الروائي فواز حداد يهاجم «النخبة المفتونة بنفسها»

مرشح لجائزة بوكر للرواية العربية

فواز حداد («الشرق الاوسط»)
TT

في العاشر من مارس المقبل قد ينال فواز حداد «جائزة بوكر للرواية العربية»، بعد أن وصلت روايته الأخيرة «المترجم الخائن» بين 6 روايات أخرى إلى التصفية النهائية من أصل 121 رواية. وبانتظار الإعلان عن الفائز بالجائزة فإن فواز حداد لا يبدو سعيدا بقدر ما يظهر غضبا شديدا من النقاد والصحافة والأجواء العربية الفاسدة التي تلوث كل شيء. فواز حداد مقلّ في لقاءاته الصحافية، لكنه هذه المرة يتكلم ويبوح بما يؤرقه.

قطع الروائي السوري فواز حداد مسيرة ثماني روايات ومجموعة قصصية، ليصل إلى القارىء، وليعتبره الكثير من النقاد علامة فارقة في المشهد الروائي السوري، فيما وصلت إليه أضواء الإعلام متأخرة بعد إدراجه في القائمة القصيرة المرشحة لجائزة بوكر للعام الحالي.

وجرى كسر الطوق الذي يفرضه حداد حول عالمه الروائي، ووجد نفسه في خضم حوارات ومقابلات، المرفوض منها أكثر من المقبول، في إصرار على عدم التعاطي مع التلفزيون، والاقتصار على حوارات مكتوبة، وذلك لأنه بطبيعته «لا يحب الظهور» رغم أنه «ليس انطوائيا نموذجيا» و«ليس اجتماعيا إلا في حدود معينة». ومع ذلك يقول: «لا ريب أن هناك فائدة للكاتب من الإعلام، هذا أمر لا ينكر، لكن لدي ظنون سيئة حول الإعلام عامة، وترويجه للكثير من الأكاذيب. لا أريد أن أكون أحد أكاذيبه.. أؤمن أن على كتابي أن يبحر وحده في عوالم القراءة، فإذا كان لا يستحق فسوف يغرق، وإذا كان جيدا فسوف يصل إلى هدفه، حتى لو احتاج إلى سنوات طويلة».

لا يسلّم حداد بصحة رأيه هذا ويقول: «ربما كنت مخطئا، لا بد للكاتب الذي يريد الظهور أن يكون ممثلا، بمعنى أن ينتحل شخصية. ترى ما هي الشخصية التي سوف يتقمصها؟ هو مهما اختار فلن تكون شخصيته الحقيقية». وبالتالي يقول حداد: «أي ظهور لي يشكل عبئا لا يطاق، أنفر منه وأحاول تحاشيه، فأختار أهون الشرور كلها، وأجيب على أسئلة الصحافيين كتابة، أجدها أكثر دقة. وقد أضطر أحيانا إلى الظهور لكنني لا أحبذه. ولا ألوم أي شخص يظهر في الإعلام، بالعكس، أحترمه، وأدرك أن لكل منا مبرراته».

أما علاقته بالصحافيين فيصفها حداد الساخط دائما على الصحافة بأنها «جيدة»! مستثنيا «الذين يلتبسهم الغرور مع الاستعجال، فيطمحون إلى أن يكونوا شعراء وروائيين، وهو أمر مشروع لا غبار عليه، لكنهم للأسف يخوضون منافسات مقيتة، مع أنه بوسعهم أن يكونوا على علاقة طيبة مع الآخرين»!

ومع ذلك ثمة ملاحظة تطرح نفسها حول اهتمام الصحافة بأعمال الروائي فواز حداد، فقبل نشر رواياته الثلاث الأخيرة في بيروت كان غالبا ما يقتصر الحديث حول رواياته على التداول الشفاهي، وكان هذا واضحا جدا لدى صدور رواية «الضغينة والهوى»، التي عول عليها كثيرا نظرا للجهد الذي استهلكته والموضوعات الخطيرة والإشكاليات التي تعرضت لها على أكثر من مستوى، سياسي وفلسفي وحتى لاهوتي ديني، ورغم سخونة تلك القضايا لم تستقبل الرواية بما تستحق. وقد سبق وحصل هذا مع الرواية الثانية «تياترو»، ومن المفارقة أن البعض كان يهرب من نقد هذين العملين إلى الإشادة بالرواية الأولى «موزاييك»، وبما يوحي أن إبداعه توقف عند العمل الأول! وهو أمر لطالما أثار دهشة حداد، محاولا أن يبحث عن مبرراته دون أن يفوت الفرصة لتسديد سهم لاسع للنقد الصحفي، فيقول: «رواية (الضغينة والهوى)، النقاد لم يقتربوا منها أصلا، وعلى الأغلب لم يقرأوها. تنطّح الصحافيون للكتابة عنها، تناقشوا حولها في المقهى، وقرروا أن الرواية متعبة وشاقة. كانوا يفضلون الروايات الخفيفة، وهذه كانت ثقيلة عليهم. عدا أنهم لا يحبون القراءة عن أحداث مضى عليها الزمن ولو بضع سنوات، بالإضافة إلى أن القضايا لا تهمهم، وكانت لديهم طموحات إبداعية تتلخص في الكتابة عن أشياء ذاتية، كمغامراتهم مع النساء، تلك التي لم تحدث أو ستحدث. فكتبوا عن روايتي بشكل سلبي، حتى إن أحدهم كتب عنها دون أن يقرأها، وأخذ كلام أصدقائه بثقة كأمر مفروغ منه. هذا هو مستوى النقد في الصحافة الثقافية».

ولا يعتبر حداد أن النقد تعرض لرواياته الأخرى، وإنما «الصحافة تناولتها بطريقة سطحية. أي أن أعمالي تُركت لحظوظها، وكانت جيدة مع مضي الزمن، بل وشهدت رواجا معقولا. فمثلا رواية (الضغينة والهوى) صدر منها طبعتان خلال ثلاث سنوات».

من جانبنا نرى أن الصحافة لم تظلم فواز حداد، فرواياته الثلاث الأخيرة التي صدرت عن «دار رياض الريس» في بيروت لقيت رواجا إعلاميا معقولا لم تلقَه الروايات الأربع التي صدرت في سورية، فهل المشكلة في جهة النشر أم هي أسباب أخرى؟ يقول حداد: «حققت لي دار الريس الانتشار خارج سورية، فقرئت رواياتي على نطاق أوسع. في الواقع لم أنشر في بيروت إلا بسبب القيود الرقابية، فرواياتي الأخيرة لا يمكن أن تحظى بالنشر في الداخل، وأنا لم أرض لها أن تبقى حبيسة الأدراج. قدم لي رياض الريس بالذات فرصة ممتازة، عندما نشر لي (مرسال الغرام)، وتغاضى عن حجمها الكبير. الأعمال الضخمة لا تروقه، لكنه منحني هذا الاستثناء. لقد كنت محظوظا. إنه شخصية رائعة، ومشاغب من طراز رفيع».

ويلفت حداد إلى أن «أهمية ما يقوم به رياض الريس أنه لا يتوانى عن المجازفة في نشر الأعمال المقلقة والجدلية والخطرة، ويرحب بالمغامرات الفكرية والسياسية والروائية. والكاتب يتمتع بالحرية في العمل معه». إذا نظرنا إلى مسيرة فواز حداد الروائية نجدها مقسمة إلى مراحل متسلسلة، الأولى تضم ثلاث روايات على علاقة بالتاريخ: «موزاييك» دمشق 1939، «تياترو» 1949، ثم «صورة الروائي» في نحو السبعينيات من القرن الماضي. أما المرحلة الثانية فكانت: «الولد الجاهل» عما بعد الثورة، بينما «الضغينة والهوى» عن الفترة المضطربة بعد الاستقلال، ثم «مرسال الغرام» التي تناولت العهدين الملكي والجمهوري في مصر، فيما تقع أحداث «مشهد عابر» و«المترجم الخائن» خلال فترة ما بعد عام 2000. وكأنما عمل حداد يعيد سرد التاريخ روائيا، الأمر الذي يعلق عليه بأن الروائي «يستفيد من التاريخ، إنه جزء من ثقافته ومكوناته ومما هو مختزن لديه. لا رواية دون زمان ومكان، مهما حاولنا أن نفي ذلك».

وعليه فإن «علاقة الرواية بالتاريخ وثيقة، حتى لو كانت عن حدث راهن، لأنه بمجرد كتابته يتحول إلى تاريخ ما». ما يكتبه المؤرخون هو التاريخ حسب تصنيفاتهم، «أما نحن الروائيين فنكتب رواية هي مزيج من المرئي واللامرئي، الموثق وغير الموثق، الحقيقي والتخييلي، الواقعي والمتوهم. هذا المزيج لا يمكن الركون إليه في العمل التاريخي، ولا يصح الزعم بأننا نعيد سرد التاريخ روائيا، إلا إذا كان تفريغا له على الورق. أما إذا كان هناك من يصر على أن الروائي يعيد كتابة التاريخ فهذا مجرد هراء».

رغم اللطف والدماثة الدمشقيين اللذين يظهرهما حداد فإنه يكشف عن شراسة نقدية وهجاء لاذع في أعماله الروائية، حيث لا مجاملة ولا مهادنة، وإنما مواجهة لإشكاليات الماضي والحاضر عارية، فيعيد تشكيلها ومحاكمتها بصرامة. ولا عجب أن تتعرض ثلاث من رواياته للمنع، وهي: «صورة الروائي» و«مشهد عابر» و«المترجم الخائن»، وفي الأخيرة يشرح الواقع الثقافي العربي كاشفا ما يعتمل فيه من تشوهات وفساد على خلفية التحولات الكبرى التي شهدها العالم والمنطقة، بلغة هجائية نبررها بنأيه عن الأوساط الثقافية، فيما يبررها هو بأن المسافة التي وضعها بينه وبين الوسط الثقافي «لم تكن واسعة ولا ضيقة، ربما هذا السبب سمح لي برؤية أفضل. هل كنتُ موفقا؟ لست أدري تماما، المهم أنه عمل كان ينبغي إنجازه، لمشهد لا يصح إغفاله».

فالمثقف برأيه «لم يكن على مستوى التحولات المصيرية التي حدثت أواخر القرن الماضي، كان مستندا إلى منظومات فكرية راسخة، قومية واشتراكية، كلاهما هُزم فسارع إلى خيانتهما معا. وبينما كان لا بد من مراجعة ما فعلناه طوال العقود السابقة، قام الكثيرون بالتنصل من آرائهم والارتداد عنها؛ لعدم قناعتهم بما كانوا يروجون له من مبادئ وأفكار، وكأنها مجرد ألبسة يظهرون بها، وعندما يكتشفون أن هندامهم لا يليق بالرائج يخلعونها».

فالثقافة حسب رأي حداد «في منتهى الخطورة إذا أسيء استخدامها، وتركت أمورها لأناس لا يؤمنون بها إلا على أنها وسيلة للخداع أو أداة للتضليل. المشكلة الكبرى هي في تعميم الثقافة على هذا النحو، من خلال انتهاجها مبدأ تبادل المنافع، مما شكل مافيات ثقافية تقوم على استبعاد كل من يختلف معها».

واستنادا إلى هذه الرؤية يتساءل: «هل ينبغي الاكتفاء بملامسة هذه النخبة المفتونة بنفسها، والاكتفاء بنقدها تلميحا دون تصريح؟! كلا، الوضع أكثر ما يكون ملائما للهجاء». ويتابع: «أتعرض إلى الجانب المنحط من الجسم الثقافي، وهو جانب لا يستهان بحجمه، ويشكل جزءا ليس ضئيلا من الثقافة المرئية، لكن المثقفين ليسوا كتلة واحدة، وما نشهده من صراعات هي صراعات حقيقية ومستمرة، والأمور رغم تداخلها واضحة جدا. لا أزعم على الإطلاق أن الصورة سوداء تماما، فهناك نقاط مضيئة، وعلينا أن نجعل هذه الأضواء أكثر كشفا، وبالتالي لست في وارد الشكوى وإنما في معرض الشاهد، أصف تربع هؤلاء المثقفين المهزومين في الواجهة على الدوام وبشتى الأساليب، لم يخسروا مكانتهم على الرغم من انعكاس الظروف السياسية على البلاد بشكل محبط ومروع، سواء (الصراع العربي الإسرائيلي) أو (احتلال العراق). لهذا لم تلعب الثقافة دورها الفاعل، لماذا؟ لأنها في شقها الظاهر ثقافة مشوهة يقوم عليها أناس مشوهون».

ويتابع جازما: «الثقافة ليست أداة تبرير واستسلام. ما الذي جرى حتى تغيرت المدلولات؟ ولماذا تلعب الثقافة دورا بائسا، همه تيئيسنا؟ روايتي الأخيرة (المترجم الخائن) دفاع عن الثقافة واستقلاليتها إزاء الأنظمة والسلطات والمجتمع».

على هذه الخلفية كيف ينظر حداد إلى وصوله إلى القائمة القصيرة للترشيح لجائزة بوكر؟ خاصة أن الجوائز الثقافية كانت دائما محط شبهة من قبل المثقفين العرب، ومع ذلك يسعون إليها ويفرحون بها!

يرد: «للجوائز أغراض، ولا جائزة دون غاية، المفترض أن تكون نبيلة، ولا يستبعد أحيانا أن تكون مشبوهة، وللكاتب الحرية في رفضها إذا تعارضت مع مبادئه. ولقد قام بعض الكُتاب بالامتناع عن قبول جوائز ذات قيمة مادية كبيرة، وكان كسبهم المعنوي أكبر. أما إذا كان الكُتاب يسعون إليها ويفرحون بها فهو أمر أكثر من طبيعي، فهي تشكل اعترافا بالكاتب وتقديرا لجهده الإبداعي. لا بأس في طلب الجائزة، على ألا تتعارض مع ما يؤمن به الكاتب، وإلا كانت إذلالا له».