الطبخ حين يصبح معرضا ثقافيا لأطباق تشكيلية

كريستيان دبدوب ناصر في مطبخها الفلسطيني الكلاسيكي

TT

المطبخ الفلسطيني الكلاسيكي، الذي تقدمه لنا كريستيان دبدوب ناصر، على «مساحة» 270 صفحة، في طبعة ثانية حديثة عن دار الساقي، يشبه معرضا ثقافيا للمأكولات، بأناقة تفتح الشهية، وترفع الرغبة في التذوق إلى مستوى قراءة خطوط لوحات فنية، وتلمس ظلالها وألوانها، من دون التوقف للتأمل. الأطباق مغرية وثمة ما يكفي من الوقت لدى قارئ كتابها للاختيار وإعداد ما يشتهي من وجبات فلسطينية.

وكتاب الطبخ، «المعرض» هذا، مثل كل الكتب التي تستعير من المائدة الأنيقة شكلها، يضم أجنحة صغيرة متعددة، مثل الرفوف، وضعت لنا المؤلفة عليها أنواعا مختلفة من الطبخ، التقطتها من أماكن متعددة في فلسطين، وقدمتها لنا بشرح كاف لتعريفنا بما ارتبط بها من تقاليد، وما يمارس معها من طقوس، والتأثيرات المختلفة للبنى الاجتماعية عليها.

في اختيارها لعنوان الكتاب، تجنبت المؤلفة حصر «مطبخها» الفلسطيني في إطار تقليدي يحتفي بمزايا التراث ويتوقف عندها بكثير من النستالجيا، غير آبه بمطالب معدة متطلبة وذوق معاصر. فهي شددت على كلاسيكيته، محتفظة لنا بموروثه القديم، ونكهته الحديثة. لقد أعطته، بقليل من المبالغة، قيمة الأعمال الكلاسيكية التي تنطوي على عوامل استمرارها وتدفقها في الحاضر، تماما مثل سيمفونية من القرن السادس عشر، ما زال عشاقها يتهافتون على قاعات العروض الموسيقية للاستماع إليها كما لو كانت وضعت اليوم أو بالأمس القريب على أبعد تقدير.

كما في السياسة والحروب، في ثقافة الطبخ أيضا، ظلت فلسطين، ولا تزال، إحدى بوابات التاريخ الأكثر إشكالية، بسبب ما مر ومن مروا عليها عبر آلاف السنين، بعضهم ضيفا خفيف الظل، وبعضهم متسللا، والكثير منهم غازيا حطم أبوابها من دون رحمة. ومع ذلك، فقد أكلوا جميعا وشربوا مما وجدوه في ربوعها، وتركوا خلفهم بعض موروثهم أو بعض ملامحهم على ثقافتها في هذا المجال: يبوسيون وكنعانيون ويهود وأشوريون ورومان ويونان وأوروبيون وعرب وأتراك مسلمون.

غير أن التأثير الأساسي، الذي يمكن ملاحظة ما تبقى منه في الأطباق الفلسطينية اليوم، جاء من ثلاث مجموعات إسلامية، خلال الفترة التي كانت فيها فلسطين جزءا من سورية الكبرى، هي: العرب والفرس والأتراك، من دون أن ننسى تأثير دول الجوار الذي لم يتوقف.

تاريخيا، عرفت فلسطين ثلاثة مطابخ رئيسية: الجليلي (نسبة إلى منطقة الجليل في الشمال) والضفاوي (نسبة إلى الضفة الغربية في الوسط والشرق)، والغزاوي (نسبة إلى غزة على الساحل الجنوبي).

الجليل ذهب إلى المراعي، جمع الخراف مفضلا اللحم جاعلا منه أساسا لطبقه. وهو- أي اللحم- مشترك بين مناطق عديدة في فلسطين وخارجها.

ارتبط ذبح الخراف بالأعياد الدينية وطقوسها، لكنه تجاوز مشهد (التضحية) إلى طقس اجتماعي احتفالي دنيوي تماما، حين ارتبط بمناسبات كالزواج والطهور والولائم التي تقام للضيوف الكبار مثلا.

الضفة (حيث تكثر القرى وتربية الدواجن)، ذهبت إلى أقنان الدجاج وإلى الطابون وخبزه وإلى مزارع الزيتون فيها، وقدمت لنا أكلة المسخن الرائعة، أفضل أطباقها، وأثقلها على المعدة طبعا.

أما غزة، فلم تكن بحاجة إلى الذهاب بعيدا لا إلى الصحراء ولا إلى المراعي لصناعة منسف باللحم والرز، بل تمشت نحو البحر القريب ورمت شباكها في الماء، حيث السمك. قدمت غزة لنا واحدة من أفضل أكلاتها، وهي الصيادية، التي إذا استبدلنا سمكها بالباذنجان واللحم صارت مقلوبة غزاوية.

عرفت السواحل الجنوبية لفلسطين القدرة ذات الطقوس الخاصة (رز ولحم وثوم يوضع في قدر فخاري، ويطمر في حفرة بها جمر لساعات، وتجهز على شواطئ البحر). لكنها عرفت كذلك بقوة في منطقتي القدس وبيت لحم، وظلت شهيرة أيضا في رام الله، وبير زيت من دون حاجة لطمرها.

تربط المؤلفة القدرة بطقوس اجتماعية. وتقول عندما تحضر مأكولات الاحتفال بالزواج يجتمع الرجال لتناول الأكل الذي يقدم في صوان كبيرة من الرز واللحم وتغنى لهم الأغنية التالية:

* خبزنا كافي

وبيتنا دافي

وسيفنا ما شاء الله

كلوا يا أحباب الله

فيه صحة وعوافي

* واليوم تصنع القدرة في قطاع غزة بالطريقة القديمة نفسها، بعد استبدال القدور الفخارية بالحلل والطناجر المعدنية، والجمر بالأفران الحديثة، لكنه ظل فاقدا لنكهة «الجمر والرماد» والفخار أيضا.

أما التأثيرات الأساسية على المطبخ الغزي فجاءت من مصر، حيث أفضل الأطباق الملوخية باللحم أو الدجاج. وطبعا إن لم يدخل الفلفل الحار (ويلفظه الغزازوة فُلفُل) فينبغي أن يكون إلى جانب رغيفك أيا كان الطبق الذي تمد يدك إليه. لا تعرف غزة المسخن الضفاوي، ولا الكبة بأنواعها المعروفة تماما في الجليل القريب من لبنان، والذي يعد مطبخه قريبا من مطبخه.

في تقديمها لكتابها، تقول دبدوب إن وراء وضع هذا الكتاب ثمة دوافع شخصية وأخرى عملية. أولا، أنه وقع ضمن اهتمامي بثقافة الطبخ عموما. وثانيا، أن المطبخ الفلسطيني قدم نوعيا بطريقة فقيرة داخل فلسطين وفي الغرب. وأخيرا، الحاجة إلى مزيد من الغذاء الشرقي الصحي، الذي يستغرق إعداده وقتا أقل، بعد إبعاده عن موقعه التراثي الذي تم تناقله عبر الأجيال، وجعله معاصرا.

ينقسم الكتاب إلى أبواب عدة، تبدأ بأنواع السلاطة والمقبلات، ثم أنواع الشوربة، وأطباق الخضار على أنواعها، وأطباق الرز، والمحاشي، وأطباق اللحم، وأطباق الدجاج، والخبز والمعجنات، والحلوى والمحليات، والمربيات.

يضم الكتاب ما يزيد على مائة وصفة طبخ من السلاطة والشوربة، وطبق الوجبة الواحدة، والأطباق المختلطة، والحلويات، التي تعرض الكثير من التنوع. تغني المؤلفة كتابها ببعض الأهازيج والنوادر والصور الملونة. تكتب كريستيان دبدوب بحميمية، وبكلمات لها نكهة وبخار أطعمتها الشهية. ويعد كتابها إضافة جديدة إلى مطابخ المنطقة.

ولدت كريستيان دبدوب ناصر في بيت لحم عام 1953، وهي حاصل على بكالوريوس لغة إنجليزية من جامعة بيت لحم، وأخرى في الثقافة الفرنسية الحديثة من جامعة باريس. تعيش في بيت لحم وشغلت منصب رئيسة العلاقات في كنيسة بيت لحم، في مشروع بيت لحم 2000.