عبده خال: نفسي أعمق من هاوية سحيقة.. وما زلت أبحث عنها

يقول إنه لا ينتمي لأية مؤسسة.. وهو مكتف بما يفكر به أو يكتبه

عبده خال
TT

في قرية (المجنة) في جازان، التي تقع في أقصى الجنوب الغربي للسعودية على ساحل البحر الأحمر، ولد الروائي السعودي عبده خال، في عام 1962. وسط المعاناة عاش وتربى وكابد شظف العيش، كما استنشق رائحة الموت طفلا وهو يشاهد جحافل الجثث يجري دفنها بفعل (الملاريا)، ولذلك كان الموت حاضرا في أعماله، كما كان حاضرا في فكره وحياته. يقول «وأنا صغير أول ما نبهني لحقيقة الموت، في قريتي، هي تلك الجثث التي رأيت الوادي يجرفها أمام عيني، وتلك الغارقة داخل الآبار، مات أصحابها بسبب انتشار وباء الملاريا هناك».

يعبر عبده خال عن الموت بما يشبه رؤية صوفية، إلى عالم الفناء، فالموت كما يقول «هو أصل الأشياء وليست الحياة»، ويفسر ذلك بالقول إن «الموت عندي ليس العملية الكيميائية التي تنتهي بتدهور الخلايا وضمورها وردم صاحبها.. الموت هو حياة دائمة لم نتنبه لها جيدا».

وحين نسأله: هل هذا يعكس رؤية فلسفية في الموت والحياة، أم هو انحياز لثقافة العدم الرديف لـ(التهميش) الذي طالما ظل هاجسا مخيفا؟، يقول عبده خال لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد عدم.. الفناء حالة نتحدث عنها في زمن سابق لتلك الحالة، فكل مادة ننظر إلى لحظة فنائها – من وجه نظرنا- هو حكم آني مرتبط بزمننا الذي حضر تلك الحالة، وهو حكم ناقص، ومتهور».

ويضيف: «كما أن التهميش لفظة تواطأنا على ترديدها، فالمهمش هنا هو السيد هناك». ويقول «انظر إلى إشارتك للأشياء، فحين تشير للشارع – مثلا - تثبت جهة واحدة وتهمش خمس جهات، بينما الخمس الجهات المهمشة من قبلك تهمشك – بدورها – أنت وشارعك الذي تشير إليه». عبده خال هو نفسه الذي يقارن بين الموت والشعور بالتهميش، يقول «كارثتنا أننا نموت أحياء، بسبب أن وضعنا داخل سجن التهميش، تكوّن من سوء الظن والزيف والكذب».

عرف عبده خال ضراوة المعاناة صغيرا، منذ تكفلت أمه بتنشئته طفلا، ومنذ فقد والده يافعا، ومنذ اضطر للانتقال إلى جدة للبحث عن فرصة أفضل للتعلم، وهو يحمل جسدا نحيلا يستوطنه المرض. وكانت هذه المعاناة هي الأخرى مناخا للحزن الداخلي الذي يظهر في أعماله، فهو القائل «نحن كائنات يصل إليها عطب الموت سريعا»، وحين نسأله عن ملازمة التشاؤم لخياله وأفكاره، حتى أصدر مجموعة قصصية حملت عنوان «ليس هناك ما يبهج»، يقول خال: «ليس تفاؤلا أو تشاؤما، فما تراه تشاؤما لأنه يزعج سكينتك، يخلخل قناعاتك المطمأن إليها، وأي فعل يعكر صفو الماء الساكن هو فعل رجم، يوسع دوائر الارتباك ويحولها من حالة سكون لحالة ارتباك. وجميعنا يستكين لساكن وينفر من حالة عدم التوازن». إذا، ماذا بقي من القرية الجازانية (المجنة) التي احتضنت أحلامه البكر؟ أين نجد صورتها في أعماله؟ يجيب: «نحن نسكن بعضنا، فالأمكنة كالخلايا، نظن أنها هرمت وماتت، فإذا بها تقفز على تضاريس ملامحنا وتشعرنا أنها لا تزال تخلق الحياة فينا. قريتي كوشم كلما عبر الزمن ونظرت إليه، تذكرت أن جلدي استقبل تلك الوخزات، ليبقى أبد الدهر يذكرني بأني غادرت رحم قريتي، وأني أنتمى إليها مهما هربت داخل المدن، فتعتقلني من خلال لهجتها أو أهازيجها أو رقصاتها أو ذكرياتها. الأماكن كالمقابر التي لا نغادرها صباحا أو مساء». في عام 1982 حصل عبده خال على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الملك عبد العزيز في جدة، بعد مشاوير طويلة، تنقل فيها بين التخصصات، قبل أن يستقرّ به المقام لدراسة تخصص، وصف اختياره له ذات مرة بأنه لم يكن سوى «غباء الطبقة البسيطة»، لأن العلوم السياسية تستقطب الطلاب الأغنياء أو أبناء الأسر المعروفة. وقبل ذلك جرب حظه في كلية الهندسة، لكنه فر منها بعد أن «اكتشفت أني لا أصلح مهندسا، لأني أمضي الليل كله وأنا أكتب قصائد الحب والغرام، وإن كانت حينها تعيسة، ولهذا قررت الانتقال إلى قسم اللغة العربية، لكنهم لم يقبلوني، لأني متخرج من القسم العلمي في الثانوية». وحين نسأله إذا لم يكن اختياره للعلوم السياسية بمثابة قفز في الهواء، يجيب: «حياتنا هي قفز متوال في الهواء.. ألا ترى أننا نتساقط في الهاوية دائما. نحن نستيقظ كل يوم لممارسة هذا القفز، لا أحد يمكن له أن يتصف بأنه كائن حي ولا يقوم بالقفز، كما أن الإنسان كائن سياسي من اللحظة التي غطى عورته. ففعل التغطية هو عمل سياسي، كي لا يظهر عاريا تماما، هذه الفعلة جعلت كل فعل يحدث هو عمل سياسي». ولا يزال خال، كما يقول، يبحث عن نفسه في كل ما يكتب، و«في كل مرة أجد أن هذه النفس أعمق من أي هاوية سحيقة».

من بين أعماله الروائية برزت رواية «فسوق»، التي جرد فيها المرأة من قالبها الجسدي، لتتحول إلى رمز قادر على فضح ازدواجية المجتمع، والبحث عن مناخ أكثر حرية. وهو يصف المجتمع الذي وصفه في رواية «فسوق» بأنه «مجتمع لم يلتصق بتفاصيل الحياة، وكم هي بائسة الحياة عندما يتم جريانها إلى داخل المقبرة، وتتحول إلى موات متبادل هنا وهناك.. هذا المجتمع، لكي يحافظ على سجنه مغلقا تمام،ا رفض الحياة الخارجية، وما تجلبه من هواء نقي، فتأكسدت كل تصرفاته».

إلى أي حد كانت (جليلة) في رواية «فسوق» قريبة من واقع المجتمع؟ ولم كان دور المرأة على الرغم من الصورة البطولة، هامشيا؟ يقول: «كانت (جليلة) نبتة حقيقية لمجتمع دخل إلى غرف مغلقة، وأخذ ينظر للحياة من داخل تلك الغرف المغلقة، معتقدا أن الحياة هي تلك الجدر التي تحيط به، والسقف الذي يحد من ارتفاع هامته، والنافذة المغلقة التي لا تفتح.. ومن هناك يحكم بأن الحياة مليئة بالفساد».

رواية «فسوق» فتحت على صاحبها سيولا من الاتهامات. فالبعض اتهمه أنه تعمد تسفيه الدور الذي يقوم به رجال الحسبة، كما هاجمه فريق من الناس اتهمهم هو بدوره بأنهم يسعون باسم الدين إلى مصادرة الحريات الفردية. وهناك من قال إن الرواية «تشجع على الحب».

ويرد على هذه الاتهامات بقوله: «هذا هو الاستلال، أن تستل خيطا من سجادة صلاة، وتقول إن هذا الخيط نجس». وأضاف: «لم ينظر للرواية كسجادة كاملة، بل تم الوقوف عند الخيط المستل.. أما بالنسبة للحب، فإن من يريد وأده، إنما هو يرغب في ردم الحياة، وإيقاف نبض الإنسان، يريد حياة كهفية مظلمة، تكون مخبأ للزواحف السامة، تلك الكائنات التي ترى في الشمس عدوا، وفي الظلام والمباغتة حياة. الحب طوق النجاة الوحيد كي نعيش وفق ما أراد الله لنا أن نعيش»..

لا يكترث عبده خال بتوطيد علاقة من نوع ما مع المؤسسات الثقافية، وهو يشعر أنه لا ينتمي لأي مؤسسة، بل حر، يطلق ساقيه للريح، مثلما يطلق أفكاره للحرية، فهناك تناقض كبير بين الأفق اللامحدود الذي يتطلع إليه، وبين الأغلال التي تفرضها نسقيات (المؤسسة). إنه مكتف بما يفكر أو يكتب. يقول: «إذ آمنت أن كل ما يحيط بك هو مادة خام لكتاباتك، يصبح لديك اكتفاء ذاتي، تصبح أنت المحور، والكل يطوف بك».

حين نسأله، أين عبده خال من المشهد الثقافي السعودي؟ من أدار ظهره للآخر، يجيب: «ربما أقول لك، أينما أقف، فالإشارة تشير صوبي، وهذا القول شبيه بأصبعك التي أشارت للشارع، أي إن هناك خمس جهات لا تشير إلي. وربما أقول إني أعطي ظهري لجهة واحدة، واستقبل خمس جهات أخرى.. فالرؤيا هنا لها علاقة بصحة أو مرض العين».

* سيرة إبداعية

* أصدر عبده خال مجموعة من الأعمال الأدبية، في مجال القصة، أصدر «حوار على بوابة الأرض» 1984، «لا أحد»، 1986، «ليس هناك ما يبهج» 1988، «حكايات المداد» قصص للأطفال 1994، «من يغني في هذا الليل» 1999، «الأوغاد يضحكون» 2002.

أما في مجال الرواية، فقد أصدر عبده خال مجموعة من الأعمال التي نجح بعضها في أن يتحول إلى علامة فارقة في المشهد الروائي السعودي، ومن بين تلك الروايات «الموت يمر من هنا»، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1991، «مدن تأكل العشب» عن دار الساقي بلندن 1998، «الأيام لا تخبئ أحدا» عن دار الجمل بألمانيا ‏2000، «الطين» دار الساقي 2002، ‏«نباح» منشورات دار الجمل 2003، «ذلك البعيد كان أنا» عن دار الساقي بلندن، «فسوق» 2005.

وترجمت له العديد من القصص إلى اللغة الإنجليزية من بينها: «رشيد الحيدري»، «الأوراق»، «ماذا قال القميري»، «القبر»، ومجموعة قصص للأطفال مأخوذة من مجموعة حكايات المداد، كما ترجم له فصل من روايته «مدن تأكل العشب» إلى الإنجليزية وكذلك إلى اللغة الفرنسية.