عندما تصبحُ النجاحاتُ.. أوبئة

مالكوم غلادويل

TT

وفق زمنٍ ثابتٍ تبدو احتمالاتنا مبرمجة. بطبعنا جميعاً نحب التدرج، لكن عالم نقطة التحوُّل هو مكانٌ يصبح فيه غير المتوقع.. متوقعاً، والتغيير الجذري شيئاً أكثر من محتمل، بل إنَّه أمرٌ حتمي، على عكس معظم الاحتمالات. «مالكوم غلادويل Malcolm Gladwell» مؤلف كتاب «The Tipping Point/ نقطة التحوُّل» استطاع أن يدوِّن مثل هذه الاختلافات ويؤطِّرها بـ «كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييراً كبيراً؟»، تماماً كما يُمكن لأصغر شرارةٍ أن تُضيء أعلى القمة.

الكاتب يطلق على «نقطة التحوُّل» صفة «الوباء - Epidemic»، ويعتقد بأنها لحظة سحرية تجتاز فيها فكرةٌ أو تيَّار أو سلوك اجتماعي عتبةً معينة وتتحوَّل وتنتشر مثل نار مُستعرة. ومثلما يستطيع شخصٌ واحد مريض أن ينشر وباءً ما، تستطيع أيضاً دفعة صغيرة لكنَّها رائجة.. أن تحدث شعبية. في هذا الإطار تصبح «النقطة» مسألة تستند إلى أنَّ أفضل طريقة لفهم كيفية بروز تيارات الموضة مثلا، أو انخفاض معدَّلات الجريمة، تَحوُّل الكتب المجهولة إلى الأكثر مبيعاً، ارتفاع نسبة التدخين عند المراهقين، انتشار الشائعات، أو أي عددٍ من التغيُّرات الأخرى الغامضة التي تعمل بمثابة أوبئة لأنها تنتشر تماماً مثلما تفعل الفيروسات.

العالم من حولنا قد يبدو مثل مكانٍ ثابتٍ غير متحرك، ولا سبيل لتغييره، لكنه ليس كذلك، فمع أقل دفعة، و(يقصد دفعة في المكان الصحيح) يمكن تحويله. وهذا يختلف تماماً مع مقولة أنَّ النجاح السريع أو النجومية السريعة هي فقاعة صابون، أو بالون تم حشوه إلى مرحلة قابلة للانفجار، الانهيار الحاد، أو الهبوط المفاجئ.

مُسبقاً قرأتُ لـ «ريتشارد كارلسون / Carlson Richard» سلسلة كتب للجيب بسيطة وبديهية بعنوان «لا تهتم بصغائر الأمور، فكلُّ الأمور صغائر»، حيث تدور فكرتها حول الكيفية التي يمكن فيها منع الأشياء الصغيرة من السيطرة على حياتنا، وظننتُ بأنني سأستنكر الفكرة التي طرحها «غلادويل» عن أشياءٍ صغيرة لها القدرة على إحداث فروق أكبر، لكنني استمتعتُ باللعبة المزدوجة بين هذه الإصدارات كنوعٍ من المفارقة أو التنافر أو انعدام الانسجام، وأحياناً في التأليف بين عناصر متباعدة، أو المزج بين حقائق متباينة في طبيعتها. إنما ما يميِّز حقاً «نقطة التحول» هو التحليل الوثائقي والموضوعي عبر أحداثٍ واقعية ودراسات وأبحاث متنوعة، والهدف من استعراض كل هذه التجارب هو الإجابة عن سؤالين بسيطين: لماذا هناك بعض الأفكار أو أنماط السلوك أو المنتجات التي تطلق أوبئة.. فيما هناك أخرى لا تفعل ذلك؟، وما الذي نستطيع فعله لكي نستهل عمداً أوبئة إيجابية ونتحكم فيها؟.

تصبح النتيجة التي نستخلصها بعد قراءة هذه التجارب جزءًا من حركة الحياة، أو مظهراً من مظاهر جدليتها على الأقل. وإن كان ينبغي ألاَّ يستدرجنا ظاهر الصورة للكتاب فنحسب أنَّ نشر أي وباءٍ أو تحويل أي منه يقوم على مجرد التفاؤل السهل، بحيث يصبح معنى التفاصيل الصغيرة تنبُّؤاً ساذجاً كأن نعتقد بأن الكلمة النهائية هي للأشياء الصغيرة فقط.

العالم الذي يتَّبع مبادئ الأوبئة هو مكانٌ مختلف جداً عن العالم الذي نظنُّ أننا نعيش فيه الآن، حيث يدعونا المؤلِّف إلى التفكير لحظة في مبدأ العدوى. فالتثاؤب معدٍ على نحو مذهل، لأن الكلمة فقط أصابتنا بالتثاؤب، والآخرون الذين رأونا أو سمعونا نتثاءب قد تثاءبوا أيضاً. كذلك الابتسام والضحك يعدَّان تعبيراً انفعالياً يجذب انتباه أشباهنا من الناس، وينتزع لنا منهم استجابة اجتماعية، قد تكون ملائمة كما يقول د.زكريا إبراهيم في كتابه «سيكولوجية الفكاهة والضحك»، حيث يرى العلماء أن القدرة على الشعور بالآخرين وتقمُّصهم عاطفياً إلى الحدِّ الذي يسبب محاكاة سلوكهم المعدي قد يكون صفة تطورية تخدم الجنس البشري جيداً. التحدث عن العدوى بهذا الشكل يشبه ما يسمَّى بـ «تأثير الدومينو Domino effect»، وهي لعبة قِطع الحجارة المرصوصة جنباً إلى جنب، والتي ما إن تسقِط الأولى باتجاه الأخرى حتى تتهاوى جميع القطع.

في الحقيقة.. أن نسبة قليلة من الأشخاص يمكنهم أن يكونوا عوامل معدية، وهم أولئك الاستثنائيون الذين ينجزون أغلبية العمل. فنحن نصادق الأشخاص الذين نحب القيام بأشياء معهم.. بقدر ما نصادق الأشخاص الذين نشبههم، بمعنى آخر نحن لا نسعى وراء الأصدقاء، بل نتصادق مع الأشخاص الذين يحتلُّون نفس المساحات الصغيرة التي نحتلها. حيث يؤمن «غلادويل» بأن دائرتنا الاجتماعية ليست في الواقع دائرة، بل إنها هرم، وفي أعلى الهرم شخص اسمه (س) مسؤول عن الأغلبية المطلقة للصداقاتِ التي تشكل حياتنا، هؤلاء الأشخاص الذين يشبهون (س) يربطوننا بالعالم، هم الموصِّلون الذي يملكون موهبة جمع العالم معاً. وهم قادرون على استهلال الأوبئة لأنهم يعرفون أشياء نجهلها نحن البقية، وإنما الذي يميزهم ليس مقدار المعلومات التي يعرفونها، إنما كيفية نقلهم لتلك المعلومات، إنهم يريدون المساعدة، ليس لسببٍ سوى لأنهم يحبون تقديمها.

قد نظن أنَّ تعابير وجوهنا هي انعكاس لحالتنا الداخلية، فعندما نشعر بالسعادة نبتسم ويبتسم معنا الآخرون، هذا ما يسميه الكاتب بـ «العدوى العاطفية Emotional contagion» لكن وحده الشخص الفاتن يستطيع إصابة الأشخاص الآخرين الموجودين بالغرفة بعواطفه. أما عن العامل المعدي نفسه، أي كيف يمكن للرسالة أن تحدث تأثيراً، بحيث لا يمكننا إخراجها، وفيما يبدو أن الوصول إلى المستهلك بواسطة الرسالة ليس الجزء الصعب في التسويق المباشر، فالصعب هو جعل المستهلكين يتوقفون ويقرأون الإعلان ويتذكرونه، ومن ثم ينفِّذون ما يطلبه. ومن جهة أخرى نواجه معضلةً من نوعٍ ما، فالكثير مما نتذكره مخزَّنٌ في الواقع خارج أدمغتنا. معظمنا لا يتذكر أرقام الهواتف التي يحتاج إليها، لكنَّنا نتذكر موقعها في دفتر الأرقام، هذا تماماً ما يحصل عندما يعرف الأشخاص بعضهم بعضاً، فإنهم ينشئون نظاماً ضمنياً لذاكرة مشتركة «نظام الذاكرة التعاملية»، فهو يعتبر هذا النظام الأفضل لتذكُّر أنواع معينة من الأشياء التي التصقت بشركائنا لأنها من اختصاصهم، وبما أنَّ طاقاتنا محدودة فنحن نركِّز على ما نجيده فقط.. معتمدين على شركائنا في تلك الأشياء التي يجيدونها وقد نحتاج إليها.. فنستدعيها منهم، إنَّها جزءٌ مما تعنيه «الحميمية» بالفعل، وخسارة هذا النوع من الذاكرة المشتركة هي التي تساعد على جعل الطلاق مؤلماً جداً. إن خسارة كهذه أشبه بخسارة جزء من عقل الذات.

يبدو أيضاً أن الأوبئة تتأثر كثيراً بقوة وضعها، بالظروف، الحالات والمكونات الموجودة فيها، ومهما كان التأثير البيئي كما تقول إحدى الدراسات المذكورة في الكتاب، فليس لذلك علاقة بالأهل، إنه شيء آخر، وذلك الشيء الآخر هو الرفاق. لكن اللافت هو مدى شمولية هذا المبدأ، فالأمر لا يقتصر على عوامل عادية مثل الطقس الذي يؤثر في السلوك، لأن أصغر العوامل وأكثرها دقة وفجائية يمكن أن يؤثر في طريقة تصرفنا. الأمر الجيِّد هنا هو إمكانية عكس الوباء، حيث يمكن تحويله من خلال تفاصيل صغيرة في البيئة المباشرة. وليس علينا اتخاذ الخطوات البطولية. المشكلة كما يلخصها الكاتب هي أننا نزدري هذا النوع من الحلول، لأن هناك شيئاً فينا يجعلنا نميل إلى الحلول الشاملة. في بعض الأحيان نحتاج إلى اختصار ملائم، إلى طريقة نحصل فيها على الكثير من القليل.

العالم مثلما نريده لا يتطابق مع حدسنا. إن الذين نجحوا في إنشاء أوبئة اجتماعية لا ينجزون فقط ما يعتبرونه صحيحاً، إنهم يختبرون حدسهم عمداً، والحدس «Intuition»، بحسب العالم الروحاني «أوشوOSHO »، هو القدرة التي تختبر فيها المشاعر والروح الحقيقية، لذا فهو قفزة من نقطة إلى أخرى، من دون صلة رَبْط بينهما، ويحصل لنا من غير أيِّ سبب أو مصدر. كذلك لا يمكن التقاطه؛ فهو قفزة من العدم إلى الوجود. ولهذا السبب ينكره العقل لعدم قدرته على التقاطه. المخاطرة الكبرى إذن.. هي ألا نعرِّض أنفسنا للخطر، نحن نتجنب المغامرة لخوفنا من الألم وحرصنا على الاستقرار مهما كان راكداً بلا حراك. قرأتُ ذات مرة عن إحدى الدراسات التي استطاعت تحديد المنطقة المسؤولة عن خلق الرغبة في المغامرة والقفز نحو المجهول، (هذه المنطقة تسمىventral striatum، وهي موجودةٌ في جزءٍ غير متطور من الدماغ ينشط عندما يلجأ البعض إلى خيارات غير عادية أو مألوفة). قفزة صغيرة خارج الإطار المتعارف عليه.. يمكن أن تغيِّر حياتنا خارج الخوف من الألم والفشل وثقل المسؤولية. جميعنا تربينا على البحث عن نقطة وسطى، لأنها الأعدل، والأكثر مساواة. لكننا إن تألمنا أكثر من اللازم.. فربما تكون هذه الإشارة الوحيدة.. أو المتبقيِّة للقيام بقفزة صغيرة.. هي كلُّ ما نحتاجه كـ نقطةٍ للتحوُّل.. ومن دون تدرجٍ تمنحنا وباءً إيجابياً.. قادراً على العدوى في لحظة حاسمة.

* شاعرة وتشكيلية سعودية