المدونات العربية.. بلغت حائطا مسدودا

بعضها فضل الهجرة إلى بوابات غربية

TT

عاد الجميع إلى نقطة الصفر. فالبهجة بالحرية لم تدم طويلا، واكتشفت السلطات العربية أن المدونات أيضا يمكنها أن تقمع وتمنع وتصادر. وتدريجيا فهم المدونون أن الفرق بين الواقع والافتراضي لم يعد كبيرا بالقدر الذي تخيلوه. هل طرد المدونون العرب من الجنة الإلكترونية؟ وكيف؟ هذا ما يتطرق إليه كتاب إيهاب الحضري «الفضاء البديل.. الممارسة السياسية والاجتماعية للشباب العربي على شبكة الإنترنت» الذي فاز مؤخرا بجائزة «جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين» ويوزع قريبا في المكتبات.. وهنا مقتطفات من الكتاب.

لم يقنع البعض بأن تظل المدونات مجرد منطقة للبوح لأناس يستطيعون أن يمارسوا فعل التعري الذاتي بالكلمة دون أن يعرف أحد هويتهم، فانتقلوا إلى تعرية الواقع المحيط بهم، وخرجوا بأنفسهم من منطقة الظلام ليصبح اللعب على المكشوف. ظل المنتمون إلى النمط الأول أكثر قدرة على التعبير عن تحولات اجتماعية ظلت لسنوات طويلة تقبع ضمن قائمة طويلة من المسكوت عنه، بينما خاض المنتمون للنمط الثاني معارك في ميادين مختلفة، فانتقدوا السياسات الداخلية والخارجية، وفضحوا ممارسات الشرطة تجاه المواطنين في دول عديدة. هاجموا وهوجموا، ليوقن الكثيرون أن التداخل بين العالمين الواقعي والافتراضي قد يؤدى إلى نتائج كبرى.

كان أول ظهور للمدونات عام 1994 على يد عدد ممن اعتبروا فيما بعد روادا في هذا المجال، من أشهرهم جستين هال، جون كارماك، وجون بارغير، وتزايد عدد المدونات بشكل متسارع، وانتقلت الظاهرة إلى المنطقة العربية التي بلغ عدد مدوناتها حتى منتصف 2008 نحو 490 ألف مدونة - حسب تقرير لمركز دعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري - ومع الوقت أصبحت المدونات تشكل واحدا من أهم مجتمعات الإنترنت. ويرى البعض أن «المدونات إلى جانب البريد الالكتروني، أهم خدمتين ظهرتا على الإنترنت على الإطلاق». وكما ظهرت أسماء فى الغرب نسبت إليها ريادة تأسيس المدونات، ظهرت أسماء عربية حظيت بالمكانة نفسها رغم التأخر العربي العددي الواضح. فنسبة المدونات العربية مقارنة بالرقم العالمي لا يتجاوز 0,7 %. من بين هذه الأسماء وائل عباس وعلاء سيف في مصر، وفؤاد الفرحان في السعودية، وزهير اليحياوى من تونس الذي توفى عن عمر لا يتعدى 36 عاما بعد القبض عليه والإفراج عنه لظروف صحية.

في البداية كان معظم المدونين يحرصون على الاستعانة بأسماء مستعارة تضمن لهم حرية التعبير بجرأة غير معهودة، وكان اختراق التابوهات هاجسا أساسيا لهم. وهو ما جذب أعدادا متزايدة من الزائرين الذين وجدوا أنفسهم داخل مناطق جديدة من البوح. اللغة المستخدمة كانت متفردة وتعتمد على الجرأة. إنها لغة مجتمعات الشباب، والسباب في الشارع، والمفردات السوقية. تعبيرات غير مبتكرة، لكن فرادتها تنبع من انتقالها من حيز الشفاهي إلى المدون.

«منال» ناشطة في مجال المدونات، أسست مع زوجها علاء مدونة عرفت باسميهما ولقيت رواجا كبيرا، مع توغلها في القضايا السياسية والاجتماعية بشكل صريح، وحصولها على جوائز دولية. وفي لقاء مع إذاعة «دويتش فيلة» أعاد نشره موقع «قنطرة» سئل علاء سيف عن رأيه في اللغة المستخدمة في الكثير المدونات المصرية، التي صارت بحسب المحاور خارجة عن كل قيد وضابط أحيانا. كان السؤال إلى علاء بوصفه صاحب مدونة تواجه بهذا الاتهام. فأجاب علاء «مدونتي أنا وزوجتي يشار إليها على أنها من المدونات البذيئة». وعندما طلب منه المذيع شرح الأسباب التي تدعوهما لذلك قال «لا أرى حاجة للشرح. اخترت أن أسلك هذه الطريق. الذي لا تعجبه اللغة بإمكانه ألا يقرأ مدونتي(...) نحن نستخدم اللغة الأقرب للتعبير عما نريد في لحظة معينة. وبالتالي لا يحصل الأمر بالخطأ، أي أنه ليس شيئا عفويا، لكني من جانب آخر لا أتقصد البحث عن الكلمات الأكثر استفزازا أو قبحا، فالمسألة بالنسبة إلي مجرد تعبير». وأضاف علاء «قلة تستخدم لغة كلغة مدونتي، لكن هناك من جهة أخرى من يستخدم لغة عادية وخطابهم عنصري وفيه بغض وكراهية».

كثيرون أقبلوا على مدونة علاء للأسباب نفسها التي جلبت لها الانتقادات. رسميا لم يكن أحد يكترث بما يحدث عندما كانت هذه اللغة قاصرة على مجالات بعينها، حتى بدأت المدونات صولاتها في مجال السياسة، تمارس نقدا يصل أحيانا حد التجريح والقذف والسبّ. وهو أسلوب اجتذب كثيرا من الشباب الذين يعايشون مشكلات مجتمعاتهم دون أن يمتلكوا آليات للتعبير. بعضهم كان يطالع في صمت، وهناك من تجاوز هذه المرحلة ليسجل تعليقاته التي كانت أحيانا تجلب لصاحب المدونة بعض المتاعب. ونقتبس هنا ما أوردته المدونة السورية ركانة خمور، عن تحقيق تم معها بسبب تعليق على إحدى تدويناتها. فبعد أن تم اختطافها من أمام منزلها وجدت نفسها أمام أحد المحققين. دار حوار وصل إلى هذه الجزئية «سألني: هل تعرفين شخصا اسمه علي حاج حسين، قلت: أعرفه عن طريق الانترنت كما اعرف غيره كثيرين يتركون تعليقاتهم على مواضيعي. اعرف ستمائة واحد عن هذا الطريق.

فسألني ستمائة بالضبط أم أكثر؟ فقلت: لم أعدهم قد يكونون أكثر أو أقل، ما أعنيه، أنهم أشخاص كثر، فلدي مدونة يزورها كثيرون.

فقال لي: يا ريت تعطينا عنوان مدونتك حتى نراها على الإنترنت!

فقلت له: عما تسألني، إذا كنت لم تر مدونتي ولا تعلم بها؟».

( مدونة: عفواً أيها الفساد).

في أزمنة بعيدة كان الثوار يختارون مناطق نائية للتمركز، لم يكونوا بذلك يخلقون وطنا بديلا لآخر لم يستطيعوا التعايش مع ما يجري فيه، بل اختاروا فعل المقاومة عن بعد ليعدّوا المناخ المناسب الذي ينجح في احتوائهم عندما يعودون بعد شهور أو سنوات. وقياسا على المنطق نفسه اختار عدد من المدونين الوقوف على الحافة الفاصلة بين عالمين، وإن كان ميلهم الأساسي يدور في فلك الواقع، بحيث يبدو الفضاء البديل مجرد حيز يستعمل في انطلاق الهجمات على كل ما يعترضون عليه. بمرور السنين تحولت الغابة النائية إلى فضاء إلكتروني أكثر اتساعا، وظلت الأوطان تحمل السمات نفسها. لم تعد الثورة تعتمد على الصراع المسلح، وأصبحت الكلمات أكثر حضورا، وبدا أن الواقع البديل يخلق نوعا من الحنين إليه، ربما يكون الحنين مجرد بذرة لكنها آخذة فى النمو. والحالة التالية تشير إلى ذلك، فعندما قررت بنت مصرية تغيير مكان مدونتها، لم تكن تدرك أن الأمر سيصيبها بهذه الحالة من الشجن. لكن هذا ما حدث، وكتبت تقول «أولا؛ كل سنة وانتو طيبين، وعيد سعيد. ثانيا؛ آن الآوان أرحل عن الأرض الأولى وأسكن الأرض الجديدة. يعنى خلاص كده هادون في مكان تاني وعلى صفحة تانية غير بلوجسبوت، حاجة ملاكي، عقبال عندكو. اتفضلوا زوروني هنا، وما تغيبوش عليا في الزيارة، عشان حاسة اني لسه غريبة وعايزة ونس. ويارب تكون المدونة الجديدة قلبها كبير وتساع ترهاتي، زي ما حبيبتي الأولانية ما استحملتني. انا كمان مش هقفلها، ولا هلغيها، دي تاريخ بردو.. زمن عشته، وعايزة اطل عليه من وقت للتاني. وخصوصا اني مش عارفة انقل عزالي للمدونة الجديدة، اقصد اني مش عارفة انقل تدوينات سنتين ونص لمدونتي الجديدة. المهم.. تعالوا زوروني، وقولولي رأيكو في التصميم بالذات. اما المضمون فمش هيختلف عن البنوتة المصرية إلي كانت بتكتب هنا أكيد.. مش عارفة ليه حاسه اني عايزة اعيّط، وفي نفس الوقت مش هينفع اتراجع».

ربما تكون الحالة السابقة فردية، وقد يكون هناك آخرون شعروا بها دون أن يعبروا عنها غير أنها في كل الأحوال تظل إرهاصة تشير إلى أن الشبكة العنكبوتية تشكل وجدانياتها، وتخلق عواطف الارتباط بها، خاصة في ظل حالة اغتراب عن الواقع ظهرت في بعض المدونات. وبينما سيطرت الرغبة في التغيير بصورة حادة إلا أنها لا تستطيع أحيانا أن تهمش شعورا بالإحباط من الواقع. وهكذا أصبح مفهوم الوطن نفسه محل مراجعة من البعض. وتحت عنوان «رغما عن أنف أبي الهول، مصر لا تصلح أن تكون وطنا»، كتبت داليا زيادة فى 28 يوليو (تموز) 2007: «مر من عمري الآن أكثر من خمسة وعشرين سنة في محاولات البحث عن وطن يلبي لي ابسط احتياجاتي كمواطن. كانت صدمتي الأولى في سنوات الطفولة حين سألت أمي ذات صباح وأنا أحتسي كوبا من الشاي باللبن: ما هي أكبر دولة في العالم؟ وجاءت إجابتها سريعة دون تردد: أمريكا، أخذتني الصدمة لحظات. فأنا أسألها لتقول لي: مصر. توقعت أن تكون الإجابة: مصر وليس أميركا. التلفزيون الحكومي لدينا كان يبث كل يوم آلاف الأشياء عن مصر وعظمة مصر وروعة مصر حتى اعتقدت أن مصر هي الدولة العظمى المطلقة، لكنني فوجئت أنها أمريكا! ويوما بعد يوم وبالتجربة الحياتية تأكد لي اكتشافي، واليوم فقط واتتني الجرأة لأقولها صراحة إن مصر لم تعد تصلح وطنا لأي إنسان!».

مثلما يتداخل العالمان تتماس مشاعر الانتماء والاغتراب، لتنتج حالة من الاضطراب التي يمكن أن تقود إلى ظهور عالم جديد، تماما مثل الانفجارات الكونية التي يرى العلماء أنها أدت إلى نشأة الأرض. يمكن أخذ الفوارق في الاعتبار عند التعامل مع تشبيهات كهذه، لكن الصورة تظل قابلة للاستحضار، وحتى تنضج كل هذه التفاعلات وتؤدى أو لا تؤدى إلى نشأة كيان اجتماعي جديد سيظل التداخل بين العوالم قائما ومزعجا للبعض، خاصة على المستويات الرسمية. يزيد من درجة الانزعاج تلك الحدة التي تتسم بها لغة بعض المدونات، والمعلومات التي يتم وصفها رسميا بأنها غير موثقة، إضافة إلى بعض التجاوزات التي تصل إلى السب والقذف. وهو ما يعلق عليه البعض قائلا « المدونات تستخدم لغة بذيئة وألفاظا خارجة لا تتناسب وأخلاقيات المجتمع». وأمام انتقادات كهذه أصبح المدونون مواجهون بنصائح من قبيل «عليكم أن تبقوا في عالمكم الافتراضي وعدم النزول إلى الشارع وتنظيم المظاهرات الفوضوية والاشتباك مع قوات الأمن؛ حتى لا تقعوا تحت طائلة القانون». (محمود شريف، لواء شرطة سابق بمباحث أمن الدولة – المصدر السابق).

لكن هذا العالم الافتراضي الذي يجد المدونون أنفسهم مطالبين بالبقاء فيه أصبح يضيق بهم وبممارساتهم تحت وطأة الضغوط التي تم تصديرها إليه من الفضاء الواقعي. وتأتي الضغوط في سياق حملات الكر والفر المتبادلة بين الكائنات في عالمين شاء طرفا اللعبة ألا يكونا منفصلين. وسيطرت على الجميع حالة من الارتياب. وحاولت بعض البوابات ومجمعات المدونات وضع قواعد خاصة بها. غير أن هذه المحاولة خلقت حالة رفض بين المدونين الذين أصبحوا يخوضون معركة على جانبين: يواصلون ممارساتهم التي تتداخل مع العالم الواقعي على مستوى الرصد والفضح، ويحاولون في الوقت نفسه الحفاظ على مساحة الحرية التي وفرها لهم الفضاء الإلكتروني. حاول المدونون فضح الواقع بنقل مشكلاته إلى الفضاء الالكتروني، لكنهم حاولوا أن يمنعوا بقية مفردات الواقع من الانتقال في الاتجاه نفسه، غير أنهم فشلوا بالتأكيد. فبدأوا يتمردون على مجتمعاتهم الجديدة حينما اكتشفوا أنها لم تختلف إلا على مستوى الشكل، أما المضمون فمتشابه. وكان المجتمع الأكثر عرضة لمحاولات التمرد هو مدونات مكتوب. فقد تحولت إدارته - بحسب بعض المدونين- إلى نظام قمعي، لا يختلف كثيرا عن الأنظمة القمعية التقليدية. والواقعة التالية مجرد نموذج من شكاوى تتكرر كثيرا «فوجئت ظهيرة 13-12-2007، حينما كنت أهم بالدخول لإدراج تقاريري في (لسان العرب) أن موقع هذه المدونة يحيلني مباشرة إلى صفحة المدونات الرئيسية في مجمع مكتوب، وحينما ذهبت إلى صفحة الأكثر رواجا الذي شرفت بوجود (لسان العرب) بصفة مستديمة فيها، رأيت (لسان العرب) في المرتبة الثالثة، ثم يممت شطر صفحة عدد المشاهدات، وكانت المفاجأة المروعة في انتظاري، فقد خلت من مدونة (لسان العرب)، هذا كل ما حدث، إن استمرار إدارة مكتوب في التزام الصمت وعدم الإفصاح عن الأسباب الداعية إلى إغلاق المدونة لهو أمر يبعث على الريبة. ولا يجوز أن يتحول مجمع مدونات يرفع شعار الحرية إلى جلاد وسجان وإلى قاض ظالم لا معقب لحكمه» .(محرر مدونة لسان العرب في خطاب منه إلى محمد شادي كسكين رئيس اتحاد المدونين العرب لشكره على تضامن الاتحاد معه - 16 ديسمبر 2007). بعدها بأيام انتهت أزمة المدونة لكن الواقعة ذاتها تتكرر. لذلك أصبح من العادي أن نجد معظم المدونات الناشطة سياسيا أو اجتماعيا قد هجرت «مكتوب» إلى بوابات أجنبية أو استعانت بـ «سيرفر» خاص بها.

لا يزال الكائن البشرى إذن يمضى في سياقاته التقليدية، وإن كان الشكل حداثيا. وهو ما يظهر في طلب مدون تونسي اللجوء إلى مجمع المدونات المصرية الذي أسسه علاء ومنال بعد أن رفضت التجمعات الوطنية في بلاده استضافة مدونته عليها! وهكذا فإن المدونات ما زالت تدور في فلك الواقع، دون أن تسهم في سبر أغوار فضاء بديل، يمكن أن نكتشف فيه عالما مغايرا، مثلما يحدث في أفلام الخيال العلمي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينبغي أن يكون الفضاء الجديد خياليا يكرس للأحلام، أم أنه سيصبح كذلك إذا فشل كمنبر إصلاحي؟ وقتها سيذوب الناشطون في أحلام تعوضهم عن قسوة أحلامهم المجهضة. سؤال يحال إلى دفاتر الزمن لأنه وحده الذي سيجيب عنه مستقبلا.