المعرض لكنهم يتوافقون على انه «واجهة إعلامية وإعلانية لا غنى عنها، كما انه سوق يقصدها تجار الكتب من كل مكان». ورغم ان الأروقة تبقى فارغة حتى ما يقارب الخامسة مساء، حتى تخال ان القارئ مات أو يكاد، إلا انه بحلول السادسة يبدأ المهتمون بالتدفق، وكأنما هم مدعوون إلى عيد يخشون ان تفوتهم طقوسه، أمر يغضب منيف ملحم من «دار الحصاد» السورية المتعود على دفق الآلاف في معرض دمشق: «هذا أسوأ معرض رأيته في حياتي، نحن لا نطلب من الناس ان يشتروا، لكن ليكن عندهم فضول التفرج والسؤال». فريد فياض من «دار كيوان» السورية له الشكوى نفسها، ويضيف عليها بأنه لم يشاهد ملصقاً واحداًَ يهدي الناس إلى المعرض. أسامة مرّة، مسؤول الإعلام في دائرة الثقافة والإعلان في الشارقة، لا يوافق إطلاقاً على النقيق الذي يتردد هنا، وهناك وفي رأيه ان الناشرين يبيعون ويربحون لكنهم لا يعترفون، ويشير مرّة إلى زملاء له في مهنة النشر يمرون حولنا، «انظري هذا أردني وذاك مصري والآخر الذي ترينه هناك جزائري، ماذا يفعلون هنا؟ هل تعتقدين انهم يتنزهون؟ هذا معرض مهم ولا نفوته علينا. القارئ اللبناني موجود على عكس ما يدّعون، ولو لم تكن من فائدة للمشاركة بهذا المعرض لما قاتل الناشرون بضراوة ليحضروا. انه معرض يتداعى إليه كبار مستوردي الكتب وأصحاب مطابع وأكاديميون. نحن هنا مثلاً نعرض كتبنا ونتواصل مع الناشرين ونرى من يريد الاشتراك في معرض الشارقة للكتب. والناشرون هنا يوقعون عقوداً مع مؤلفين، ويعقدون صفقات مع تجار يأتون من كل مكان لشراء الكتاب اللبناني». نتوجه إلى صاحب «دار الانتشارالعربي» نبيل مروة الجالس إلى جانبنا ونسأله عن الصفقات التي يعقدها ويتكتم عليها؟ فيضحك ويقول: «لم أقل بأننا لا نبيع، وإلا فلماذا نشارك في المعرض وندفع التكاليف؟ أقول بأنني أعتبر المعرض واجهة لإنتاجي، وحين أكون هنا، يجدني من يبحث عني، أما إذا بقيت في البيت، فالقادمون من الخارج لن يعرفوا بوجودي». ناصر جروس صاحب «دار ومكتبة جروس» يضحك هو الآخر من الحوار الدائر ويعلّق: «لن يعترف الناشرون بما يبيعونه. أشياء مهمة تحدث في المعرض ولولا ذلك، لما جاء كل هؤلاء الناس». الموسيقى تصدح من أحد الأجنحة وتجمّع لشبان جاؤوا لحضور توقيع اسطوانة غنائية.

عدد آخر من الأجنحة مشغول بتواقيع الكتب، فهذه موضة من دونها تبدو الحركة بطيئة.

في «دار الساقي» تواقيع شبه يومية ودينا دلّي، مسؤولة الدار مبتهجة بما تنجزه: «المعرض ممتاز والنادي الثقافي العربي، يقوم بجهد تنظيمي كبير. كل يوم هناك مدارس تتوافد، وضيوف يتقاطرون ومبيعات تتم. الافتتاح كان رائعاً، الصالة امتلأت على بكرة أبيها. هذا أهم معرض نشارك به، الإعلان كبير جداً في التلفزيون ويومياً في الصحف». عصام أبو حمدان من «دار الساقي» ايضاً يواظب على تمثيل الدار في المعارض، وهو يوافق على ما تقوله دينا ويضيف: «النظافة والترتيب الحيوية هنا لا توجد في أي معرض آخر. هناك عنصر شديد الأهمية، هذا معرض بدون رقابة تقريباً، كل شيء معروض ولا ممنوعات. كنا في الكويت منذ أيام، نصف هذه الكتب لم تكن موجودة على الأرفف لأنها محظورة. في القاهرة فسحة الحرية أكبر، لكنها ليست كاملة. من يريد ان يرى كل الكتب من دون حظر، عليه أن يأتي إلى بيروت.

لم يكن من الصعب علينا ان نلحظ ونحن نجول في المعرض ان عدد الآتين من أوروبا والدول العربية، للاستفادة من فرصة المعرض، هي أكبر بكثير مما كنا نراه في السنوات الثلاث العجاف الماضية. نستوقف تونسياً يأتي ليتسوق في المعرض، فيخبرنا انه موزع وصاحب دار نشر تونسية. فارس التركي آتٍ ليختار عناوين يوزعها في تونس، ويشرح لنا ان الكتاب اللبناني ما يزال الأكثر استيراداً ومبيعاً. الكتب الإسلامية التراثية على رأس اللائحة تتلوها الأدبية، ولا تشكل الكتب المصرية منافساً كبيراً لغاية الآن، رغم ارتفاع سعر الكتاب اللبناني نسبياً. لا يريد فارس التركي ان يخبرنا بكمية الكتب او عدد العناوين التي يشحنها سنوياً، فتحديد الأرقام من التابوهات التي تكشف كمّ الصفقات المعقودة هنا. لكنه يكتفي بالقول انه يقوم بعمل طلبيات كل شهر ونصف تقريباً لتزويده بها. أما في السنوات الثلاث الماضية، عندما كانت زيارة بيروت غير آمنة، كان ينجز مشترياته على الانترنت. أمثال فارس التركي كثر، وصاحبة «دار قنبز» اللبنانية الحديثة الولادة التي تصدر كتباً مبتكرة للأطفال، وتشارك للمرة الأولى مع «سي دي تيك» للاسطوانات الموسيقية، تشعر بغبطة كبيرة، وتحتفل بهذا المناسبة على طريقتها: «ألتقي بالناس، وأتواصل مع ناشرين وقراء، وأشعر بأن المعرض فرصة لا تفوت». رشا الأمير صاحبة «دار الجديد» التي جالت معنا في جانب من المعرض، تعتبر ان ثمة دور نشر مستفيدة، لأن لها علاقاتها الخاصة، وهناك دور صغيرة مستقلة، يصعب عليها ان تتحمل باهظ نفقات المشاركة في المعرض وتضيف: «لقد عرضنا على عدة دور مستقلة ان تشارك معنا لنشكل جناحاً كبيراً مشتركاً نستطيع من خلاله ان نطل على زوار المعرض بطريقة مختلفة وبسعر أقل، لكنها رفضت. كل يبحث عن تظهير صورته الشخصية، وكأنما هم يخشون اختلاط الدم الأزرق بدماء أخرى». رشا الأمير كالعديد من الناشرين اللبنانيين والمثقفين الذين يعتبون على «النادي الثقافي العربي» منظم هذه الاحتفالية، لأنه يبقي المعرض محروماً من الأفكار الخلاّقة وتسأل: «ألم يكن من الجميل لو خصص جناح ضخم للمعاجم العربية هذه السنة مثلاً، والقي الضوء على هذا الموضوع الإشكالي من خلال حوارات وندوات تتولد عنها أفكار للمستقبل؟ ألم يكن جميلاً ايضاً لو أن الاحتفال بمحمود درويش أخذ طابعاً أكثر جدية، بدل ان يظهر بأن دار رياض الريس وحدها المعنية به، لمجرد انها الناشر لكتبه. كل سنة كنا نأتي بفكرة جديدة ونحاول أن نقنع الآخرين بتبنيها، لكن لا أحد يريد ان يسمع. وزعنا كتباً بالمجان، أقمنا قبراً للكتاب لنستفز القراء والناشرين، لكن لا شيء نفع».

يمضي المعرض حتى الحادي عشر من ديسمبر، وسيستمر كما كل سنة الجدل حول جدواه، وضعفه التنظيمي أو قوة بيروت كعاصمة للكتاب، واسثنائية الدور الذي تلعبه، وهل فقدت دورها ام ما تزال محافظة عليه؟ فثمة إحساس عند اللبنانيين أن بمقدورهم إنجاز ما هو أفضل، لكن هذا يصبح ممكناً فقط، كما يقول عصام ابوحمدان من دار الساقي «حين يفصلون السياسة عن باقي مناحي الحياة. أما الإبقاء على التسييس فهو يضرب كل شيء، بما في ذلك براءة الكتاب».