مشهد سعودي لافت: «حداثة» وامتحانات عسيرة!

محاضرتان لعبد الرحمن الحبيب وسعيد السريحي

TT

على مدى أيام قليلة شهدت الساحة الثقافية السعودية ثلاثة أحداث بارزة، الأول والثاني كانا محاضرتين لافتتين لمثقفين بارزين هما الدكتور عبد الرحمن الحبيب و«الدكتور» سعيد السريحي، تحدث الأول في حائل شمالي السعودية عن (تاريخ الحداثة)، بينما تحدث الثاني في الأحساء شرقي البلاد عن (الحداثة باعتبارها نقضاً للتنوير)، وجاء الحدث الثالث مفاجئاً، فقد أقدم «مجهولون» على تسعير النار في خيمة نادي الجوف الأدبي كانت أُعدت لاستضافة أمسية شعرية تشارك فيها امرأة، بالرغم من أن المنظمين، إضافة إلى الشاعرة نفسها، أعلنوا أن المشاركة النسوية ستكون من خلال قاعة منفصلة وبواسطة الدائرة التلفزيونية المغلقة. وسبق الحريق الذي قررت الجهات الأمنية أنه مفتعل حملة تحريض عبر رسائل بواسطة الهاتف المحمول حذرت من هذه الأمسية التي وصفتها بالمختلطة.

كان النادي قد شهد حريقاً كبيراً أصاب المبنى وصالة الفعاليات التي أعدها النادي لأمسية شعرية كان من المفترض أن يشارك فيها الشعراء محمد خضر، وعبد العزيز الشريف، وحليمة مظفر، بخسائر فادحة، عقب مغادرة أعضاء النادي الذين ظلوا إلى ساعة متأخرة في النادي للانتهاء من التحضير للأمسية. ورجح إبراهيم الحميد، رئيس النادي الأدبي بالجوف، فرضية العمل التخريبي، مشيراً إلى أن هناك مقدمات للحادثة تشير إلى أنها تمت بفعل فاعل وأنها مفتعلة، وقال الحميد «وردتنا بعض الاتصالات المنددة بإقامة أمسية شعرية تشارك فيها امرأة من بعض الجهات المحسوبة على التيار المتطرف، ولكننا لا نتهم أحداً، رغم أن هناك شبهة جنائية لأن الباب الخارجي الذي يؤدي إلى مكان النشاط كان مكسوراً، والمسألة الآن في يد السلطات الأمنية».

وليس بعيداً عن الجوف، مثلت أمسية الدكتور الحبيب في حائل «اختراقاً»، فطالما شهدت المنتديات الثقافية هناك سجالات بين التيارات المختلفة التي بدأت تعبر عن نفسها بصوت أكثر ارتفاعاً.

* الحبيب: تناول نظري

* تحدث د. عبد الرحمن الحبيب عن الحداثة كما لو أنها مفهوم نظري لا علاقة للمستمعين به، فهو آثر الابتعاد عن القضايا الحرجة والتحول نحو مادة أكاديمية تبحث عن تاريخ ومسيرة الحداثة في أوروبا، إلا أن الجمهور والمداخلات التي تلت الندوة أعادته للدائرة الأقرب للجمهور.

في ورقته بعنوان (لمحات موجزة من تاريخ الحداثة)، قال الدكتور عبد الرحمن الحبيب إنه: غالباً ما يشير مصطلح الحداثة (Modernity) إلى الحركات الثقافية والفكرية الجديدة التي ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين. وهو يشير إلى حركات فكرية متنوعة ومختلفة، كما أن التنوع والاختلاف ينطبق أيضاً في تقسيم مراحل الحداثة تاريخياً. حيث تُقسَّم - في بعض التواريخ - إلى عصر النهضة كممهد للحداثة (القرن الرابع عشر إلى السادس عشر)، ثم عصر التنوير كبداية أوَّلية للحداثة (القرن السابع عشر والثامن عشر)، ثم عصر الثورة الصناعية والعلمية (ويطلق عليه أيضا مرحلة الرومانسية)، في القرن التاسع عشر الذي يراه البعض البداية الفعلية للحداثة، وأن ما قبله كان ممهداً للحداثة أو بدايات الحداثة.. ثم القرن العشرين باعتباره يمثل المرحلة الثانية من الحداثة على أساس أن عصر التصنيع كان المرحلة الأولى (منتصف القرن التاسع عشر)..

وأضاف: «ويرى البعض أنه إذا كانت هذه فعلاً مراحل الحداثة، فإنها انتهت في أواخر القرن العشرين ليحل محلها ما بعد الحداثة، فيما يرى البعض الآخر أن الحداثة لا تزال مستمرة إلى وقتنا الحاضر، وهي تضم حركات ما بعد الحداثة داخلها»

وقال الحبيب: «عموماً، تشير الحداثة - في أغلب الأدبيات - إلى المجتمع الحديث أو المجتمع الصناعي. هذا المجتمع له موقف محدد ورأي في العالم المحيط يتصف بالدينامية وبالانفتاح على التغيرات التي يحدثها الإنسان مع انفصاله عن العادات والتقاليد الموروثة. ويتميز اقتصاده بتعقيد مؤسساته، خاصة الإنتاج الصناعي والسوق التجاري، كما يتميز سياسياً بالدولة القومية ودولة المؤسسات والقانون والديمقراطية.

ثم تحدث الحبيب عن ممهدات عصر النهضة في القرن 13 إلى منتصف القرن 14، معتبراً أن الفلسفة السكولائية في أوروبا بالقرون الوسطى كانت لاهوتية مسيحية، لكن في القرنين 12 و13 حدثت نهضة تميزت بالاستقبال الجديد لفكر أرسطو، وساعد في ذلك ما وفرته الثقافة الإسلامية في نقل الفلسفة والعلوم اليونانية مع شروحات أكثر وضوحاً.

كما تحدث عن المرحلة التي اعتبرها من ممهدات الحداثة والتي تمثلت في عصر النهضة والتي بدأت من القرن 14 إلى بدايات الـ 17 وهو العصر الذي يطلق عليه عصر الاكتشافات وعصر الاختراعات، وهو أيضاً عصر التجريبية والوعي الفلسفي الجديد والتحول الثقافي.

وما حاول الحبيب تحاشيه في محاضرته تلك، جاءت المداخلات لتثيره وهو صورة الحداثة في المشهد السعودي وعلاقة المثقفين بالاتجاه الحداثي.

من بين المتحدثين في ندوة حائل، كان عمر الفوزان عضو مجلس إدارة النادي الذي تمنى أن «يتم تحويل الحداثة إلى مكون أصيل في ثقافتنا لا يتعارض مع ثوابتنا»، مطالباً بأسلمة الحداثة، ليرد الدكتور الحبيب أنه لا يتفق مع الفوزان في دمج الحداثة مع الإسلام لأن «الحداثة منهج والإسلام دين».

بينما أشار سعود الجراد عضو مجلس إدارة النادي إلى أن غموض مصطلح الحداثة جاء في صالح الحداثة ذاتها ليكون لكل فرد حداثته. وفي مداخلة أخرى تساءل متحدث عن علاقة كتاب «مقدمة ابن خلدون» بالحداثة. وعلق الحبيب بأن كتاب «مقدمة ابن خلدون» هو ممهدات الحداثة لكنها عرفت لاحقاً بعد أن تجاوزتها المدارس الحداثية.

مدخل آخر استشهد بنصوص أدبية لشعراء حداثيين ليصل إلى استنتاج «إن الحداثة هي ثورة على الله والدين»، مذكراً بما طرحه «فولتير» وكذلك كتاب «الثابت والمتحول» لأدونيس، ونصوص لنزار قباني، وعبد الوهاب البياتي، وأمل دنقل، وفوزية أبو خالد. وقال إن نصوص الحداثيين إما جنسية أو خروج على الدين، فردّ عليه الحبيب بأن هناك من الحداثيين من لا يرى القطيعة مع التراث وهناك من لا يدخل الإيمان في الحداثة.

* السريحي: الحداثة والتنوير

* أما سعيد السريحي فقد تحدث في ندوته بالأحساء عن الحداثة باعتبارها نقضاً للتنوير، معتبراً أن التنوير كان ثورة على عصور الظلام وسلطة الكنيسة، بينما الحداثة في جوهرها ثورة على التنوير نفسه، لافتاً إلى أن التنوير كان انتصاراً للعقل في مواجهة ما يشبه الخرافة التي كرست الكنيسة سلطة مطلقة ووسمت أوروبا بالظلام الذي هيمن عليها في العصور الوسطى، بينما كانت الحداثة ثورة على العقل بما فرضه من قيود وأنماط تولت إلى جملة من الأيديولوجيات التي حدت من حرية الإنسان باعتباره نشاطاً يتجاوز حدود ما يقره العقل وما يدخل في نطاق معاييره.

ولاحظ السريحي أن الحداثة حررت الإنسان ونشاطه، وأعادت له كينونته في مواجهة كل ما هو متعالٍ ضد هذه الكينونة»، ولذلك اعتدت الحداثة بالأسطورة والخرافة والوهم والكذب والزيف باعتبارها جميعها تعبيراً عن نشاط إنساني علينا أن نفهم معانيه ومقاصده بصرف النظر عن تقبلنا أو رفضنا له. وعلى نقيضها يجد التنويريون ضالتهم في كلمة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود» بكل ما يمكن أن تفضي إليه من اعتداد بالتفكير وتأسيس للوجود الإنساني عليه وارتهان هذا الوجود.