مقتطف من المذكرة الأولى التي تحمل عنوان «إلى أولادي: حياتي الخاصة والسياسية»

TT

* مكثت، خلال تسع سنوات رغم توسلات الباي، بعيدا عن السياسة. ولكن لم أجسر على رفض عدّة مهام أسندت إليّ لدى حكومات ألمانيا وفرنسا وانجلترا وايطاليا والنمسا والسويد وهولندا والدانمرك وبلجيكا.

لقد مكنتني إقامتي الطويلة بفرنسا وهذه الأسفار الطويلة من دراسة أسس ومقوّمات الحضارة الأوروبية، وكذلك مؤسسات الدول العظمى لأوروبا؛ واغتنمت أوقات الفراغ التي توفرت لي من حياة العزلة، لتأليف كتابي السياسي تحت عنوان: «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». وحيث كنت مشهورا في تونس بمساندتي المستميتة لفكرة ربط الإيالة- الولاية- التونسية بالإمبراطورية العثمانية، فقد وقع تكليفي في هذه الفترة بالسفر إلى القسطنطينية حتى أضع مع الحكومة العلية شروط فرمان يعترف رسميا بالوضع الراهن الموجود واقعيا منذ أربعة قرون في الإيالة ويضبط في نفس الوقت علاقات تونس بالإمبراطورية العثمانية. فالضغوط التي تتعرض إليها الإيالة بسبب عدم وضوح وضعها في علاقات مع الدول الأوروبية، جعلت الحكومة التونسية تشعر بضرورة القيام بهذا المسعى لدى السلطان.

وفي الساعة المحددة، امتطيت باخرة حكومية لتقلني إلى المكان المقصود ولم يبق الانتظار سوى القوة الضرورية من ضغط البخار للإبحار، إذ بهم يعلمونني بزيارة القائد الثاني لمدرعة فرنسية كانت راسية في مياه حلق الوادي. وسألني هذا الضابط، الذي مثل أمامي، إن كنت سأسافر في تلك الليلة ذاتها.

وعندما أجبته بالإيجاب، أضاف بأن القبطان رئيسه يرجو مني تأخير سفري يومين أو ثلاثة أيام حتى يتسنى لقنصل فرنسا الوقت الكافي للحصول من باريس على تعليمات تتعلق بسفري، فأجبته: «سيدي، إنك عسكري مثلي، ومن واجبك أن تكون على علم بأنني لا أقدر على مخالفة أوامر حكومتي دون الإخلال بكل واجباتي؛ ويجب أن تفهم بأنه بين مجاراة قبطانك والقيام بواجبي، ليس لي أي خيار؛ وعليه فأنا مبحر حسب ما لدي من تعليمات».

فأردف الضابط: «في هذه الحالة، أنذرك بأن القبطان رئيسي سيجد نفسه مجبرا بكل أسف على إرغامك بالقوة على ذلك». فأجبته، إذن حانقا لتهديده، قائلا: «كان من الواجب أن تبدأ مهمتك من هذه النقطة، أيها السيد، فأنا لا أتلقى الأوامر من رئيسك، ولا يغير هذا شيئا من قراري. وبما أن الحكومة التونسية لها حق إيفاد موظفيها حيث شاءت، وحتى لا أترك مجالا لكي تعتقد بأنني سأفر، أمنحك وقتا للعودة إلى باخرتك وأن تعلم رئيسك بنتائج لقائنا؛ ثم ارفع المخاطيف؛ ولكن أعلمك أنه لو حاول رئيسك وضع تهديداته محل تنفيذ، فإني أعرف الدفاع عن نفسي بالوسائل المتوفرة لدي، محملا إياه مسؤولية الحوادث».

وبعد وقت قصير من هذا الحادث أبحرت، واقتفت أثري الفرقاطة الفرنسية، وهي على استعداد للتحرك، مرسلة لي حتى الصّباح إشارات بالتوقف، فلم اعرها اهتماما أكثر من عدم اكتراثي بتهديدات قبطان السفينة».

هذا مع العلم أن القائم بالترجمة والتحقيق الذي تضمن عدة إضافات واستنتاجات منطقية الأستاذ محمد العربي السنوسي قد ألف العديد من الدراسات حول يهود تونس نشرت بعدة مجلات تاريخية مختصة وله كتاب حول «الصحافة العبرية بتونس فيما بين 1884-1896» (بالفرنسية)، نشر ميدياكوم 2003. وأسهم في عديد التّرجمات منها «الرحلة إلى تونس (1724)» لجون أندري بيسونال، نشر مركز النشر الجامعي 2003. وترجم أيضا «المذكرة حول إيالة تونس» لهنري دونان، وترجم أيضا رواية «مغامرات رقبوش» لآرتور بيلقرين، التي نشرت خلال العام الجاري.