الحداثة العربية والأوروبية.. 3 قرون من التفاوت

ليست لها شهادة ميلاد ولا مكان ولادة

طه حسين وإدوارد سعيد
TT

متى نشأت الحداثة في أوروبا؟ وكيف انتقلت إلى العالم العربي؟ وهل نجحت عملية الانتقال أم فشلت؟. هذه هي بعض الاسئلة التي نود طرحها هنا مستعينين بتجارب بعض المثقفين العرب والأجانب. فلكل واحد منهم مساره الخاص بكل تعقيداته وتعرجاته واحباطاته ونجاحاته. وكلٌ منهم يحمل تصوراً ما عن الحداثة وكيفية تشكلها وانتقالها من أوروبا إلى العالم العربي.

ونبدأ بالحديث عن أنور لوقا الأستاذ في جامعة ليون والمصري الأصل. وفيها يتحدث عن مساره الطويل الذي نقله من صعيد مصر إلى القاهرة وجامعتها ثم إلى باريس والسوربون، ثم إقامته المستمرة بعدئذ في فرنسا كأستاذ جامعي. وهي قصة ممتعة ومؤثرة لأستاذ جامعي غير معروف كثيراً من قبل الجمهور العربي ربما بسبب استقراره في الغرب. يقول الأستاذ لوقا: على الرغم من أني تابعت المحطات الطبيعية والكاملة للدراسة حتى الجامعة، إلا أني أعتبر نفسي عصامياً كوّن نفسه بنفسه. فالقراءة الذاتية وحب المطالعة والشغف بعالم الكتب والفكر والأدب هي أشياء كان لها فضل كبير على شخصيتي منذ الصغر. ثم يتحدث بعدئذ عن لقائه الحاسم بعميد الأدب العربي طه حسين. وهو لقاء غيّر مجرى حياته لأنه أدى إلى إرساله في بعثة علمية إلى فرنسا من أجل تحضير شهادة الدكتوراه. يقول أنور لوقا في إحدى مقابلاته الصحفية: سوف أروي لكم قصتي مع طه حسين. كانت أول مرة ألمحه فيها (وقد رجف قلبي آنذاك) عندما حضرت حفل الاستقبال الذي نظمته كلية الآداب، عرينه القديم، وكان مدعواً أيضاً. في الواقع إن قسم اللغة الفرنسية هو الذي نظَّم الحفل على شرف جان كوكتو الذي جاء إلى مصر زائراً في ربيع 1949 لمرافقة فرقة مسرحية يتوسطها النجم اللامع جان ماريه. كان طه حسين واقفاً في إحدى زوايا المكتب الواسع الذي يحتله عميد الكلية الجديد زكي حسن. وقد بدا واضحاً أن هذا العميد الصغير كان يتجاهل العميد الكبير ويدير له ظهره على الرغم من أن الجميع يعرفون أنه لولا طه حسين لما ارتفع هذا الرجل في المراتب الرسمية ولما وصل إلى ما وصل إليه من مناصب. كان جواً خانقاً ومؤلماً ومحرجا من الناحية النفسية. وذلك لان العميد القديم كان أعظم حضورا بكثير من خلفه ومع هذا فلا أحد يتجرأ على اظهار ذلك علنا. وقد عبّر عنه جان كوكتو في انطباعاته التي كتبها عن تلك الرحلة بعنوان: معليش. يقول الكاتب الفرنسي الشهير: طه حسين مغضوب عليه. إنه أعمى. ولكنه يرى. إنه يرى إلى أبعد مما هو مسموح به في مصر. طه حسين شخصية عنيدة لا تتراجع ولا تتنازل. ونلمح فيه قوة سرية مرهوبة الجانب. وقد ازدادت قوته بعد أن وضع في الظل أو غضب عليه من قبل السلطة. الجميع يستشيرونه، أو يحبونه، أو يكرهونه، أو يخشونه. في مواجهة نظارتيه السوداوتين اللتين تراقبانك يُخيَّل إليك وكأن أطلال مصر القديمة تتخذ لها معنى وتكفّ عن أن تكون مجرد غاية للنزهة... طه حسين هو الذي أدخل المناهج العقلانية الحديثة إلى الجامعة المصرية والعالم العربي. طه حسين هو منارة الشرق كله..

لكن ماذا يقول أشهر عالم انتروبولوجيا فرنسي معاصر جورج بالاندييه؟ أقصد ماذا يقول عن الحداثة وعلاقة الشرق بالغرب؟ من المعلوم أن هذا العالم كان قد كرس أكثر من كتاب لدراسة مسألة الحداثة ومصيرها في كلا السياقين الأوروبي والإفريقي. فهو أحد كبار المختصين بإفريقيا السوداء ومشاكلها وهمومها. وقد طرح عليه أحدهم هذا السؤال: ما الذي دعاك إلى دراسة إفريقيا بدلاً من الصين أو أية منطقة أخرى فأجاب: شجعني على ذلك لقاء شخص كان حاسماً بالنسبة لي هو ميشال ليريس وذلك في متحف الإنسان والعلوم الطبيعية بباريس. وقد اقترح علي بأن أتخصص بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا في الدراسات الإفريقية دون سواها. وقد دعم كلامه بالقول بأنه قد اختار نفس الطريق وأنها قد قادته إلى التزامات شخصية معادية للاستعمار. في الواقع إن الإتنولوجيا التي كانت تمارس آنذاك لم تكن ترضيني. والاتنولوجيا تعني دراسة الأعراق البشرية وخصائص الشعوب. فقد كانت تعتبر الشعوب الأخرى منغلقة على ذاتها داخل ضرب من الأبدية الثقافية ولا يمكن ان تتطور. وهذا غير صحيح. انه موقف استعلائي، عنصري، استعماري. وبالفعل فقد كانت الدراسات الاتنولوجية في مجملها موسومة باللازمنية والجمود. وكنت منزعجاً من تلك الطريقة في النظر إلى الشعوب غير الأوروبية. فهي تعبّر عن عرقية مركزية أوروبية واضحة. لكأن الشعوب القادرة على التطور والتقدم هي وحدها الشعوب الأوروبية! وأما ما عداها فجامد أبدياً سرمدياً ويستعصي على أي تقدم أو تطور. وهذه نظرة لا تاريخية تنطوي على الكثير من الاحتقار للشعوب الأخرى. وأعتقد أني ساهمت في تغيير هذه النظرة الاتنولوجية أو الأنتروبولوجية الموروثة عن القرن التاسع عشر: أي عن عصر الاستعمار والتفوق الأوروبي الكاسح على جميع شعوب الأرض. ولهذا السبب انخرطت في نقد الحداثة الكلاسيكية التي أدت الى المغامرات الاستعمارية وهيمنة القوى الاوروبية العظمى على الشعوب الاخرى واستغلالها. وبالتالي فأول شيء ينبغي ان نفعله هو نقد الحداثة او قل نقد انحرافاتها عن المبادئ العظيمة لفلسفة التنوير الاوروبي والمتجسدة أساسا في مؤلفات جان جاك روسو والفلسفة المثالية الالمانية وبخاصة فلسفة كانط.

ويرى بعض الباحثين الآخرين ما يلي: لقد جرت العادة على تعريف الحداثة بأنها عبارة عن تتابع للتحولات الفلسفية والسياسية والاقتصادية التي انطلقت في القرن الرابع عشر وبلغت مداها في القرن التاسع عشر. وهذا صحيح الى حد كبير. غير أنه ليس للحداثة من شهادة ميلاد، أو قل انها ما انفكت تراكم من شهادات الميلاد. فالمصنَّفات المدرسية تقيم حدوداً زمنية كأن تقول في سنة 1453 أو 1492 جاءت العصور الحديثة لتحل محل العصور الوسطى. وفي العام الاول اكتشف جوهان غونتنبيرغ المطبعة واما في الثاني فقد اكتشف كريستف كولومبوس اميركا. وهما اكتشافان مذهلان كانت لهما نتائج ضخمة جدا. وبشكل من الاشكال يمكن القول بأن اكتشاف أمريكا والمطبعة دشَّنا رمزياً عصر النهضة. فلولا المطبعة لما نجح الاصلاح الديني في ثورته على الكنيسة الكاثوليكية الجامدة والمتحنطة فكريا والفاسدة اخلاقيا والقمعية جدا آنذاك. لولاها لما انتشرت كتب مارتن لوثر انتشار النار في الهشيم وقضت على الارهاب البابوي وفساد طبقة رجال الدين بشكل عام. نعم ان النزعة الإنسانية الجديدة العلمانية وكذلك القطيعة التي أحدثها الإصلاح الديني في البلدان البروتستانتية، ومراجعة المؤسسات الكاثوليكية لنفسها، هما اللتان صنعتا بذور خميرة الحداثة التي تفتحت لاحقا وآتت ثمارها. ولكن المطبعة لم تنتقل الى العالم العربي الا عام 1822 وكانت مطبعة بولاق الشهيرة في مصر. وهي التي أدت الى انطلاقة النهضة العربية بعد ان انتقلنا من الكتاب المنسوخ باليد بعشرات النسخ الى الكتاب المطبوع بمئات او آلاف النسخ. لقد ظهرت المطبعة عندنا بعد ثلاثمائة سنة تقريبا من ظهورها في اوروبا. وهذه هي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبينهم من حيث التطور.. وبالتالي فلا يستغربن أحد لماذا هم متقدمون علينا ولا نستطيع اللحاق بهم بسهولة. ولولا اكتشاف اميركا لما تدفق الذهب بكميات هائلة على اوروبا وازدهر اقتصادها وأدى الى انطلاقة عصر النهضة فيها.

وأما المفكر التونسي الطاهر لبيب فيقول بما معناه: ليس البحث عن الذات عبر اختراع الآخر أو بناء صورة عنه أمراً خاصاً بثقافة دون أخرى. لكن اللافت للانتباه بخصوص الثقافة العربية – كثقافة كبرى لم تستوعب ضعفها - انها لا تتحمل بسهولة نظرة الآخر إليها. إنها كتلك المرأة التي تحدث عنها مونتسكيو فقال انها تكون لها عادة مشية مستقيمة، ولكنها تعرج كلما نظر إليها أحدهم! ليست المسألة اذن مسألة نظرة إلى الذات –والعرب من أقسى من جلدوا ذاتهم - ولكنها مسألة تقاطع بين نظرتين. صحيح أن الغرب اخترع شرقه، ولكنه صحيح كذلك أن الشرق اخترع غربه: كلٌ من موقعه وكلٌ بطريقته وآلياته. غير أن السمة الغالبة في التناول العربي للاستشراق هي رفض الصورة التي يحملها هذا الاستشراق عن العربي والمسلم والبحث لها عن سياقات معادية او دوافع مغرضة. ولكن هذا الرفض لا يوازيه اي تساؤل عن الصورة التي يبنيها العربي عن الغرب وعن علاقتها بواقع هذا الغرب. إنه يتشكّى من «تشويه» الغرب لصورته، ولكنه لا ينتبه إلى أن صورة الغرب يمكن أن لا تكون أقل تشويهاً في مخياله وخطابه.

ثم يختتم الطاهر لبيب كلامه قائلاً: لقد بقي نقد الاستشراق في جوهره ملاحقة للذات. إنه تصيّد لها خارج فضاءاتها المعهودة. قد يكون ذلك بأدوات معرفية متقدمة وبذكاء كبير، كما هو الشأن في «استشراق» ادوارد سعيد، ولكن العلاقة بالنص الاستشراقي تبقى ذات شبه كبير بعلاقة الرحّالة بالبلد الذي يرحل إليه بحثاً عن ذاته.

والواقع ان كلام الطاهر لبيب صحيح وهو ينطوي على نقد لأطروحة ادوارد سعيد مع الاعتراف بألمعيتها. فنحن ايضا نختزل الغرب الى بعض الكليشيهات الرديئة كأن نقول بأنه اباحي بالمرة او ان المرأة الغربية مومس تعطي نفسها للرائح والغادي الخ.. وهذه صورة خاطئة في مجملها ويعرف ذلك كل من أتيح له ان يعيش في الغرب لفترة كافية للتعرف عليه عن كثب. ولكن من جهة أخرى نقول: لا بأس في ان نتعرف على أنفسنا من خلال صورة الآخر. فقد يرى فينا الآخر أشياء لا نراها نحن في أنفسنا لأن شدة القرب تعمي النظر كما قال المستشرق الشهير مكسيم رودنسون. وبالتالي فالنظرة الى الذات من خلال مرآة الآخر ليست كلها خطأ. على العكس تماما. وهذا الكلام ينطبق علينا نحن العرب مثلما ينطبق على غيرنا. وبالتالي فأهلا بالاستشراق والاستغراب على حد سواء! ولتتقاطع النظرتان ولتتفاعلا فهذا يفيدنا ويغنينا. فمن لم يخرج من بيته الضيق المغلق لكي يتنفس الهواء الطلق في الخارج يظل محدودا جدا ولا يمكن ان يفهم ذاته ولا العالم.