مثقفون خليجيون يستعينون بأركون لإيقاد شمعة التنوير

ندوة على مدى يومين في الكويت تبحث مستقبل العرب

المفكر الجزائري محمد اركون متحدثاً في الكويت عن التنوير
TT

على مدى يومين، شهدت الكويت الأسبوع الماضي، ندوة مهمة بعنوان «التنوير... إرث المستقبل»، احتشد فيها مجموعة من المفكرين العرب والخليجيين، أبرزهم المفكر الجزائري محمد أركون، وأقيمت الندوة في الجمعية الثقافية النسائية – الخالدية. وناقشت الندوة في اليوم الأول محوراً بعنوان: «ما هو التنوير؟ لماذا التنوير؟ وكيف نحقق التنوير؟»، وكان مخصصاً للمفكر أركون، وأدار الندوة الدكتور محمد الرميحي رئيس تحرير صحيفة «أوان» الكويتية، وفي اليوم الثاني تم تناول محور آخر هو «تحديات التنوير في الخليج»، وتحدث فيه اثنان من المفكرين الخليجيين هما الدكتور أحمد البغدادي، وكانت ورقته بعنوان «كيف نستفيد من التنوير في الكويت؟»، والباحث السعودي الدكتور توفيق السيف، الذي قدم ورقة بعنوان «تجربة التنوير في الخليج (السعودية انموذجاً)»، وأدار الجلسة الدكتور سعد البازعي. وحظيت الجلسة بتعقيبات لافتة لمثقفين خليجيين، بينهم، الدكتور سعد البازعي (السعودية)، الدكتور حسن مدن (البحرين)، فاخر السلطان (الكويت)، أسيل العوضي (الكويت)، الدكتور خليفة الوقيان (الكويت)، ابتهال الخطيب (الكويت) والدكتور عبد الحميد الأنصاري (قطر).

في الندوة الأولى قدم الدكتور محمد الرميحي أركون بالإشارة إلى عشقه لأبي حيان التوحيدي، وهو أحد رواد حركة التنوير الفكري في العالم الإسلامي وتعرض لشظف العيش وتم حرق كتبه، محذراً ضيفه من دفع ثمن مشابه لما دفعه التوحيدي.

وأشار الرميحي إلى أن «التعدد المعرفي هو الذي أكسب أركون رؤية وموقفا خياريا، حيث اعتبره من مهام المثقف العربي المسلم، وقد يفاجأ البعض في أن أركون يعلق بوضوح، أنه لم يتأثر بفكر مفكر أو فيلسوف غربي بقدر ما تعامل مع ذلك المنبع الفكري الغربي بتفتح»، ناقلاً عن أركون الذي لم يتأثر بالأشخاص بقدر ما تأثر بالمناهج العقلية، تأثره بشخص واحد هو أبو حيان التوحيدي، وناقلاً عن أركون القول عن التوحيدي «اشعر نحوه بنوع من الضعف والأسى والمودة لم ينل منها مر السنين. ويمكن أن يحرقوني معه فلا اعترض».

الرميحي، وصف مشروع أركون الفكري بأنه مشروع (نقدي) قائلاً انه خطاب علمي بالمعنى الفلسفي يستخدم أداتين في عملية النقد هما: التفكيك والتأويل، واصفاً اركون بأنه يسعى إلى الكشف والفهم والتبسيط سبيلاً إلى التنوير أو ما سماه الاسلاميات التطبيقية في مقابل الاسلاميات الكلاسيكية.

وقال الرميحي ان «المسافة بين المعرفة والجهل كلما اتسعت زادت مساحة الخرافة، وعلى العكس كلما كان لمساحة المعرفة الاتساع، ضاقت فرص الخرافة»، معتبراً أن «المعرفة عدو المورثات والقراءة الناقصة».

محاضرة اركون

* محمد أركون بدأ حديثه بسرد تأريخي في المراحل الأساسية التي مرّ بها العقل الإنساني، معتبراً انه يجب أن نقدم الانوار (التنوير) بطريقة مقارنة بين المسيرة التاريخية التي أدت إلى نجاح التنوير وتطويره في أوروبا من دون انقطاع منذ القرن السادس عشر. وقال انه بين المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي التي سبقت أوروبا في الاستشعار بضرورة التنوير في استعمال العقل والاعتماد عليه لإنتاج معارف علمية أدت إلى تطوير الايمان الديني، ولاعطاء الآلات التفكيرية للعقل الديني الاسلامي، وهو ما سمح للعقل الإسلامي أن ينتج ما انتجه في القرون الستة الأولى من الهجرة.

ويضيف: هذه نقطة تاريخية اذكرها وألح عليها. فالعقل المسلم وصل في اجتهاداته وانتاجاته إلى أن يتبنى المواقف الإنسانية من «الأنسنة» التي يتصل بها الفكر الفلسفي منذ بدايته في اليونان مع الفلاسفة المعروفين.

ويضيف أركون، للأسف هذه المسيرة التاريخية للفكر الإسلامي توقفت وهذا التقدم في احترام العقل وتأييده تراجع حتى في علم الكلام مع التيار المعتزلي الذي أصبح ممنوعا بعد انتشار العقيدة القادرية التي أصدرها الخليفة القادر عام 1017 ميلادية. وهذا التدخل السياسي في حرية واستقلال العقل أساء إلى الفكر الإسلامي والى الفكر الناطق باللغة العربية. ومنذ نجاح تلك العقيدة القادرية اختفى الفكر المعتزلي إلى يومنا هذا».

ويشير اركون إلى ما أسماه كتاباً مهماً اثر في مستقبل العقل في تاريخ الفكر الإسلامي حتى يومنا هذا وهو كتاب ابي حامد الغزالي «فيصل التفرقة بين الاسلام والزندقة»، الذي ردّ عليه ابن رشد بكتاب آخر أكثر أهمية وهو «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، واجتهد فيه ابن رشد لإبراز مسؤولية العقل الديني والعقل الحر الذي يعتمد على الفلسفة فيما يقوله العقل وما يطرحه من مشاكل بكل حرية ومسؤولية.

وقال ان ابن رشد حاول أن يفهم المسلمين وأن يلفت الفكر الإسلامي إلى انه يجب الجمع بين العقل الديني كي يتفاعل دائما مع العقل الفلسفي. وقال، لذلك اخترت ان اعتني بالعقل الإسلامي بما صار ويصير الآن لهذا العقل، لأنه ملتزم بحل المشاكل الخاصة التي تطرحها العقائد الدينية، واذا لم نعتن بحل هذه المشاكل العويصة حلا ايجابيا سيصبح الدين متروكاً في مسؤولية هؤلاء الذين يوظفون الدين في المعارك السياسية.

وفي حديثه عن التكوين التاريخي للتنوير استعرض تأثيره في المسيرة التاريخية الأوروبية، ودور الكنيسة الكاثوليكية التي ظهرت ونشأت في فلسطين.

وقال أركون ان نجاح الديموقراطية المبنية على التنوير في الولايات المتحدة، في القرن الـ 18، جاء ليضيف إلى عملية التنوير بعداً أعمق وأقوى، وثمة شيء آخر حدث في عقل التنوير وقبلها وأيدها وهي المناظرة بين الفيلسوف هيجل والمفكر الفيلسوف كارل ماركس حول التشريع فهيجل كتب بعد الثورة الفرنسية كتاباً عام 1820م حول «نقد فلسفة التشريع» ينقد كيفية استنباط القوانين الشرعية في المجتمع، وحاول أن يشرح أنه بعد الثورة الفرنسية لم يزل العقل متقيداً بما تفرضه عليه النصوص الدينية في استنباط الأحكام الشرعية العلمانية، وهنا تظهر العلمانية نتيجة لهذه المسيرة التي وصفتها.

وقال ان هيجل قدم جميع النتائج الفكرية التي تستمد من الثورة التي فصلت بين الكنيسة والسياسة او الدولة، وكلها أتت من الموقف العلماني الذي يحترم الإنسان، وكما يؤمن به هذا الانسان، ولا يفرض على اي انسان ان ينتمي إلى هذا الدين او غيره، فهي تخص المواطن الحر.

كما تحدث عن المرحلة الثالثة في تاريخ التنوير التي تلت الحرب العالمية الثانية التي جاءت ككارثة تتعارض مع تاريخ التنوير، وهو ما دفع العقل إلى ان يراجع ديناميته ويجدد النظر في ما حدث وفي جميع ما غفل عنه ولم يعرفه.

وقال ان ذلك هو ما نحتاجه ايضا في عالمنا الإسلامي حيث عشت اكثر من 20 سنة استمع إلى الفكر الإسلامي في الجزائر، وهنا فكرت في طغيان الجهل المؤسَّس والمؤسِّس لما جرى في مجتمعاتنا، لان تكوين المعلمين في المدارس والجامعات لم يتم إلى يومنا هذا.

البغدادي: الكويت نموذجا

* في اليوم الثاني تحدث الباحث الكويتي الدكتور أحمد البغدادي عن التجربة الكويتية في التنوير، وبدا متشائماً وهو يشير إلى أن مجتمعه لم يبلغ بعد مرحلة التنوير وأنه شخصياً يتعرض للضغوط بسبب آرائه، ورأى أن الكويت هي أبعد ما تكون عن التنوير، مقترحاً الاشارة إلى انها في حالة «تنوّر وليس تنويراً»، مرجعاً السبب إلى ما أسماه هيمنة الفكرة التقليدية في بنية التفكير لدى الإنسان الكويتي، وكانت ورقة البغدادي بعنوان «التنوير الناقص: الكويت نموذجاً».

وفي ورقته طرح البغدادي مفهوماً للتنوير باعتباره «استقلال العقل الإنساني عن كل سلطة سواء كانت سياسية أو دينية»، مشدداً على صعوبة استقلال العقل الديني باعتبار أن الدين حالة لصيقة بعقل الإنسان العربي لخضوعه دون وعي واختيار لحالة من التداخل القسري للدين في كل تفاصيل حياة وسلوكياته.

وأعتبر البغدادي المجتمع الكويتي مجتمعا مسلما لا إسلاميا استنادا على عدم النص «بإسلاميته» في الدستور، واستعرض مظاهر التنور في المجتمع الكويتي في مراحل تكوّنه وتشكله من خلال الجانب (الاجتماعي) المتجلي باحترام الحرية الشخصية، وكذلك (التنوّر الثقافي) بتعدد الإصدارات الثقافية في الكويت وخارجها حتى بلغ عدد المجلات تسع عشرة مجلة، إضافة إلى وجود الكتب غير الدينية وتداولها بحرية، كذلك الكتب الأدبية والثقافية والعلمية التي قد تتصادم مع الفكر الديني.

توفيق السيف: السعودية نموذجا

* في ورقته عن «تجربة التنوير في الخليج (السعودية انموذجاً)»، عرض الباحث السعودي الدكتور توفيق السيف، عرضا لواقع الحراك التنويري في السعودية مطلقاً جواً من التفاؤل بمستقبل أفضل للتنوير والحرية الفكرية. وعرض التطور التاريخي للتنوير في السعودية. واستند على التناول التاريخي وتوضيح ملامح هذا الحراك التنويري ، مقترحاً وضع تعريف لـ «حركة التنوير» التي حددها على وجهين: أولهما «الأعمال الفكرية الناقدة للوضع السائد والداعية إلى التجديد»، وثانيهما «النشاطات الفردية والاجتماعية التي تنطوي أو تؤدي إلى تسويد قيم الحداثة والتجديد»، واضعاً تعريفاً ثالثاً هو «اعتبار التنوير حالة ثقافية - اجتماعية محورها الارتقاء بقيمة العقل والعلم واعتبارهما مصدرا أول للسلطة والمعرفة وقواعد العمل في المجال العام».

وأعتبر السيف في حديثه عن الخلفية التاريخية لمسيرة التنوير في السعودية، أن بدايتها يمكن ان تشير إلى أواخر القرن التاسع عشر مع انفتاح المجتمع على النظم الحديثة في التعليم والصحافة، قاصرا إياها على منطقة الحجاز باعتبارها مركزا سياسيا واقتصاديا قائما بذاته، مرورا بافتتاح المدارس على النمط الحديث في مكة وإنشاء أول مطبعة وأول صحيفة. موضحاً الحراك التنويري في المجتمع السعودي لم يكن غائباًَ، إلا أن فاعليته هي التي تحددت بسبب التقلبات السياسية، وحدد أسباب بطء الحركة بعدم التراكم الناتج عن تطاول المرحلة الانتقالية من عصر التقاليد إلى الحداثة، إضافة إلى التعامل المزدوج مع فكرة التحديث من جانب الدولة. ولاحظ السيف أن النقلة النوعية في أداء التيار التنويري في السعودية كان في التعامل معه منذ عام 2003، مرورا بالنتاج الثقافي المتطور، متمثلا بإصدار صحيفة الوطن وطرحها الصريح.

وعرض السيف لإشكالات التنوير في السعودية، معتبراً انها ذاتها اشكالات التنوير في العالم العربي، لكنها اكثر تركيزا وحدة هناك، (بسبب النظام الاجتماعي والسياسي الخاص) وقال ان الاعتراضات على فكرة التنوير تنطوي تحت اربعة عناوين رئيسية هي اشكال ذو خلفية دينية، فباعتبار العقل مصدرا وحيدا للسلطة والمعرفة، واشكالا ذا خلفية معرفية، لأنه يجري تعريف العقل والعقلانية في الثقافة الغربية على نحو مختلف عن تعريفه السائد في الثقافة الشرقية ومنها العربية. وإشكال ذو خلفية اجتماعية، لأن التنوير يعني الاقلاع من عصر التقاليد الى عصر الحداثة، وهو امر مكلف للافراد والنظام الاجتماعي معا. وإشكال ذو خلفية سياسية، ترتبط فكرة التنوير بالمجال المعرفي الاوروبي، وتؤدي بالضرورة الى انفتاح على المعرفة الاوروبية، وهذا يثير مخاوف مما يسمى بالانكشاف او العودة طوعا الى احضان القوة العالمية الغالبة.

وتحدث السيف عن مهمات تيار التنوير في السعودية، مقترحاً أولاً تحديد الاشكالات، وطرح مشاريع بديلة، ملاحظاً أن حركة التنوير تبدأ كنقد للواقع السائد، لكنها لا تستطيع الاستمرار اذا لم تقدم بدائل قابلة للتطبيق ضمن معطيات وحدود الواقع. ومن هذه المهمات تشجيع الجدل الضروري لدعم التراكم المعرفي وتفصيح الاسئلة وتجاوز القضايا المنتهية وتوسيع مفهوم التنوير. وكذلك تخليص حركة التنوير من العناصر السياسية. والتركيز على التطور الاجتماعي الداخلي للتنوير.