البيت من سومر إلى بغداد

شكل نموذجا متقدما ذا انسجام مع البيئة والمحيط وتقنيات البناء

TT

تفتح حضارة وادي الرافدين، مهد اقدم الحضارات الانسانية، نافذة على العالم القديم يطل منها المرء على مسيرة التطور الحضاري الذي حققته البشرية في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتقنية، ومن تلك الانجازات الحضارية المهمة بيت السكن والعمران الحضري الذي بدأ في سومر وبابل وما زالت آثاره واضحة في البيت البغدادي العريق، الذي يعكس نموذجا يعود تاريخه الى آلاف السنين.

صدر كتاب «البيت البغدادي» في سلسلة الكتب العلمية «المدينة والفضاء العمراني» في فرانكفورت وباللغتين العربية والالمانية وتضمن بانوراما تاريخية عامة للبيت البغدادي من حيث توزيع المكان وتحديد الاسس واختيار مكونات العمارة وتعيين اهداف الاستخدام وتطور فن العمارة من حيث الزخارف والنقوش والمقرنصات التي يتميز بها البيت البغدادي التقليدي الذي يتسم بتوافره على الفناء (الحوش) وما يلحق به من فضاءات، وكذلك استخداماتها الوظيفية والاجتماعية.

وتمتد اصول البيت البغدادي الى البيت السومري الذي هو نتاج حضارة وادي الرافدين التي كونت نموذجا متقدما انسجم بشكل كبير مع البيئة والمحيط وتقنيات البناء وتطور عبر آلاف السنين حتى وصل عبر البصرة والكوفة الى الشكل الذي يتميز به البيت البغدادي اليوم الذي يظهر بانغلاقه من الداخل وانفتاحه الى السماء عبر الفناء الداخلي.

يتضمن الكتاب اربعة فصول رئيسية. يبحث الفصل الاول منه في حضارة وادي الرافدين حيث نشأت اولى الحضارات العليا القديمة وتطورت اولى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونشأت أولى المدن والمعابد والزقورات وقيام المراكز الحضرية والاحساس بروح المواطنة واكتشاف المعادن والفخار والكتابة المسمارية وتشكيل اولى الامبراطوريات الكبيرة. وتدل التقنيات الاثرية في مدينتي أور وبابل الى أهم واقدم المعالم الحضارية المتنوعة حيث قامت في تلك المدن شبكة من الشوارع والازقة الضيقة التي تمتد على جوانبها بيوت سكنية يوحدها معبد صغير على تقاطعات الازقة المتشابكة. ويمتد مخطط البيت السكني الى حضارة تل العبيد في الالف الخامس قبل الميلاد.

ويشرح الفصل الثاني العناصر المعمارية لفضاءات البيت المتعددة وعلاقاتها بالحياة الاجتماعية، حيث كان جوهر فكرة السكن هو تحديد الفضاء الشخصي المناسب لتأمين الحماية لافراد العائلة وتحضير مستلزمات المعيشة واستقبال الضيوف. ولذلك جاء تركيب البيت السكني تركيبا عمرانيا ذا فضاءات سكنية ذات اهداف متعددة واستعملوا وسائل وادوات وفرشا بسيطة يمكن نقلها من مكان الى آخر، ملتزمين بمواصفات الخيمة والصريفة (بيت القصب السومري) الذي يعد اقدم طراز سكني بني في البطائح واستبدل فيما بعد ببيوت بنيت بالطابوق مع احتمالات متعددة لاستخدام الفضاء السكني الذي ادى الى خيارات متنوعة منها بناء طابق علوي وسرداب تحت الطابق الارضي وطارمات، حسب الظروف المناخية. ومنذ بداية القرن العشرين تطور نمط سكني جديد يمزج بين الموروث السومري وبين النموذج الغربي، مستخدما تقنيات حديثة في البناء وذلك بفتح نوافذ باتجاه الزقاق ومن ثم بناء شرفات تطل على الشارع في الطابق العلوي بدل الشناشيل. ويتميز بانفتاحه نحو الداخل، اي نحو الفناء الذي يتم الدخول اليه من خلال مسلك او دهليز منكسر ليحافظ على انغلاقه. اما من الخارج فتبرز الشناشيل والشرفات المتدرجة ذات الزوايا القائمة بعضها الى جانب بعض. ويمتاز البيت البغدادي بفناء مربع او مستطيل الشكل مع طارمات وشبابيك ومنفذ كبير للإنارة والرياح الى جانب قنوات تهوية «بادكير» لاكمال دورة تهوية طبيعية في الفناء. كما تطورت انماط بنائية مختلفة كالأورسي والكبشكان والمطبخ وبيت الخلاء «الحمام» والحظائر وغرف المؤونة وغيرها. وفي الفصل الثالث عالج المؤلف التكوينات الهندسية للفناء الداخلي وواجهة المسكن الخارجية التي غالبا ما تكون عارية من الشبابيك. كما تطرق في الفصل الرابع الى العلاقة الجدلية بين فن العمارة والعلاقات الاجتماعية كالاحساس بالجيرة والحفاظ على الموروث الذي اتسم به البيت البغدادي.

ومن الملاحظ انه بمرور الزمن حافظت المدن والاحياء وبيوت السكن على تنظيماتها العضوية وترابطها الحيوي وارتباطها بتقاليد وطقوس دينية انعكست بشكل متميز بالازقة الضيقة المتشابكة وتشكيلات اشبه بخلايا النحل التي تكون بمجموعها وحدات سكنية متجاورة ومتداخلة عضويا بعضها مع البعض الآخر، كما هي اليوم في بعض احياء بغداد القديمة.

ويتخلل الكتاب مجموعة جميلة من الصور واللوحات والرسومات والمخططات الهندسية لعدد من البيوت السكنية في بغداد، التي هي امتداد للبيت السومري والبابلي القديم، باعتبارها وريثة تلك الحضارات.

واليوم ومع النمو الديموغرافي السريع والتوسع السكاني الافقي والهجرة من الريف الى المدن والحروب التي عصفت بالبلاد يصبح من الصعوبة بمكان الحفاظ على معالم التركيب السكاني وهو ما يشكل خطرا يهدد وجود هذه الخواص المعمارية المتميزة، حيث اخذت الاحياء السكنية القديمة بالتحول الى مجمعات سكنية كبيرة ومدن وضواحي وبيوت كونكريتية تفقد شيئا فشيئا خصائص البيت البغدادي واصالته.