مركز ثقافي عصري في قلب طرابلس

حين يغامر سياسي لبناني بتمويل مشروع بلا شعبية

TT

واحد من الأخبار السعيدة القليلة التي عاشتها طرابلس في الفترة الأخيرة، هو ولادة مركز ثقافي عصري فيها، يستطيع أن يخرجها من أجواء التشنج والموت التي غطت صفحات الصحف والمجلات طوال شهور الصيف الماضي. وواقع الأمر أن هذا المركز كان جاهزا ومتأهبا لافتتاح كبير مع مطلع الصيف الفائت، إلا أن الظروف الأمنية القاسية التي ابتليت بها المدينة؛ أجلت الرسميات الشكلية، في ما كان المركز ينشط عمليا، ويستقبل زواره بمكتبته ومسرحه وأقسامه المختلفة، بقدر ما تسمح به ظروف وأعصاب المواطنين. وما إن استتب الأمن بعض الشيء، وبدأ السكان يتنفسون الصعداء في منتصف سبتمبر (أيلول) الفائت، حتى بدا الأمر وكأنما اللحظة المنتظرة قد حانت، وعلى المركز أن يعلن عن وجوده بصوت عال.

مع الافتتاح، كان الاحتفال بالأسبوع الياباني. صور فوتوغرافية عرضت تظهر جوانب الحياة العصرية والتقليدية في بلد عرف كيف يزاوج بين الجديد والقديم بتسامح لفت الكثيرين، واعتبر نموذجا يحتذى. كما صدحت الموسيقى اليابانية بفضل عزف حي، واستطاع الأطفال أن يكتبوا أسماءهم ويخطّوا كلماتهم بلغة هي في نظرهم أقرب إلى الرسم والتصوير منها إلى أبجديات ألفوها. ومنذ الافتتاح، لا بل ومن قبله، والمركز يسعى لأن يوسع دائرة شراكاته ما استطاع. فمن الأساس صمم هذا المركز ليضم في جنباته مكاتب لأربعة مراكز ثقافية أجنبية، هي «الملتقى الألماني-العربي، والمركز الثقافي الروسي، ومعهد ثرفانتس الإسباني، والمجلس الثقافي البريطاني». ويستمر المركز في حبك خيوط اتصالاته مع مؤسسات لبنانية وأجنبية وجامعات ومعاهد، كما تتواصل نشاطاته، التي تنوعت بين الحفلات الموسيقية والندوات وورش العمل والمحاضرات والمعارض والمسرحيات والقراءات القصصية والشعرية. كما استضاف المركز أدباء عرب وغربيين، قدم أدبهم قراءة ومناقشة ومقارنة. وكان من بين الأديبات المستضافات جيني أربينبك، صاحبة «حكاية الطفلة العجوز»، هذا الكتاب الذي ترجم مؤخرا من الألمانية إلى العربية عن «دار قدمس» بدمشق، وجالت كاتبته بين دمشق وطرابلس وبيروت لتوقع مؤلفها.

على مساحة 84000 متر مربع شيّد هذا المركز الزجاجي بهندسته المعمارية العصرية، وارتفعت طبقاته الأربع؛ لتجعل منه معلما فنيا عصريا من حيث الشكل، ونافذة مشرعة على الأمل من حيث مضمونه وتطلعاته المستقبلية التي تشي بها تجهيزاته وتقسيماته المدروسة بعناية. منذ عام 2007 و،هذا المركز قائم وشبه مكتمل، يستقبل فرقة فنية من هنا، وورشة عمل من هناك، بانتظار أن يتم افتتاحه رسميا وينطلق، لكن العثرات والموانع تتالت، وأخّرت هذا الحدث.

المركز الذي يحمل اسم «مركز الصفدي الثقافي» يضم في طابقه الأرضي مسرحا مخمليا جميلا يستقبل هذه الأيام عازفين ومغنين وفرقا شرقية وغربية. وفي المركز مكتبة زجاجية تطل على معرض رشيد كرامي الدولي. وهي مكتبة ما تزال في بداياتها، لكنها تعد بتطوير طموح وسريع؛ لتتزود بأهم المراجع في مختلف ميادين المعرفة، عدا اشتراكاتها في صحف ومجلات بلغات عربية وأجنبية، ومكتبة صغيرة أخرى للأسطوانات والأفلام. وفي الطابق نفسه مكتبة للأطفال، وغرف مجهزة بأحدث الأساليب الرقمية لاستقبال الطلاب والمحاضرين، بالإضافة إلى مكتبة صغيرة لبيع الكتب.

طرابلس، العاصمة الثانية للبنان، تفتقر إلى المراكز الثقافية والمكتبات العامة، وباستثناء «الرابطة الثقافية» التي نشطت كمؤسسة أهلية طوال السنوات الماضية، بما فيها سنوات الحرب، حتى هرمت وشاخت، فإن الساحة خلاء. لذلك، فإن الاحتفاء بمركز الصفدي الثقافي له ما يبرره، وخاصة أن مموله هو وزير الاقتصاد والتجارة الحالي محمد الصفدي. وهي نقطة إيجابية للممول تحسب له، لكنها قد تنعكس سلبا على المركز نفسه، إذ يحسب للوزير، الذي يبدو أنه مرشح للانتخابات القادمة، أن يستثمر مبلغا سخيا جدا في مشروع خسارته المادية مضمونة، ومردوده الانتخابي ليس مغريا. فالثقافة جمهورها صغير، وفي بلد كل ما فيه يُسيّس، قد يدير البعض ظهره للمركز، لمجرد أنه محسوب على فلان، أو قد يشعر آخرون بالانتماء إليه لأنه تحديدا محسوب على فلان. ولعل الحنكة تقتضي من ذوي الوعي في المدينة، أن يعنوا بالمركز، ويسعوا لضخه بالحياة، بدون حساسيات أو روح كيدية، لأن الفنون ـ بحد ذاتها ـ هي مادة للتعبير والاعتراض، وربما التمرد أيضا. فليس أرقى من احتجاجات النغم، ولا أكثر إيلاما من لسعات الأبجدية.