«العنقي».. أسطورة فنية تصنع يوميات العاصمة الجزائرية

TT

اتخذ له اسم «العنقاء» الذي يحيل إلى طائر خرافي ينبعث من رماده في كل مرة، وينطقه سكان الجزائر «العنقي» (بضم العين). وفي الذكرى الثلاثين لرحيله التي احتفل بها أهل الجزائر انبعث الفنان كالعنقاء وكنموذج لأسطورة غير قابلة للتكرار. كان الفنان الشعبي الجزائري الحاج محمد العنقي من أبرز الشخصيات حضورا في جزائر سنة 2008 على الرغم من مرور ثلاثين سنة على رحيله، وأقيمت له احتفالية كبيرة شارك فيها فنانون وباحثون من مختلف الاتجاهات وحتى من خارج الجزائر تدارسوا سر تلك الظاهرة المتجددة، إذ ما زالت أغانيه مطلوبة بكثرة في سوق الأشرطة والأقراص المضغوطة إلى اليوم. وعن شخصية هذا الفنان يقول تلميذه كمال فرج الله، «الحاج محمد العنقي جاء في وقت صعب جدا، وكان له فضل في إبراز أعلام منطقة شمال أفريقيا كلهم، فلولا العنقاء لما عرفنا الشيخ قدور العلمي، والأخضر بن خلوف. فبعض الناس يحصرون العنقاء في مدينة القصبة بالجزائر العاصمة لكنه أكبر من ذلك بكثير، فهو فنان شمال أفريقيا كلها، وهو الذي غنى قصائد عبد العزيز المغراوي، وابن تريكي ومحمد بن مسايب (أقدم شاعر شعبي في الثقافة الشفاهية الجزائرية) وابن الشاهد والكثير من أقطاب القصبة، ولولاه لما عرفنا كل هؤلاء المشايخ» الذين هم أقطاب الشعر الشعبي في شمال أفريقيا وأعاد العنقي أداء قصائدهم بتجديد منقطع النظير. ظهر الحاج محمد العنقي في بداية ثلاثينات القرن العشرين، وأسس لما أصبح يعرف حاليا «الموسيقى الشعبية الجزائرية» بالاعتماد على الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية التي جاء بها المورسكيون من الأندلس بعد سقوطها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وظلت الموسيقى المسيطرة على الأذن الفنية في سائر دول شمال أفريقيا. لكن تلك الموسيقى ظلت حكرا على الطبقات الأرستقراطية وحبيسة قصورهم. وعمل العنقي على إعطاء تلك الموسيقى بعدا جديدا بتفجيرها من الداخل، فأخرجها من القصور لتسمع في المقاهي الشعبية ومنها «مقهى مالكوف»، الذي كان يغني فيه. ومن ذلك المقهى انطلقت تلك الأسطورة التي ما زالت تتجدد. وعلى عكس ما يؤكده الكثيرون بأن العنقي قاد ثورة فنية ضد الموسيقى الأندلسية التي كانت حكرا على علية القوم، فإن الصحافي الجزائري محمد بوحميدي يذهب إلى عكس ذلك تماما ويرى أن الثورة الحقيقية للعنقى، كانت ضد الاحتلال الفرنسي أكثر منها ثورة على أي شيء آخر. ويضيف، «عام 1930 احتفل الفرنسيون بمرور قرن على احتلال الجزائر، وأمام البحر أقاموا منصة للحاكم العام الجزائري حيث كان يتبجح وكان الأعيان الموالون للاحتلال يحيطون به من كل جانب، واعتقدوا أن الجزائر ماتت إلى الأبد جسدا وروحا، وكسروا كل مقومات الثقافة الوطنية الجزائرية. وفي ليل الاستعمار هذا، ظهر شاب صغير عرف فيما بعد باسم الحاج محمد العنقي ينبش في التراث العربي العريق ويغني لأهل بلده باللغة العربية. أنا أرى أن العنقاء لم يثر ضد الموسيقى الأندلسية، بل على العكس أخذ منها القواعد الموسيقية التي سمحت له أن يبني القاعدة الشعبية». ويضيف موضحا، «الموسيقى الأندلسية لم تكن موسيقى القصور، بل كانت موسيقى الحرفيين من عمال النحاس وغيرهم الذين كانوا يتابعون إيقاع الموسيقى الأندلسية، لكنه كان إيقاعا قديما غير متناسب مع الحياة الجديدة. ومن هنا بدأ الحاج محمد العنقي العمل وأعطاها إيقاعا مختلفا».

لكن العنقي بالنسبة لسكان الجزائر العاصمة ليس مجرد مطرب ناجح بل تحول بشخصيته إلى نموذج يسحر بطريقة كلامه وسرعة بديهته والمواقف التي كان يصنعها ويتناقلها الناس في مجالسهم. وهذا ما يذهب إليه الصحافي الجزائري مهدي براشد الذي يؤكد في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» أن «العنقي بالنسبة للجزائريين، ارتبط بمكانة الجزائر العاصمة في وجدانهم. والعاصمة هي واجهة الجزائر ككل، لذلك تأثر به أهل مدينة عنابة في الشرق لأنهم أهل بحر، كما تأثر به أهل مستغانم وأهل بجاية الذين يتشابهون مع أهل القصبة الجزائرية في صفات سكان سواحل البحر المتوسط. والملاحظ أن العنقي كما عرفه المقربون منه لم يكن هزيا (وهو الفتوة أو القبضاي في الثقافة المشرقية)، بل كان جبانا، وتلك هي صفات أهل القصبة، وقوته الضاربة هي في لسانه السليط والحاد، حيث تفوق به لأن عقلية أهل القصبة هي شفوية بالأساس تعتمد على البلاغة اللفظية التي ساهمت بشكل كبير في نشأة تلك الأسطورة التي تجاوزت الفن إلى النموذج الاجتماعي والثقافي بمفهومه الشامل».

والعنقي الذي عاش سنين طويلة بعد استقلال الجزائر، بقي خارج النظام السياسي بعد الاستقلال، بسبب ما قيل عن الثورة التحريرية التي قادها الفلاحون وسكان الأرياف الذين صعدوا إلى الحكم بعد ذلك ورفض ذلك النموذج عندما غنى أغنية «سبحان الله يا لطيف»، التي حملت أكثر من قراءة. وبعد أكثر من ثلاثين سنة على رحيله يبقى أسطورة تصنع يوميات أهل القصبة الجزائرية.