حينما تنخفض أسعار البترول يرتفع مستوى الحرية

توماس فريدمان يكتب عن عالم ساخن ومسطّح ومزدحم

TT

إن منظورا أميركيا مركزيا، كالذي يطرحه فريدمان، كان ممكنا أن يكون له ثمة معنى قبل عشرين عاما. لكن في عالم اليوم، حيث الولايات المتحدة الأميركية باتت «قوة مترنحة»، فإن ردود الفعل العالمية إزاء التغييرات المناخية ومشاكل الطاقة لا تشكلها أميركا، بل الأمم الناهضة وفي مقدمتها الصين.

يتميز الكاتب والصحافي الأميركي توماس فريدمان من بين أقرانه، بأنه أفضل من يستطيع أن يستشعر ويتحسس المزاج الأميركي ويتنبأ به. وفريدمان هو كاتب عمود معروف في صحيفة «نيويورك تايمز»، وصدرت له عدة كتب مهمة، حقق من خلالها شهرة واسعة إلى جانب شهرته كصحافي يعني بشكل خاص بشؤون الشرق الأوسط والسياسات الأميركية الجديدة منذ عهد الرئيس بوش الأب وحتى الآن.

إن إحدى أهم رسائل كتابه «ساخن، مسطّح ومزدحم: لماذا يحتاج العالم إلى ثورة خضراء، وكيف نستطيع أن نجدد مستقبل كوكبنا»، هي أن الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى تقليص اعتمادها على النفط المستورد، وأن «استقلال الطاقة» الأميركي سيجعل الولايات المتحدة الأميركية تنفصل عن السوق العالمية. هذا يعني أن رسولة العولمة، أميركا، ستدير ظهرها للعالم غير الأميركي الذي ينتج، في الواقع، هذه العولمة. كتاب فريدمان الأخير هذا، يصوغ، في الحقيقة، الأفكار التي تطوف في أذهان الأميركيين منذ أن أصبح مقياس الكارثة في العراق أمرا لا يمكن تجاهله أو إنكاره. المؤيدون للحرب اعتقدوا أنه حالما تتم السيطرة على نفط العراق وخصخصته، فإن أسعاره ستنخفض، فيما كان مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق بول ولفوويتس يحاجج بأن عملية اجتياح العراق ستمول ذاتيا، وستعود على الاقتصاد بالتطور والازدهار. لكن إخضاع استثمار النفط العراقي «برهن على صعوبات جمة، وإنتاجه أصبح أقل مما كان أثناء الحكم السابق، وارتفع سعره بشكل جنوني جراء ذلك».

من هنا، يمكن ملاحظة أنه حتى المحافظين الجدد، الذين كانون يعتبرون التفكير الأخضر «أي موضوع الحفاظ على البيئة»، مؤامرة يسارية، اهتموا في الفترة الأخيرة بالنقاش الدائر حول الطاقة وبدائلها. ومعروف عن الكاتب فريدمان، أنه ليس من المحافظين الجدد، بل هو أقرب إلى التفكير الليبرالي أو الاشتراكي الديمقراطي، ولم يتفق مع المحافظين الجدد إلا مرة واحدة فقط، وذلك في مسألة إعادة التفكير بشكل أساسي في سياسات البيئة الأميركية.

ويمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة خلاصة للسياسات الأميركية «العنيدة والمضللة والمخادعة» خلال العقدين الأخيرين.

إنه يقود القارئ إلى ما يسميه الكاتب «القانون الأولي للسياسات البترولية» ، وملخصه أن أسعار البترول حينما تنخفض، يرتفع مستوى الحرية. يقول من دون أن يستند إلى أي حجة علمية أو منطقية: «إن انخفاض سعر البترول إلى عشرين دولاراً للبرميل الواحد، سيفجر الثورات الديمقراطية في أنحاء العالم»، أي إن انهيار أسعار البترول يؤدي إلى انتشار الديمقراطية، كما يرى فريدمان، وأن نفاد البترول في أي بلد، سيؤدي إلى انتشار وإشاعة الديمقراطية، أو سيؤدي في الأقل إلى إصلاحات ديمقراطية.

وفي ما يتعلق بالبيئة والمناخ يؤكد فريدمان على أن «النمو الاقتصادي السريع، وازدياد عدد السكان، يؤديان إلى تدمير الغابات وأنظمة الكائنات الحية الأخرى بمقدار لم يسبق له مثيل. إن دمار هذه الغابات والبيئات ذات الحيوات المختلفة والمتنوعة، يساهم، بدوره، في تغيير المناخ، من خلال إطلاق مزيد من الكاربون في الجو». وهنا يشير فريدمان إلى الترابطات الداخلية التي تشكل في الأساس الأزمة البيئية التي تستلزم تغييرا في أسلوب عمل الأشياء. ويلاحظ كذلك أن أي رد فعل مؤثر لتغيير المناخ يجب أن يتضمن حلولا تكنولوجية رفيعة المستوى، مثل القوة النووية، ثم يقترح استخدام «إنترنت الطاقة» إنه، في الواقع، يقترح خليطا متنوعا كبيرا من تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الطاقة، ليقدم خدمات عدة. لكن تحقيق مثل هذه المقترحات على المستوى العالمي، ربما، يبدو أمرا عسيرا في عالم تتنافس فيه الدول على مصادر الطاقة لاستخدامها كأدوات جيو- بوليتيكية. ولكن على الرغم من ذلك، يبقى تركيز فريدمان على الثوابت التكنولوجية أقرب إلى الحقيقة من الاتجاه السائد لتفكير الخضر، الذي يشي بفكر خيالي في ما يتعلق بالتحول السياسي.

يجيء تناول موضوع البيئة عرضيا في هذا الكتاب. فالكاتب موضوعه ليس العالم، وإنما، أميركا. ففي المقطع الختامي من الكتاب يقول فريدمان «نحن في حاجة إلى إعادة تعريف الأخضر، وإعادة اكتشاف أميركا، وبالتالي نكتشف أنفسنا، وما الذي يعنيه أن تكون أميركيا. نحن جميعا مهاجرون، مرة أخرى. نحن نجدف صوب زهرة مايو من جديد».

إن منظورا أميركيا- مركزيا كهذا الذي يطرحه فريدمان، كان ممكنا أن يكون له ثمة معنى قبل عشرين عاما. لكن في عالم اليوم، حيث الولايات المتحدة الأميركية باتت «قوة مترنحة»، يكون الخداع والتضليل مسألة مضحكة. إنها ليست أميركا التي سوف تشكل، بشكل حاسم، ردود الفعل العالمية إزاء التغييرات المناخية ومشاكل الطاقة، بل، الأمم الناهضة، وفي مقدمتها الصين، التي، بالتأكيد، لا تبحر صوب زهرة مايو. غير أن فريدمان، من طرف آخر، يثني بشكل خاص على دور الصينيين، لوعيهم البيئي، ولكن على شرط أن تكف الصين عن أن تكون مثل أميركا. وفي نفس الوقت لا يعتقد أنهم سيصبحون خضرا دون أن يتلونوا، مع مرور الوقت، بمسحة خفيفة من اللون البرتقالي، وذلك في إشارة إلى الانتفاضة التي اندلعت في أوكرانيا عام 2004.

منذ ذلك الحين والأحداث غيرت وجه الصورة، حيث «تأكيد روسيا لذاتها في القوقاز قد كشف عن القوات الجيو- بوليتيكية التي تشكل سياسات العالم، وعن مستقبل الثورات البرتقالية، الذي يبدو أنه قد أصبح أقل ضمانا مما كان عليه قبل ذلك».

من وجهة نظر فريدمان، أن لأميركا الآن اهتمامات أخرى. الإثارات البيئية التي تلت «كارثة العراق» أخذت تخفت في مركز السياسات الأميركية، سوية مع الحرب نفسها. عوضا عن ذلك احتلت مسألة تفادي كسادا اقتصادي كارثي، أولويات السياسة الأميركية، لأن «السيكولوجية الأميركية تتصل بالخوف المتأصل من انهيار اقتصادي».