بيان الوزير المصلح حول الحداثة والعدل والحرية

كتاب «مذكّرات خير الدين باشا»، الشاب المملوك الذي بيع في سوق العبيد

TT

خير الدين التونسي أو خير الدين باشا هو أحد رموز الإصلاح بالبلاد التونسية. ولد سنة 1820 في قرية بجبال القوقاز وكل ما يعرفه عن نفسه أنه عبد مملوك ينتمي إلى قبيلة «أباظة» ببلاد الشركس بالجنوب الشرقي من جبال القوقاز، وأن والده توفي في إحدى الوقائع العثمانية ضد روسيا، فأسر وهو طفل على اثر غارة، ثم بيع في سوق العبيد باسطنبول، فتربى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك، وانتهى به المطاف إلى قصر باي تونس عندما اشتراه رجال الباي من سيده. وجيء بخير الدين إلى تونس وهو في السابعة عشرة من عمره سنة 1837، وأصبح مملوكا لأحمد باشا باي الذي قربه وحرص على تربيته وتعليمه. ولحدة ذهنه أقبل على تحصيل الفنون العسكرية والسياسية والتاريخ. عين مشرفا على مكتب العلوم الحربية. اتضحت خصاله الحربية جلية وفاز بالمراتب العسكرية عن جدارة فولاه أحمد باي أميرا للواء الخيالة سنة 1849.

في سنة 1857 عين وزيرا للبحر فقام بالعديد من الإصلاحات من أهمها ضبط اتفاقيات وقوانين مع الأجانب لحفظ الأراضي التونسية، ومقاومة الحكم الاستبدادي، والعمل على إقامة العدل، والمساهمة في وضع قوانين مجلس الشورى الذي أصبح رئيسا له سنة 1861. وأمام ازدياد فساد الوضع السياسي في البلاد نتيجة سوء تصرف المسؤولين وسرقاتهم قدم خير الدين استقالته من جميع وظائفه سنة 1862، واستغرقت فترة انقطاعه سبع سنوات، من سنة 1862 إلى سنة 1869. انعزل فيها في بستانه يتأمل ويكتب.. وقد ترك لنا حصيلة تأملاته وأفكاره الإصلاحية في كتابه الشهير: (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك). وبالنظر إلى قيمة الرجل في منظومة الإصلاح التاريخية التونسية صدر عن المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» ترجمة لمذكرات خير الدين باشا قام بها المحقق والمترجم محمد العربي السنوسي.

إن تعريب مذكّرات المصلح خير الدين باشا تمثل حدثا في حد ذاته. فهي وثائق معرفية من طراز رفيع لم تنل حقها الأدنى من الاطلاع، إذ تركز الاهتمام تونسيا وعربيا على كتابه الهام «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وظلت «المذكّرات» المكتوبة باللغة الفرنسية حكرا على عدد ضيق من المهتمين، والحال أن هذه «المذكّرات» تمتلك قيمة ذات شأن، تكشف عن أفكار خير الدين حول مفهوم الحداثة وسياسته خاصة إزاء الإمبراطورية العثمانية وفرنسا وأيضا محاولته الإبقاء على سياسة توازن، حتى يحمي البلاد التونسية من الاحتلال. لذلك فإن أهمية هذه المذكّرات هي من قيمة صاحبها وصيته التاريخي البارز في مجال الحداثة والأخذ بسبل التقدم والتطور. ومن غير الممكن حصر قيمة هذه المذكّرات في كلمات، فمن خلالها يتحقق الفهم المنشود لمشروع المصلح خير الدين باشا المتعدد الأبعاد والطبقات. إن ترجمتها ضرورة لا غنى عنها وواجب نحو رمز ذائع الصيت والأثر في مسيرة الإصلاح التونسية ومن غير اللائق التهاون في شأنه. فالحاجة إلى مزيد معرفة كنه أفكار خير الدين الإصلاحية ودلالاتها المتوالدة، وأيضا الكشف عن مدى أهميتها الراهنة من أجل تجذير مفهوم الحداثة، ما زالت قائمة الذات والطلب. لقد كان خير الدين باشا التونسي محبا للإصلاح ومناصرا استثنائيا لقيمتي الحرية والعدل. رجل ساهم فكرا وممارسة في نحت المشروع الإصلاحي العام للبلاد التونسية، فكان السند القوي لـ«محمد باي» حين أصدر «عهد الأمان»، الذي ضمن للتونسيين المساواة في الحقوق وناصر بقوة مبادرة «الصادق باي» لما أصدر الدستور عام 1861.

وعندما نتأمل مضامين أفكار خير الدين الإصلاحية في «المذكرات»، يبهرنا بعد نظره ووعيه المبكر بضرورة شمولية الإصلاح وانسحابه على المجالات كافة كالإدارة والتعليم والاقتصاد والسياسة.

ومما يعزز صورة المفكر الرائد في شخصه وفي المهام الكثيرة والكبرى التي تقلدها أنه كان شديد الحرص على تحديث التعليم، فأدرج العلوم الحديثة واللغات الأجنبية وشجع إنشاء المكتبات وتطوير الطباعة.

إن الجدير بالإشادة في الرؤية الإصلاحية التي صاغها خير الدين باشا هو جمعها التوفيقي بين الأصالة من جهة والانفتاح من جهة أخرى، إذ تدعو أفكاره إلى التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية بما ينسجم وملابسات العصر مع الأخذ بمعارف الآخر الأوروبي، وبأسباب العمران والتقدم والرفاهية التي نجح في الاهتداء إليها. لذلك يعد خير الدين التونسي الملقب بـ «الوزير المصلح» من أهم رجالات الإصلاح خلال أواسط القرن التاسع عشر. فقد كان الرجل واعيا ومتفهما لكل مجريات الأمور في الإمبراطورية العثمانية وفي العالم ومطلعا على التغييرات التي عرفتها أوروبا الغربية وما أفرزته من تقدم وتطور اقتصاديين واجتماعيين وذلك نتيجة إرساء دستورية كفيلة بحماية المواطن في كل ما يتعلق بحياته اليومية، مما يحفزه على الإسهام في تنمية العمران بوصفه فاعلا اجتماعيا منتجا. ولم يكن خير الدين مصلحا نموذجيا فحسب وإنما كان مفكرا إصلاحيا دوّن أفكاره في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، الذي ظهر في الستينيات من القرن التاسع عشر، والذي طرح فيه ضرورة الاستلهام من الغرب مبيّنا أن الشريعة لا تتنافى مع التطور، لو أدركنا الفارق بين ما هو قدسي وما هو دنيوي.

إن أطروحات خير الدين باشا الرّيادية المضمون، أثارت اهتمام الكثير من بينهم السلطان عبد الحميد الثاني الذي أعجب بآرائه، لما فيها من اتزان وتقدير لموازين القوى، فدعاه إلى تولي الصدارة العظمى، أواخر سنة 1878، في ظروف كانت فيها الإمبراطورية العثمانية تعاني من مخلفات معاهدات مؤتمر برلين القاضية بالشروع في بلقنة الإمبراطورية. وأبلى خير الدين البلاء الحسن في إبعاد المخاطر من خلال حل البعض من النزاعات الحدودية مع روسيا واليونان، وحل النزاعات في البلقان، ولكنه سرعان ما أجبر على الاستقالة عندما طلب من السلطان الشروع في بعض الإصلاحات الداخلية، وهو ما لم يقبله السلطان.

كل هذه الأمور وغيرها ظلت لمدة طويلة غير معروفة لدى القارئ، لأن خير الدين تناول مجموعة هذه القضايا وتفاصيلها في مذكّرات، وإن كانت معروفة من قبل بعض المختصين في التاريخ المعاصر للبلاد التونسية، فإنها مجهولة أو تكاد تكون كذلك، بالنسبة إلى عموم القراء في العالم العربي الإسلامي، ذلك لأن هذه المذكّرات كتبت، بل أملاها خير الدين باللغة الفرنسية، ولم تقع الاستفادة من مضمونها والأسرار الحبلى بها، خاصة حيثيّات تجربة خير الدين في الصّدارة العظمى.

ولابد أن نشير هنا إلى الجهد الذي بذله محمد العربي السنوسي الذي ترجم وحقق وأضاف الكثير لهذه المذكرات. وللسنوسي العديد من الدراسات حول يهود تونس نشرت بعدة مجلات تاريخية مختصة وله كتاب حول «الصحافة العبرية بتونس فيما بين 1884-1896» (بالفرنسية)، نشر ميديا كوم 2003. وأسهم في عديد التّرجمات منها «الرحلة إلى تونس (1724)» لجون أندري بيسونال، نشر مركز النشر الجامعي 2003. وترجم أيضا «المذكرة حول إيالة تونس» لهنري دونان، وترجم أيضا رواية «مغامرات رقبوش» لآرتور بيلقرين، التي نشرت خلال العام الجاري.