الناس يكتبون صرخاتهم على الجدران الإنترنتية

الشوارع لم تعد المكان المناسب له

TT

يلاحظ الباحثون أن الكتابة على جدران الشوارع انخفض معدلها بقدر كبير. هذه العادة التي رافقت الناس في القديم والحديث بدأ يأفل نجمعها لصالح الكتابة على جدران من نوع آخر، لعل أشهرها هو الجدار الافتراضي الذي ابتكرته مخيلة الشاب الأميركي مارك زوكربرغ على موقع الفايس بوك، حتى بات بمقدور كل مواطن على سطح الأرض ان يكون له جداره الذي يتسع لكل الشعارت والهتافات التي يمكن ان تعج بها النفس البشرية. وإضافة إلى جدار الـ«فايس بوك»، تحولت الشبكة كلها إلى ما يشبه الجدران المتلهفة أبداً لتلقي صرخات الغاضبين والناقمين كما الراغبين في الفرح أو مجرد الفضفضة. فهل سرقت الجدران الافتراضية من الجدران الإسمنتية دورها الثوري؟ وكيف؟

على الجدران كانت العبارات المختزلة تمثل شكلاً استثنائياً من أشكال التعبير، يختلط فيها العامي بالفصيح والركيك بالبليغ والسياسي بالعاطفي والديني. الكل يعبر عما يدور في صدره دون قيد، وتتفاوت مساحة الحرية باختلاف مكان الجدار وطبيعة الشخص الذي يعبر عن نفسه. فجدار الشارع المتاح للجميع تختلف جرأة ما يكتب عليه عما نجده في مكان مغلق كالمرحاض العام مثلا. ورأى البعض في العبارات المدونة على الجدران والسيارات هتافاً يطلقه الصامتون في مواجهة كل ما يرفضونه. وكان ذلك محوراً لكتاب ألفه الراحل الدكتور سيد عويس قبل سنوات وأعطاه اسم «هتاف الصامتين». منذ ذلك الوقت بدأ الكثيرون يتعاملون مع هذه الكتابات باهتمام أكبر. وقبل أسابيع كان الموضوع ذاته محوراً لورقة بحثية في مؤتمر عقدته كلية الآداب بجامعة القاهرة، حمل عنوان: «مصر في مفترق الطرق.. دراسات أدبية ولغوية». أما الورقة التي تعنينا هنا، فتناولت الكتابات والملصقات على أنها وسيلة تواصل تتسم بالحيوية وتعكس روح التحدي للقيم الاجتماعية السائدة. الذين اعتادوا التجوال بشكل دوري في شوارع القاهرة على مدار العقود الماضية، يلاحظون أن الكتابات على الجدران تتناقص تدريجيا، وغالباً ما يتم ذلك لصالح الدعاية التي نجحت في تحويل كل شيء إلى نموذج استهلاكي!

فى السنوات الأخيرة لوحظ أن دور الجدار يتراجع، لم يعد يحفل بتلك العبارات المناوشة أو المتحرشة أو حتى التي تخلد قصة حب طفولية. هناك من رأى أن السبب يعود إلى التكنولوجيا التي أتاحت وسائط أخرى للتعبير وسلبت الجدار دوره. الروائي جمال الغيطاني يؤكد: «أصبح الإنترنت هو الجدار البديل»، السرعة التي أجاب بها توضح أن الظاهرة كانت تستوقفه عبر سنوات مضت. وهو الأمر الذي يؤكده الغيطاني قبل أن يستكمل: «على النت كل شيء يقال، وفيه يتم تفريغ الكبت السياسي عبر الهتاف والشعارات وحتى السباب». يتوقف قليلا قبل أن يحلل: «دائما كان هناك أسلوبان للتعبير عبر هذه النوعية من الوسائط: الأول هو مخاطبة الآخرين وهذا ما رصده لنا الراحل سيد عويس في كتابه (هتاف الصامتين)، ويتمثل في الشعارات التي تكتب على الجدران أو السيارات. والثاني هو البوح الداخلي الذي يتم على جدران دورات المياه على سبيل المثال. غير أن ما يتم تدوينه على جدران دورات المياه كان دائما أفحش بحكم طبيعة المكان، وقد رصدت الكثير من العبارات التي كان بعض الموظفين في مؤسسة ما ينتقمون فيها من رؤسائهم، كما أن هناك تعبيرات تنم عن كبت جنسي. والغريب أن هذه العبارات ليست قاصرة على مصر أو الدول العربية فقد وجدتها في البلدان الأجنبية. وكان بعضها يهدف أحيانا للانتقام من حبيبة سابقة يشتمها أو يترك رقم هاتفها باعتبارها عاهرة لجلب مضايقات إليها». يرى الغيطاني أن الإنترنت وفر جدراناً بديلة تحقق الأهداف نفسها: «أصبح الإنترنت وسيلة للتشهير والانتقام والدعاية والتعبير السياسي والإعلان. وكل من يعاني يمكنه التعبير عن همومه، وأي ناقم على نظام بلاده يكفيه أن يرسل نكتة سياسية أو شعاراً أو سباباً عبر البريد الالكتروني ليصل إلى نطاق أوسع، هذا بخلاف المدونات وجدار الفيس بوك ومجموعاته. ولم يعد أحد يخاطر بالكتابة على جدران الشوارع معرضاً نفسه لمخاطر الإمساك به». لكن تحليل الغيطاني يقود إلى تساؤل، ففرسان الحوائط ينتمون لجيل مغاير لا يعلم الكثير عن الشبكة العنكبوتية، وهذا يعني أننا أمام ظاهرة تكاد تنقرض لأنها لم تعد مناسبة لمناخ ألفته أجيال جديدة. يوافق جمال الغيطاني على ذلك قائلا: «أفرز الإنترنت جيلا أكثر ثقافة، صحيح أنه بدأ من حيث انتهى إليه كتاب الجدران في الأجيال السابقة بإفراز شعارات حماسية واستمر بعضهم في ذلك غير أن كثيرين طوروا من أدائهم».

بعيداً عن الانترنت تظل فكرة الكتابة التقليدية على الجدران تطرح تساؤلاتها، فوسط زخم من الكتابات، هل يمكن القول بأن هذه النوعية من التعبير قد أفرزت أدبياتها؟ سؤال يرد عليه الغيطاني بالنفي، إذ ان معظم هذه الكتابات كانت تتسم بالركاكة والسطحية: «ربما كانت الكتابة على السيارات هي الأكثر رصانة واعتماداً على السجع الذي لا تجده غالباً على الحوائط.

إنه الفرق بين الثبات والحركة، فالسيارات في حالة عرض مستمر». في حديثه أشار الغيطاني إلى مخاطر قد يتعرض لها من يكتب على الجدران، وهو محق في ذلك حيث يلاحق الأمن من يقوم بذلك. السبب المعلن عادة هو الاعتداء على الممتلكات العامة وتشويهها، لكن الأمر يمتد إلى السيارات التي تعتبر من الممتلكات الخاصة. قبل أسابيع قامت السلطات المرورية بمحافظة القاهرة بحملة تم خلالها ضبط آلاف السيارات التي تضع ملصقات تحمل شعارات، أو علامات مهنية، ويحلل الغيطاني ذلك بقوله: «الأمن يقوم بخطوات استباقية لأن الإبقاء على أي شعارات عادية، يمكن أن يؤدي إلى استخدام الجدران والسيارات في نشاطات سياسية. ربما نذكر جميعا شعار (الإسلام هو الحل) الذي ظهر في البداية كمصطلح لم يعرف الكثيرون أن هناك ارتباطاً بينه وبين حركة الإخوان المسلمين، ليتحول من شعار ديني إلى آخر سياسي. الغريب أن الجماعة نفسها أصبحت هي الأكثر استخداماً للجدران البديلة التي أتاحتها شبكة الإنترنت بعد ذلك». قبل سنوات شهدت جدران مدينة القاهرة حالة فريدة، فقد انتشر الكثير من الإعلانات التي تنبئ بأديب الشباب، وأصبح اسم محمود عبد الرازق عفيفي شهيراً لكل من يركبون المترو من وسط المدينة إلى حي مصر الجديدة، لكن الشهرة لم تتعد غالباً حدود الاسم لأن كثيرين لم يتخطوا تلك المرحلة إلى مرحلة تالية تتمثل في شراء كتبه. القليلون الذين فعلوا عرفوا ما يمكن أن تفعله الجدران، فقد تسببت في شهرة استثنائية لأديب الشباب الذي لم تكن كتبه تحمل أي قيمة أدبية، بل كانت مجموعة من الكتابات الركيكة التي تجعل قارءها يستغرق في الضحك من آرائه وحكاياته عن فنانات يطاردنه ليتزوجن به ويلححن عليه رغم رفضه. كان عفيفي حسبما أشارت كتبه يقوم بدعايته لنفسه، فهو يتجه كل مساء إلى أحد الأحياء حاملا طلاءه وفرشاته ليكتب عباراته على الجدران. عبر السنوات تغير الأمر واختفت تلك العبارات ربما بحكم تقدمه في السن التي لم تعد تتيح له فرصة استكمال مناوشة عمال النظافة الذين كانوا يزيلون دعاياته فيعيد كتابتها في اليوم التالي. حالياً لم يتبق من أديب الشباب إلا عبارات منسية في بعض الأحياء الشعبية. ويذكر جمال الغيطاني أنه شاهد أخيراً إحداها في طريق الاوتوستراد بالقرب من حي الدويقة: «إنها بقايا متناثرة من عبارات نسيها الزمن أو ما أطلق عليها اسم سواقط القيد. وأذكر منها أيضا عبارة دعائية كتبها أحد المرشحين في الستينات للدعاية لنفسه في انتخابات الاتحاد الاشتراكي».

في البدء كانت الجدران أول صحف في التاريخ، تم استغلالها كوسيلة اتصال بين السلطة والشعب، واستخدمها الحاكم في استعراض بطولاته، وتوارث الإنسان هذه العلاقة واستمر في عشق الجدران التي تتيح له فرصة استثنائية في تحقيق ذاته بطرق متنوعة، والعلاقة ظلت راسخة لسنوات، على جدران الهرم الأكبر فقد حرص بعض جنود الحملة الفرنسية التي غزت مصر في نهايات القرن الثامن عشر على حفر أسمائهم. كانوا يرغبون في تخليد تلك اللحظة أو تخليد أسمائهم عبرها، وأصبحت تلك الأسماء أثراً بدورها. وفي القرى المصرية كانت الجدران تقوم بدورها أيضاً، واشتهت الرسوم التي تسبق عودة الحاج من الأراضي المقدسة معلنة عن مرحلة جديدة في حياته. كانت الرسوم الجيرية تظل تكسو جدران البيت من الخارج حتى يحج من جديد فيتم تغييرها برسوم أخرى أو تتآكل بفعل الزمن. غير أن هذه الظاهرة تحتضر بدورها، فالجدران المبنية من الطوب اللبن تغيرت، وكذلك أساليب الطلاء، إضافة إلى قناعات الناس أنفسهم. أصبحت الظاهرة ملمحاً تراثيا يرصده باحثو التراث الشعبي، ومنهم الشاعر مسعود شومان، الذي يشير إلى أن ما يدون على الجدران بصفة عامة كان يثير انتباهه. فكثيرا ما استوقفته شعارات وعبارات الحوائط بوصفها تعبيراً صادقاً عن المكبوت: «إنها آراء حقيقية وربما تكون عنيفة في مواجهة كل المسكوت عنه، تسجل كل ما لا يستطيع الإنسان البوح به أمام من يقهره». الأمر لا يقتصر على الحوائط الخارجية أو العبارات المكتوبة بخط اليد: «فالموظف في مؤسسة ما قد يعلق وراءه آية قرآنية، وبقليل من التفكير في معناها سنجد أنها لا تحمل فقط دلالة دينية، وإنما ثورة على ظلم مديره في العمل مثلا». الهدف عادة يتمثل في أن يشارك الفرد آخرين في همومه حتى لو تم ذلك عبر تعبيرات ركيكة: «لأن معظم ما يكتب على الجدران ركيك، لكنه بالغ الدلالة، واللجوء إلى هذه النوعية من الكتابات ارتبط بالتحول الذي حدث قبل سنوات من الشفاهي إلى الكتابي، بعد أن اكتشف الكثيرون أن الشفاهة فقدت تأثيراتها، لدرجة أن المتسولين تركوا الكلام وأصبحوا يمارسون حرفتهم باستخدام أوراق تتحدث عن مشاكلهم». لكن حتى الكتابة التقليدية بدأت تفقد تأثيراتها أمام وسائل أخرى كالإنترنت كما سبق أن أشار الغيطاني وأيده شومان الذي رأى أن مساحة التعبير على الجدران تراجعت لصالح أغراض أخرى كالدعاية: «في الأحياء الشعبية خصوصاً سيطرت الإعلانات، خاصة تلك الخاصة بالدروس الخصوصية، وأصبح كل مدرس يمنح نفسه صفات تحتاج إلى رصد. تراجع البوح والصراخ وحتى التعبير عن الحب أمام طوفان الدعايات، وإن نجحت السيارات في الحفاظ على تعبيراتها التقليدية التي تركز في معظمها على درء الحسد. فإذا اعتبرنا السيارات جدراناً متحركة، يصبح مدى انتشارها أكبر، لكن ما يدون عليها لا يحمل نفس الصرخات التي كان يكتبها البعض على الجدران للتعبير عن انفعالاتهم أو تجاربهم».

لا تعرف الدكتورة سامية قدري، اختصاصية علم الاجتماع بجامعة عين شمس هل صارت كتابات الجدران بالفعل أقل من السابق أم أن حركتها هي التي تقلصت بحكم انشغالها بحيث صارت لا تتابع كتابات الجدران: «في الماضي كنت أراها كثيراً، خاصة في الأحياء الشعبية، الآن لم أعد أراها إلا نادراً». تصمت قليلاً كأنها تتذكر شيئاً قبل أن تواصل: «ربما لا ينطبق الأمر نفسه على الحمّامات العامة، فمنذ فترة قصيرة كنت في زيارة إلى إحدى المؤسسات ولاحظت على جدران حماماتها كتابات من النوعية نفسها. إنها كتابات مخلة تجعلها أقرب للبوح الداخلي أو تفريغ كبت، فما لا يستطيع الإنسان قوله بصوت عال يمكنه التصريح به في هذه الأماكن المغلقة. وبالمناسبة ألاحظ أحيانا في الجامعة أن الطلبة يكتبون مثل هذه العبارات في الحمامات. أما الجمل المرتبطة بالحب فتكتب على المقاعد الخشبية داخل المدرجات لتختلط بعبارات أخرى لا معنى لها مما يجعلني أرجح أن من يفعل ذلك أحيانا لا يهدف إلى البوح بقدر ما يرغب في هدر الملكية العامة تعبيراً عن حالة رفض ما». في تحليلها تشير الدكتورة قدري إلى كتابات المراحيض بوصفها طريقة للتعبير عن المسكوت عنه في مجتمع مغلق. نشير إلى أن هذا يحدث في المجتمعات الأوروبية - حسبما أكد الغيطاني - فتقول إنها شخصيا لم تصادف ذلك في زياراتها الخارجية، فنعود لنشير إلى أن هناك وسائل أخرى للبوح يرى البعض أنها حلت مكان الوسائل التقليدية ويمكن لهؤلاء الذين لا يملكون القدرة على المواجهة أن يلجأوا إليها فتعلق: «ربما يكون النت بالفعل هو أحد الوسائل التي سرقت من الجدران كتابها خاصة أن الكتابة على الحوائط لم تكن هدفاً في ذاتها بل كانت وسيلة تعبير وتواصل مع آخرين مفترضين. وشبكة الإنترنت قامت بتوفير شخصيات افتراضية تتمكن من التعبير عنها بقدر أكبر من الجرأة والخصوصية، كما أنها أصبحت وسيلة أكثر حيوية فيما يتعلق بالاتصال التفاعلي».