الشعر العربي ينتفض من جديد.. ويرفض إعلان موته

جمهور يحتشد بالآلاف ويدهش المنظمين

TT

كما هو معروف، يحتل الشعر مكانة كبيرة في ثقافتنا، حتى عند الأميين، وهذا أمر متوارث. وللشاعر مكانة مقدرة في الوجدان الجمعي للناس، وربما هذا الوجدان الجمعي هو الذي حمى الشعر وحافظ عليه، كقيمة روحية لا يريد التفريط بها، وذلك في وجه فنون أخرى مستجدة وكاسحة، وفي وجه هجمات مركزة لتسفيه الشعر وإثبات عدم جدواه، وفي وجه إغراق الشعر واستغراقه في الحياة اليومية. ويلاحظ أن قسماً كبيراً من الناس لا يريد الاعتراف أن الشعر في أزمة أو أن الشعر قد مات، كما يطيب للبعض أن يعلن! ويتجلى هذا الرفض لمثل هذه المقولات في ردود فعل الناس المتنوعة، ومن جملة هذه الردود الحضور اللافت للقاءات الشعرية وللمهرجانات التي تحتفي بالشعر، وهي كثيرة وتتكاثر بشكل لا لبس فيه، حتى ولو كان الشعراء غير مشهورين. ففي سوريا ما يقارب العشر مهرجانات سنوية تحتفي بالشعر وتستضيف شعراء سوريين وعرب وأجانب، وتتوزع في المحافظات العديدة، بالإضافة إلى العاصمة. وقد استطاعت هذه المهرجانات، التي تستمر أحياناً بين الأربعة أيام والستة أيام، أن تستقطب شعراء كباراً من سوريا والعالم العربي، بالإضافة إلى تعريف الجمهور بعدد من الشعراء الجدد، وان يكون اللقاء مباشراً بين الشعراء وجمهور الشعر. فـ«مهرجان السنديان»، على سبيل المثال، هو من أقدم المهرجانات الشعرية السنوية، يقام في قرية الملاجة، قرية جبلية في محافظة طرطوس تكريما للشاعر الراحل محمد عمران. ومنذ انطلاقة المهرجان كانت فكرته أن يقوم أهل قرية الشاعر بتكريم شاعرهم في الهواء الطلق وتحت الأشجار، وأن يستضيفوا الشعراء المشاركين في بيوت القرية، ثم تطورت فعاليات المهرجان لتشمل أنشطة ثقافية أخرى كالموسيقى والنحت، وليستضيف شعراء من معظم الدول العربية وشعراء عالميين، من بينهم الشاعر الفرنسي برنارد نويل الذي تأثر بما رآه حين شاهد قرابة الثلاثة آلاف يتوافدون من عدة قرى ليلتقوا بالشاعر أدونيس، وليجلسوا على مصاطب صخرية محاطين بالجبال والأحراش ويستمعون إلى الشعر. وقال نويل: إن هذا مدهش ويشبه طقوس الإغريق. ويذكر أن الدورة السنوية الثانية عشرة لمهرجان السنديان أقيمت بدءاً من 28 أغسطس (آب) الماضي ولغاية 31 منه في كل من طرطوس ودمشق وبالتعاون بين لجنة مهرجان السنديان وأصدقاء الشاعر الراحل محمد عمران والأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008. ومن المهرجانات الثقافية الناجحة أيضاً والتي تخطت شهرتها الحدود السورية «مهرجان الرقة»، و«مهرجان عاديات جبلة». وهما من المهرجانات الناجحة والكبيرة التي يشارك فيها رهط من الشعراء على مدى عدة أيام، وتقام فعالياتها على مسارح أو في قاعات تتسع للمئات. والذي يشاهد مثل هذه الحشود من الصعب أن يصدق أن الشعر فقد مسوغاته وخسر مناصريه، مع الأخذ بالاعتبار أن معظم الشعراء المشاركين في هذه المهرجانات، السوريين والعرب، من الشعراء المنحازين للحداثة الشعرية. ويوجد مهرجانات عديدة أخرى لم يقيض لها أن تستمر بسبب نقص التمويل أو صعوبات إدارية أو غير ذلك، منها «مهرجان السن»، و«مهرجان سربيون» و«مهرجان بيسان»، وهذه كلها مع سابقاتها مهرجانات أهلية، بعضها يتلقى مساعدة محدودة من وزارة الثقافة أو المحافظة. وقد درجت في العامين الماضيين في بعض بيوتات دمشق القديمة مثل هذه التظاهرات الشعرية، نذكر منها مشغل النحات مصطفى علي، وبيت للشعر يديره الفنان بشار زرقان، ومرسم الفنان الراحل فاتح المدرس. وانطلق هذا العام بيت القصيد للشعر يديره الشاعر لقمان ديركي، وهو ملتقى أسبوعي يحظى باهتمام عدد من الشعراء وإن كان يهاجمه البعض لأسباب تتعلق بأمزجة الشعراء المألوفة والمتعارف عليها!

هذا ولا بد من ذكر الجانب الآخر من المهرجانات الرسمية والتي تنفق عليها أموال طائلة من قبل الجهات الحكومية، وهي مهرجانات كبيرة، يتم الإعداد لها قبل أشهر من انطلاقها. وهي في معظم الأحيان تواجه بانتقادات كبيرة وتتهم بالفساد والشللية وسوء الإدارة والتنظيم. وها هي جريدة «الأسبوع الأدبي»، أي جريدة اتحاد الكتاب العرب في عددها/1429/الصادر في 23/8/2008 تشن هجوماً عنيفاً على مهرجان «المحبة» التاسع عشر، وجاء فيها: «بعد عدة دورات ناجحة، بدأت رائحة الفساد تفوح في كواليس المهرجان.. وراح المهرجان ينحدر من مستوى لآخر، عاماً بعد عام، فغاب العديد من الأسماء الكبيرة التي اعتادت الحضور، وتم إيقاف بعض الفعاليات الناجحة».

واتحاد الكتاب العرب أيضاً، يقيم فعاليات شعرية شهرية يساهم فيها شعراء الاتحاد في فروعه المنتشرة في معظم المحافظات، وهي تعد من الأنشطة الرسمية التي تكون عادة حكراً على بعض شعراء الاتحاد وجمهورهم، ويمولها الاتحاد من ميزانيته.

من الواضح، أن الأنشطة الشعرية الأهلية هي الأكثر فاعلية، وتحظى بثقة أعمق من قبل قطاع واسع من الناس! ولعل هذه المؤسسات غير الرسمية أو النصف رسمية إذا جاز القول، استطاعت أن تنجح في التحدي، وبالقليل من النفقات، في أن تقرب ما بين الشاعر والجمهور المتعطش للشعر. هذا ما قاله احد منظمي هذه المهرجانات، وقال أيضاً: «نحن لا نسوق الناس للحضور، بل كنا نفاجأ بهم، إن امتلاء القاعة الكبيرة بالحضور، يعد بالنسبة لنا نجاحاً.. حتى أننا لا نقوم بالدعاية الإعلانية كما يجب، بل يكفي أن نضع برنامج الاحتفالية وموعدها على جدار المركز الثقافي وفي بعض الأماكن».

ورغم هذا النجاح، فإن كثيرين يوجهون انتقاداتهم لكل أشكال الاحتفاليات الشعرية، أو الثقافية، ويتهمونها بالشللية والمافياوية، ويطلقون عليها صفة (اللوبيات الثقافية) التي تهمش كل من لا يدور في فلكها. ويرد على ذلك، أحد منظمي المهرجانات، الذي لم يرغب أن يذكر اسمه، قائلاً: «لا أنكر وجود علاقات ومحسوبيات أحياناً، لكن على مدى سنوات استطاع مهرجاننا أن يستقطب العشرات من الشعراء من بلدان عديدة ومعظمهم لم نكن نعرفهم، بل تعرفنا عليهم كما الجمهور من خلال مشاركاتهم. لكن مثل هذه الأصوات الكئيبة والرافضة لكل شيء، هي لا تريد أن تشارك وتريد أن تفرض منطقها الانعزالي على الكل! وبعض هؤلاء الذين يهاجمون ويبالغون في الهجوم، وجهت لهم الدعوات وكانوا يفتعلون مواقف ليبرروا مقاطعتهم ثُم تهجمهم، يمكن للواحد منهم أن يقول إنني لا أحب المهرجانات والاحتفالات، وكفى!»

الشاعر آصف عبد الله، يقول إنه ليس ضد المهرجانات الشعرية، لكنه يتحفظ على الطريقة التي تدار بها، ويرى أنها بالشكل القائم تكرس الفساد الثقافي، ويتم فيها تلميع شعراء على حساب شعراء آخرين، وأنه في ظل الفساد الثقافي القائم لا يمكن أن يكون الاختيار سليماً، بل تتحكم فيه المصالح المتبادلة والعلاقات النفعية.. والشواهد على ذلك كثيرة وقريبة. ويقول: أنا شخصياً متضرر من هذه المهرجانات وحزين أيضاً! وهل علي أن أنافق لهؤلاء، وبعضهم أصدقائي، لكي أدعى وهم يدعون شعراء ليسوا كما يجب؟!

أما الشاعر الشاب طلال سليم فيرى أن هذه المهرجانات ضرورية، وتساهم في إحياء الشعر، وتؤمن للشاعر فرصة اللقاء بالناس وإيصال صوته إليهم، ويقول: إن المهرجانات الأهلية تحديداً، التي لا تفرض على الشاعر موقفاً ايديولوجياً هي النمط الذي يرتاح بالتعامل معه. وهذا النمط يحضره عدد كبير من الناس. وقال: إنني من المتابعين للشعر، ولقد شاركت في بيت القصيد بإلقاء بعض قصائدي وكان اللقاء في غاية النجاح، وأنا راض كل الرضا، ولقد تعرفت على عدد من الشعراء من أجيال متنوعة لم أكن أعرفهم من قبل. وأما عن الشللية التي تتحكم في انتقاء الشعراء، وعن الجهات التي تمول مثل هذه المهرجانات- يقول طلال سليم- لا أسأل عن التمويل ومن يمول، والفساد الثقافي موجود بالتأكيد في الساحة السورية، ولكن ماذا نفعل؟ ويقول أيضاً، إنه سافر من دمشق إلى طرطوس لحضور «مهرجان السنديان» لهذا العام، وإنه لاحظ تبايناً بمستوى الشعراء، وله مآخذ على طريقة تنظيم المهرجان، ويرى أنه هبط من القمة إلى دون الوسط.

وحين سألنا الشاعر جودت حسن، عن هذه الظاهرة الواسعة من الاحتفاء بالشعر، ماذا تعني له، قال: يستحق الشعر أكثر من ذلك، ونحن لا نستطيع أن نتباهى إلا بالشعر!..حتى أننا أنفقنا أموالا طائلة على الرياضة لكننا أخفقنا في تحقيق انتصارات تذكر، فليكن الشعر بضاعتنا القديمة التي كنا نعتز بها دائماً محط اهتمامنا. وحين سألناه، إن كانت هذه الظاهرة تعكس ازدهاراً للشعر، أجاب: لا أعتقد ذلك، قد يكون الشعر في مكان آخر بعيد عن هذه الكرنفالات، وإن الأمر لا يتعدى أن يكون تعبيراً عن حاجة الناس للاحتفال.

إذاً لا داعي لأن يذهب بنا الوهم بعيداً، فقد يكون الشعراء والجمهور في القاعة، والشعر في مكان آخر.