سيمفونية الفقر والرعب

عبد الله صخي يرسم بداية المأساة في «خلف السدة»

TT

منذ سقوط النظام البعثي في بغداد عام 2003، ظهرت مئات الكتب التي تتناول العراق والمآسي التي عانى منها خلال العقود الستة الماضية. كان من بين الأفكار التي تناولتها تلك الكتب: أن العراق كان أشبه ما يكون بجنة أرضية في العهد الملكي، وأن سقوط الملكية إثر انقلاب عسكري عام 1958 أدى إلى سقوط الدولة في دوامة العنف والعنف المضاد.

تتناول رواية عبد الله صخي التي تتألف من 160 صفحة أبعادًا مختلفة، فعبر رواية قصة عدد من العراقيين البسطاء الذين تركوا قراهم الأصلية في الجنوب العراقي بحثا عن حياة أفضل في بغداد، يبدأ صخي بما يمكن أن نسميه مقدمة للمأساة العراقية.

جاءت الفيضانات التي شهدها جنوب ووسط العراق في عام 1959 والتي دمرت الكثير من القرى وشردت عشرات الآلاف من الأسر لتكون المؤشر الرئيس على تحول المواطنين من الريف إلى الحضر.

وعندما وصل الآلاف من هؤلاء الفلاحين المحطمين إلى بغداد لم تكن قطعة الأرض التي استقروا عليها تحمل اسمًا، إذ لم تكن أرضًا تخص أحدًا من الناس وكانت أشبه ما تكون بأرض للنفايات. وبصورة تدريجية، بدأ حجمها في الازدياد لتصل إلى قلب المدينة. وبمرور الوقت اتخذت المدينة اسم «خلف السدة». أخذ الحي، الذي تشكل بين السدين اللذين بنيا لحماية بغداد من الفيضانات السنوية في المكانين الخاليين، في التوسع ليشكل صليبًا ضخمًا، وأصبح مقسما إلى مناطق تحمل أسماء قبائل عربية أو اتحادات تندب مقتل الحسين بن علي ثالث أئمة الشيعة. وتقدم واقعة كربلاء التي أدت إلى مقتل الحسين لمحة حول مأساة التنكر للحياة في تلك المنطقة العشوائية. قبل أن ينطلق صخي إلى عالم الرواية، كتب القصة القصيرة التي يمكن أن نطلق عليها أسلوب الطلقة المحكمة التي تتميز بالجمل القصيرة والتي يغلب عليها الطابع شديد الإيجاز، لكي تحدث وقعًا أكبر. والتأثير غالبًا اما يكون صادمًا، إذ يتجنب صخي اتجاه العديد من الكتاب العرب إلى التفخيم. فهو يشبه في أسلوبه إرنست همنغواي، مع الاختلاف في أنه يخالف موضوعات همنغواي الذي كتب عن الأثرياء الأميركيين الذين أصابهم الملل من باريس. وينزل صخي إلى تصوير الفقراء العراقيين المقهورين الذين يحاولون استخلاص الحياة من بين براثن الموت في بغداد. وفي إحدى النقاط، يواجه أحد سكان هذا الحي الفقير ذلك الحد البسيط بين الموت والحياة بعبارة بسيطة مقتضبة تقول: هنا بيتي وهنا مقبرتي.

يصور صخي مشهد الأسى في المدينة بالتراب والحرارة والبعوض والجاموس وبرك المياه والحمير والملاريا والفيضانات وبالطبع الجوع الذي يقدم أفكارا لسيمفونية الفقر والرعب. كما تقدم أشجار النخيل والأوكاليبتوس والتمر هندي بعض الظل والوعد بالعزاء المنكر دائما. شعر كاتب هذه المقالة النقدية، لدى قراءة الكتاب، بألم جسدي، كما لو كان صخي يحاول نقل معاناة أولئك العراقيين إلى قرائه على بعد آلاف الأميال.

تتميز كتابات صخي بأنها في غاية الدقة، حيث إنها ليست من النوع الوجداني، فتشريح كتاباته للمجتمع جعلها تنقل الرعب الذي حاول إيصاله إلينا. ويعد صخي راويا قصصيا فطريا في المفهوم التقليدي لقصص ألف ليلة وليلة، فكل قصة تنسج من خلال قصة أخرى وتقدم الفكرة لقصة ثالثة. وإذا ما شرعت في قراءة رواية «خلف السدة» كنت كمن يركب عربة ممتعة لا ترغب في النزول منها حتى تتوقف، وعندما تتوقف تتمنى أن تصعد على متنها مرة أخرى.

فهل من الممكن أن يترجم أحد ما هذه الجوهرة الثمينة إلى الانجليزية أو الفرنسية أو أي لغة غربية أخرى ليبرز للغرب أن الأدب العربي الحديث حي تماما وأنه ـ على الأقل ـ متطور أيضًا؟