اسطنبول عاصمة أوروبا الثقافية عام 2010

أحد أهم مساعدي رجب طيب أردوغان يشرف على التنسيق

TT

الاستعدادات على قدم وساق، إنه تحدٍ كبيرٍ جداً لمدينة إسلامية وأوروبية في وقت واحد، لذلك تحولت اسطنبول إلى خلية نحل، تريد أن تثبت بعد أن استبعدت من عضوية الاتحاد الأوروبي، أنها عاصمة أوروبية بامتياز للثقافة والتنوع والتسامح. المشاريع التحضيرية تطال البنى التحتية كما المعالم الأثرية والمنشآت الحديثة. الحملة الدعائية بدأت من الآن، والعجلة انطلقت، ولا شيء يوقفها غير النجاح الكبير الذي يجب أن تسجله طوال عام كامل، تصبح فيه قبلة للزوار. كيف يستعد الأتراك لهذا الاستحقاق المهم، هنا تحقيق حول الموضوع.

اسطنبول مدينة الألف مئذنة، الجالسة على ضفاف البوسفور، قريباً من التخوم الأوروبية، عاصمة الإمبراطوريات الثلاث، الرومانية والبيزنطية والعثمانية. مدينة صناعة الأحلام وتصدير المحبة، تغازل بجمالها كبار الشعراء والكتاب في العالم. مدينة الفتوحات والتداخل والتعايش والشواهد المعمارية والفنية والتاريخية، تقول إن أجيالا كثيرة «مرّت من هنا» مخلفة الجوامع والقصور والكنوز التاريخية. مدينة تتمسك بتراثها لكنها تتطلع دائما إلى المستقبل، خصوصا عندما أعطت قرارها الالتحاق بالركب الأوروبي عام 1959. هذا الاتحاد الذي قرر رد الجميل من خلال منحها لقب العاصمة الثقافية لأوروبا للعام 2010، لتتحول هذه الأيام إلى ورشة عمل وخلية نحل لا تهدأ، فهي تريد أن تثبت للجميع أنها تستحق هذا اللقب عن جدارة وكفاءة.

مشروع العاصمة الثقافية الأوروبية انطلق عام 1985 من قبل الاتحاد الأوروبي، بهدف إبراز المعالم الثقافية والسياحية والخصائص الجامعة للشعوب الأوروبية. وكانت العاصمة اليونانية أثينا هي السباقة في انتزاع الأولوية، ثم كرست السبحة مع فلورنسا الإيطالية، وأمستردام الهولندية، وبرلين الألمانية، وباريس الفرنسية.

في منتصف ديسمبر (كانون الأول) من عام 2005، تقدم الأتراك بطلبهم لدى المجموعة الأوروبية، وكان لهم ما أرادوا بعد منافسة شديدة مع الكثير من المدن الأوروبية. ويبدو هنا أن أصحاب الفكرة من المسؤولين الرسميين والعاملين في القطاع الخاص، لعبوا ورقة عناصر الحياة الأربعة المعروفة المياه والتراب والنار والهواء، لتكون الرمز والغاية ووصلوا إلى مبتغاهم في إطلاق المشروع تحت شعار «المنصة أمامك اسطنبول قولي ما عندك».

انتزاع اسطنبول لهذا العنوان، أفرح عشرات الشخصيات السياسية والأكاديمية والثقافية والإعلامية التي بذلت جهدا متواصلا لإثبات كفاءتها وقدرتها على تحمل هذه المسؤولية باحتراف. وهي جعلت من عام 2009 نقطة الفصل والحسم لإكمال عشرات المشاريع خصوصا في قلب المدينة القديمة لتلميع صورتها وتغذية نفسها ثقافيا وفنيا ومعماريا، وترميم الكثير من أبنيتها بتمويل تركي - أوروبي مشترك.

اسطنبول التي صارعت كثيرا للحصول على هذه الفرصة وهذا اللقب، أثبتت باختيارها بين العشرات من المدن والعواصم المنافسة، أنها ستكون رمزا جامعا للمكانة الثقافية والالتزام السياسي بالمشروع الأوروبي وأنها تستحق كل الدعم السياحي والمالي.

لماذا اسطنبول؟ لأنها المدينة التي عبرتها الكثير من الحضارات والشعوب، ولأنها مدينة لا تقل تنوعا وتداخلا عرقيا ودينيا ولغويا عن بيروت مثلا، مدينة تجمع البحار والجبال، البرودة والدفء في وقت واحد. الحصول على هذه الفرصة، كما يرى الكثير من الخبراء والأكاديميين، يعني إعادة الحياة إلى المدينة عبر تجديد وترميم أبنيتها التاريخية القديمة أولا، ثم إنشاء عشرات المشاريع والأبنية الثقافية والفنية الحديثة التي تقربها أكثر فأكثر من غايتها في أن تكون جسرا ونقطة تواصل وانفتاح بين الشرق والغرب. أوروبا ترى في اسطنبول ملتقى وجوه الشبه والفوارق في آن واحد.

تركيا لن تفرط في مثل هذه الفرصة التي سعت كثيرا للحصول عليها قبل 3 سنوات، وهي من أجل ذلك أعلنت حالة الطوارئ في المدينة، بهدف تحديث الأبنية والمساجد والمتاحف والجامعات التاريخية، ثم إنشاء عشرات الأبنية الحديثة التي ستكون مسارح ومكتبات ومراكز ثقافية، هذا إلى جانب مئات العقود الموقعة مع كبار الفنانين والمثقفين والأدباء الأتراك والعالميين لتقديم عشرات العروض الفنية والغنائية والأدبية المتنقلة في أكثر من مكان في المدينة، وطيلة عام كامل يحمل إليها المزيد من المكانة والاعتبار.

لا، بل إن اسطنبول التي ترمم أبنيتها، أعادت تحديث طرقها والكثير من فنادقها وأماكنها السياحية، تمهيدا لاستقبال مئات الآلاف من السياح الذين سيتركون ملايين الدولارت في خدمة الاقتصاد التركي. حكومة «العدالة والتنمية» التي كلفت أحد أهم أعوان رجب طيب أردوغان، وهو حياتي يازجي أوغلو، بالإشراف على أعمال التنسيق، أصدرت قانونا خاصا حول الموضوع ضمنته الكثير من المواد حول أهداف المشروع وغايته وسبل إنجازه وضرورة تقديم كافة الدعم على المستوى الرسمي والخاص لإنجازه بما يليق بتركيا وسمعتها في الداخل والخارج.

المشرف المباشر على المشروع نوري شولاق أوغلو، يقول إن عام 2009 سيكون عام الحسم، حيث سيتعرف الجميع إلى اسطنبول بحلتها الجديدة التي ستجمع التقليد والحداثة جنبا إلى جنب. 15 مليون نسمة سينعمون بالمزيد من الراحة واختصار الوقت في تنقلاتهم، وسيستفيدون من عشرات المشاريع والإنجازات الثقافية والترفيهية إلى جانب ما تحظى به هذه المدينة من فوارق كثيرة على غيرها في التبضع والاستراحة والاستجمام. رئيس بلدية اسطنبول، قادر طوب باش، يقول: الاستعدادات تتواصل لاستقبال 10 ملايين سائح في العام المقبل مع انطلاق الحدث. مبنى للمؤتمرات في منطقة «حربية» القريبة من «تقسيم»، وترميم شامل لأبنية «بي أوغلو» السياحية قلب المدينة النابض، والنفق الجامع بين جانبي اسطنبول تحت مياه البوسفور في مرحلته النهائية، ومشروع «المتروبوس» يسير نحو النهاية، ليقرّب أبعد الأماكن في اسطنبول. اقتراح الفنان سزر دورو مثلا الذي جمع 16 كاتبا ومفكرا أوروبيا حول فكرة كتابة مقالات مستقلة تعرف بالمدينة وتاريخها، وتنقل صورة للقارئ الأوروبي عن وضعها الحالي - كما يرونها هم - تجمع لاحقا في كتاب واحد ينشر بأكثر من لغة، هو في طريقه إلى الولادة. أما جهود وزارة الثقافة التركية التي تقود أكثر من عملية تفاوض ومساومة مع كبار الفنانين والموسيقيين العالميين لتنظيم عروض لهم في اسطنبول خلال هذه المناسبة، فهي أدت حتى الآن إلى نتائج تعد بالكثير من المفاجآت.

معرضان تركيان نظما حتى الآن على شكل مجسمات ورسوم صغيرة، تعرّف باسطنبول وبمعالمها وآثارها في قلب العاصمة الأوروبية بروكسل. وهي ستكون معارض نقالة، تحط في أكثر من عاصمة ومدينة، للترويج للحملة التركية ولفت الأنظار وجلب السياح.

لا تخلو كل هذه المسائل طبعا من انتقادات توجه إلى القائمين على المشروع من قبل إعلاميين ومثقفين علمانيين بالدرجة الأولى، يعترضون على السطحية والتباطؤ وانعدام الخبرة في التعامل مع الكثير من المسائل. هناك من انتقد الفيلم الدعائي القصير المعدّ للتعريف بالحدث والترويج له، حين وقع الاختيار على فتى يهودي يضع قلنسوته فوق رأسه. وهي من المشاهد التي نادرا ما نراها في اسطنبول، بينما غاب عن الفيلم مشاهد أخرى، هي نقل صورة المجتمع التركي على حقيقتها، متسائلين: أين الفتيات المحجبات والكهول أصحاب الذقون الطويلة والباعة المتجولين في الأزقة وحركة السير والازدحام الدائم.

المنتقدون توقفوا أيضا عند إهمال الجانب الشرقي من المدينة، أي القسم الآسيوي حيث جرى التركيز على القسم الأوروبي بالدرجة الأساسية، كما استبعدت أحزمة الفقر المحيطة بالمدينة والتي تجمع مئات الألوف من النازحين إلى اسطنبول، حيث لم يحظوا بالكثير من قطعة الجبن هذه لتكتمل العدالة والتوازن بين الأحياء والشوارع والطرقات. اسطنبول عليها أن تعدّ نفسها ليس للعام 2010 كما يراد، بل للعام 2050 مثلا.

المطلوب استراتيجية أكثر شمولاً وانتشارا وتماسكا، كما يقولون. فيما تواصل اسطنبول استعداداتها لارتداء حلتها الجديدة، يحضرنا السؤال في ما إذا كنا نبالغ لو طالبنا بمشروع تعاون عربي - إسلامي مماثل يعيد الجمال إلى مدننا وعواصمنا ويحمل إليها روح المنافسة والتحدي على المستويات الثقافية والسياحية، ويسهل لنا اكتشاف الكثير من الدفائن والخبايا في قلب الجانب الآسيوي من تركيا على حدودها مع العراق وسوريا وإيران، حيث أسدل الستار على الكثير من المعالم والأماكن التاريخية والدينية والحضارية.