وداعا للسيرك التقليدي.. يحيا الجديد

انتهى زمن الخيمة العملاقة التي يسكنها مروضو الأسود

TT

لم يعد السيرك التقليدي الذي عرفناه صغاراً قادراً على مسايرة الحداثة بمفاهيمها وقيمها وممنوعاتها. فليس من اللائق اليوم ان يستعرض الإنسان قدرته على ترويض الحيوانات بالضرب أمام الجمهور العريض، ولا من المقبول أن يلعب البهلوان بسذاجة أمام الأطفال أو أن يصفق الحضور كل عشر دقائق، كما كان يفعل في سنوات سابقة تحية للفنانين الذين يقفزون في الهواء أو يمشون على أدق الحبال. الفنون كلها غيّرت هندامها، ومثلها فعل السيرك الذي تخلى عن خيمته العملاقة وأكثر رموزه عراقة. فما هي سمات السيرك الجديد؟ ما هي تطلعاته؟ وما الذي يريد أن يوصله إلى جمهوره اليوم؟

إذا كنت من أنصار الحفاظ على التقليد ومن ذوي الحنين لأيام الزمن الجميل، فقد لا تكون فكرة اصطحاب أطفالك لعرض من عروض «السيرك المعاصر» هي فعلاً فكرة جيّدة. والسبب أن هكذا عرض لم يعد يشبه في شيء عروض السيرك التقليدي كما عهدناه في الماضي، حيث نلتقي مروّض الأسود والمّهرج والساحر والخيول التي ترقص على أنغام الموسيقى. بل ان عروض ما يسميه البعض بـ «السيرك الجديد» باتت أشبه بلوحات فنية مسرحية، يطغى عليها عنصر الشاعرية على حساب الإثارة والمجازفة.

أما الفرق التي تتبّنى اليوم، هذا النوع الجديد من فنون الشارع الممزوجة بفنون السيرك، فهي مكونة في معظمها من الشباب المتخرج من مدارس السيرك. وقد كانت الأوساط الرسمية الفرنسية في حقبة الثمانينات قد اهتمت بهذه الفنون بصفة خاصة خشية اختفائها، وأخذت على عاتقها مسؤولية رعاية ودعم الفنانين الشباب الذين يودّون دخول هذا المجال. فقد قررت كل من وزارة الشباب والرياضة، ووزارة الشؤون الثقافية وكذلك وزارة التربية ابتداءً من سنة 1978 تبنّي عدة مشاريع لإنشاء مدارس لتعليم فنون السيرك، فنشأت المدارس الأولى وبعضها ذو شهرة عالمية، كالمدرسة الوطنية للسيرك «أنا فراتنيلي»، والمعهد العالي لفنون السيرك «بشالون أون شابناين»، اللتين تستقبلان سنوياً عدداً هائلاً من الطلبة، ثلثهم من الأجانب. ولكثرة الإقبال على هذه المدارس، أصبحت دراسة الملفات وتلبية الطلاب لمستويات معينة، من الشروط الأساسية للالتحاق بها. علماً أن معظم المدارس الـ 500 التي تعترف بها وزارتا التربية والتعليم والثقافة والاتصال، تسلّم المتخرجين شهادات تعادل الجامعية، وتعترف بها كل دول المجموعة الأوروبية.

ظهور أول أجيال السيرك الحديث أو «سيرك الإبداع» ممن يتوجهون لهذه المهنة عن اختيار وطواعية وليس بالوراثة ـ كما هو الحال في السيرك التقليدي ـ كان سبباً في تراجع السيرك العائلي بطابعه الكلاسيكي الذي كان سائداً إلى وقت غير بعيد. وقد ساهم هؤلاء الشباب في تغيير وجه السيرك التقليدي، بدءاً من نبذ عروض الحيوانات، حفاظاً «على كرامتها» تحت شعار «نو أنيمو ماس أنيما» أي «حيوانات أقل وسمّو أكبر» وحتى التغيير في البناء الدرامي للعروض. فالسيرك المعاصر هو عكس التقليدي، لا يكتفي بتقديم عروض قصيرة منفصلة، لا يربط بينها سوى إعلان المُقدم والفاصل الموسيقي، بل ان تسلسلها يقوم على حبكة فنية معينة كأي عمل درامي تميزه وحدة الفكرة. ففرقة «لا بلوم» الفرنسية مثلاً كانت قد قدمت أحد أشهر عروضها «بليك بلوك» حول موضوع واحد هو «الماء». كما يحدث أن تُقدم العروض في صورة رواية يقترح فيها كل فنان، حسب اختصاصه، جانباً معيناً منها، كعرض «لا تلمس الأرض» لفرقة «فان دون نتون» الذي يروي أحداث قصة عاطفية يمثلها بهلوانيون، وراقصون ولاعبون يسيرون على الحبل، وكلٌّ يقدم عمله حسب رؤيته الفنية. لكن القطيعة الأولى بين عالم السيرك التقليدي والسيرك المعاصر، تبدأ من الشعار ومن المغزى، فبينما يسعى الأول إلى الإثارة والترفيه، يصبو الثاني إلى استعمال أساليب فنية لتسهيل التواصل بين الأفراد. ففنان السيرك المعاصر، يقول السيد «كريسوف كرامبت» رئيس الفيدرالية الفرنسية لمدارس السيرك: «هو فنان ملتزم ومعني بكل ما آل إليه حال الناس في مجتمعنا الحالي من غربة وتباعد». ويضيف كرامبت: «هو لا يريد أن يجبر الحيوانات على الرقص على أنغام الموسيقى، لأن هذا ليس من الفن بشيء، لكنه سيعير أهمية أكبر للقاء الذي قد يجمعه بجمهوره بعد انتهاء العرض حول فنجان قهوة أكثر من العرض نفسه، لأن لحظة التواصل مع الجمهور هي الأهم بالنسبة له. وهو ما يفسر أيضاً عدم تحبيذ تصفيق الجمهور للفنانين في مثل هذه العروض، ولا إثارة مشاعر الخوف عن طريق المجازفة بعرض خطير وكسر الحواجز باعتماد الكلام والنّص، والتوجه مباشرة إلى الحضور على عكس السيرك التقليدي الذي يلتزم فيه الفنانون الصمت ما عدا المهّرج والمقدم». ويشرح لنا كرامبت: «وكأن هؤلاء الفنانين الشباب يريدون كسر صورة البطل الخارق الذي ظن الناس لوقت طويل انه هو وحده دون غيره، يستطيع الوصول للإنجازات، ورسالتهم في ذلك واضحة ومفادها باختصار: أن القضية ليست قضية بطل بل ان كل واحد منا قادر على تحقيق أي إنجاز شرط أن يدفع بقدراته إلى الأمام».

وبينما ارتبط عالم السيرك في أذهاننا بعروض تكاد تكون أساسية كعروض المهّرج والبهلوان ومروض الأسود، مع جو خاص وديكور معين لا يكتمل من دون أقفاص الوحوش والخيمة والبالونات الملونة، يذهب الثاني إلى غاية نبذ كل هذه الأساسيات، فلا حدود ولا شروط للإبداع، يقول أنصاره. وهكذا لم تعد شرطاً إقامة العروض في خيمة خاصة وحلبة قطرها 13 مترا، بل ان التمّيز والإبداع يبدآن من مكان العرض نفسه الذي لم يعد مجرد «مأوى» فقط. وقد حدث كثيراً أن نظمت فرق السيرك المعاصر حفلاتها في مسارح قديمة أو قاعات تقوم هي بتجهيزها، في الهواء الطلق أو في خيم مصمّمة بأشكال غريبة كما تفعل فرقة «أرت سو» التي تقدم عروضها في خيمة على شكل مركبة فضائية، وفرقة «درومسكو» التي تستقبل جمهورها داخل خيمة عملاقة على شكل قفص، وأخرى داخل ما يشبه علبة الحلوى. الإخراج المسرحي أو اللمسة الدرامية مهمّة في مثل هذه العروض، فكم المشاعر الذي يفترض إبرازه في مثل هذه العروض كبير جداً، حتى أصبحت بعض الفرق تعتمد طابعها الخاص من درامي إلى هزلي أو جريء للتعبير، كما أن كل حركة من حركات الفنانين تُتبع بإنارة ومؤثرات موسيقية ونص معين. بعض هذه العروض بات معروفاً عالمياً مثل «سيرك لوسولاي» الكندي الفخم والقوي الذي لا توازيه سوى عروض مسارح كبرى كتلك التي يمكن أن نراها في برودواي في أميركا.

النجاح الكبير الذي يعرفه هذا الصنف الجديد من السيرك، ووصول بعض فرقه إلى العالمية كفرقة «لوسولاي» الكندية التي يقدر جمهورها في العالم بحوالي 80 ألف متفرج، وكذلك فرقة «أوز» الأسترالية وفرقة «لا بلوم» الفرنسية، ساهم هذا كله في وجود جو من المنافسة مع فرق السيرك التقليدية، فراح الكهول يلومون الشباب على أساليبهم الدخيلة التي أصبحت تهدد تقاليد السيرك القديمة والعريقة بالاختفاء. اليوم يبدو أن المعركة، قد هدأت بعد أن اعتمدت بعض فرق السيرك التقليدية التطوير والعصرنة في هياكلها، كسيرك «أرليت غوس» الذي لوحظ انه اعتمد الكثير من التجديد في السنوات الأخيرة. وهكذا نجد السيرك كغيره من الفنون التي عاشت عصورها الكلاسيكية، ووجدت نفسها تدخل الحداثة صاغرة، والنتيجة ان الجديد والقديم يحاولان اليوم إيجاد صيغة للتعايش، طالما أنه لكل جمهوره وطابعه الخاص.