سيف الرحبي: نصوصي ولدت من رحم جيل مصاب بالانكسار

من قرية «سرور» العمانية إلى عبور قارات العالم

سيف الرحبي
TT

> ماذا بقي من ذكريات الطفولة في قرية «سرور»، وآثار قيد السجن في قلعة سمائل؟

- مع تقادم الأيام والسنوات التي تستحيل من فرط كثافتها إلى دهور، تبهت الكثير من ذكريات الطفولة، رغم أنها الأقوى في غابة الذكريات المتلاحقة، وأكاد أقول ربما تتحول إلى حطام، لكن هذا الحطام وتلك الشظايا المتناثرة في جنبات ذلك المكان الشاسع (سرور) وما حولها لا تفتأ تتجدد وتمد المخيلة والكتابة بذخيرة لا تنضب. أما آثار القيد في قلعة سمائل - وللعلم فإن قرية سرور كانت ضمن ولاية سمائل- فأود أن أشير إلى أن تلك الآثار وذلك القيد الذي كان طفولياً وعلى نحو من براءة، كانا بداية مبكرة جداً لاختبار آلة العقاب التي كبرت مع الأيام واتخذت معاني متعددة على الصعيد الوجودي والسياسي والجغرافي.

> إذا كان «المرء يعيش سنوات عمره كصدى لأيام الطفولة»، كيف انعكست البيئة العمانية التي يتعانق فيها الجبل والبحر والصحراء وأنماط القبيلة وقسوة الحياة على شخصيتك ومن ثم على تجربتك الشعرية؟

- البيئة العمانية بأنماطها الجغرافية والجيولوجية والبشريّة، خاصة الأولى، ظلت مهيمنة بشكل مدهش على رقعة الكتابة والمخيّلة، ظلت لها السطوة الأولى مهما توزعت بنا الجغرافيات والأماكن، بمثلثها المرعب الذي يمكن اختصاره في سلطة الصحراء اللانهائية، إذ إن البحر ليس إلا صحراء من المياه المتلاطمة، سلطة الصحراء أو سلطة المتاه تلك ظل لها الحضور الرمزي والواقعي الأول، وكانت بمثابة اختزال للكون والوجود بأكمله. لقد ظلت مركز تأمل وكتابة ومعين أسئلة لا ينضب.

بهذا المعنى كان اشتغالي عليها وليس بمعنى الأدب البيئي والمسالكي على أهميته. وكتبت أكثر من مرة أن الكائن البشري ليس إلا ظلالاً باهتة عابرة في مرآة تلك الطبيعة العملاقة.

لكني أتسأل دائماً كيف استطاع أولئك الأسلاف الخطيرون تسوية حياتهم في خضمّ تلك القسوة المرعبة، ليؤسسوا الدول والممالك التي وصلت إلى أقصى الشرق الأفريقي؟

> ما الذي علق في ذهن طفل الـ 14 الذي احتضنته القاهرة في ذروة الصراع السياسي والآيديولوجي؟ كيف ليافع تربى على منظومة قناعات يقينية أن يستقبل كل تلك التناقضات؟

- القاهرة كانت المحطة الأولى الأساسيّة، التي هجس فيها ذلك الولد وهو يلج متاهة العالم، باهتزاز منظومة تلك القناعات المتماسكة التي تربى عليها وتوارثها أباً عن جد.

كانت القاهرة محطة الأسئلة الأولى التي ستفضي إلى ما أفضت إليه التجربة الواقعيّة والكتابية. انكسر العمود والخط المستقيم الواضح أيما وضوح لصالح البحث المؤلم والحريّة.

حتى اللحظة وما تراكم من تحولات ظلت القاهرة مركز حنين لا ينضب، فقد عشت فيها قبل أن أعرف دمشق وبيروت وطنجة ووهران. حبل السِّرة يتلألأ بمدُنه مثل منارات خلفها الطوفان.

> قلتَ ذات حوار أن (المجتمع العماني منذ عصور قديمة مجتمع مسكون بيقظة الحرب)، وهذا ما نلاحظه من البيئة العمرانية في عمان، ومن التاريخ البحري العماني، ماذا ترك هذا الحذر على النفسية العمانية والتكوين الثقافي للإنسان هناك؟

- ما ذكرته في هذا السياق كان بالمعنى التاريخي، وضمن مسار شروطه الخاصة، فالمذهب الإباضي الذي حكم عُمان عبر هذا التاريخ الطويل، كان محارباً ومستهدفاً من قبل أكثر من جهة، أبرزها مركز الإمبراطورية العربيّة الإسلامية في دمشق وبغداد الذي يرى في استقلاليّة هذا التصور المذهبي، خروجاً على النص الرئيس وعلى السيادة الإمبراطورية للدولة الكبرى، وحتى ولو كانت عمان عربيّة وفي إطار الاجتهاد الإسلامي لا يغفر لها هذا النزوع الاستقلالي، بل على العكس.

وهناك الحروب العمانيّة الفارسيّة المستمرة، كما أن الاحتراب القبلي كان على أشده، ولا يهدأ إلا حين تُحكم الدولة المركزيّة قبضتها وتوجه كل الطاقات باتجاه واحد.

هذا التاريخ المشحون بالعزلة والعنف لا شك ترك تأثيره في لا شعور العمانيين في الأدب والحياة.

> في ظل ما أسميتَهُ (يقظة الحرب) ركب العمانيون الأوائل البحر ووصلوا أفريقيا، بينما نشهد اليوم شيئاً من الانكفاء وخاصة على الصعيد الثقافي، فبماذا تفسره؟

- فعلا ثمة مفارقة ما في هذا السياق، فأسلاف المغامرة والترحال في أصقاع البر والبحر، تركوا الانكفاء للأحفاد، وكأنما تلك الأفعال البطوليّة شبه الخارقة لا يمكن سدّ فراغها مهما اجتهد أحفاد السلالة..

لكن في منحى آخر، أقصد المنحى الثقافي، لم يدم هذا الانكفاء طويلاً. فبحكم انفتاح العالم على بعضه البعض ووسائطه الاتصالية التي تحتم هذا التواصل الثقافي وغير الثقافي، صار هناك فضاء مقبول للتواصل والتفاعل، وأعتقد أنه بجانب الدور الذي يحاول تأديته بعض الأفراد المبدعين، على المؤسسات أن تدعم وتفعّل ذلك بما تملكه من إمكانات لا تتاح للأفراد.

> هل يستثيرك القول إن سيف الرحبي شاعر (عابر للقارات)، وأنه تجاوز مداه الجغرافي ليصبح ظاهرة شعرية عامة؟ هل يلقي عليك ذلك تبعات؟

- هذ الكلام يتضمن نوعاً من إطراء يسعدني إن صح، كون تجربتي لا تتحرك في إطار مكان محدود، وهي عموماً منذ البداية تنزع إلى هذا الطموح، حياة وكتابةً. لكنها تنزع بالدرجة الأولى إلى محاولة التحقق الإبداعي وإيجاد المعادل القرائي والكتابي في التعبير عن التجربة الحياتيّة المحتدمة بالهواجس والهوام والشتات.

> أنت شاعر مسكون بالرحيل، تارة بمعنى البحث عن الذات، وأخرى بمعنى الرغبة في الانعتاق من أسر المكان.. ماذا أعطاك هذا الرحيل؟ ومتى تظن أنك ستصل؟

- الترحال في بعده الواقعي والرمزي الروحي، وهذا الأخير هو المعوّل عليه أكبر، طبع حياتي وسلوكي وكتابتي بطابعه الخاص والحاسم، ولا أستطيع إجراء تقييم لحصاد هذه الرحلة المأساوية. فالورطة في جوهرها هي ورطة الولادة. وما يعقبها من أفعال، ليست إلا محاولة لتخفيف فجيعة هذه الواقعة الأساس في حياتنا.

> عن ماذا تفتش في قصائدك، نلحظ أنك في حالة بحث وسؤال دائم.. ما هو الجواب الذي يشبع نهم القصيدة لديك؟

- ربما التفتيش عن مناطق جمال مقذوفة دوماً في الهامش المنسيّ وسط هذا المشهد الباذخ للقبح والبشاعة، الذي يسوّق على نحو عالمي..

البحث وعدم الارتهان لليقين النهائي، هو محرك وجودنا، حتى ولو أدى هذا البحث إلى العَدَم واللاجدوى.

> في ديوانك (رجل من الربع الخالي) تجلت فيه وحشة المكان.. هل ما زال التصحر يأكل مساحة الأخضر لديك؟

- وحشة الربع الخالي الراعبة والدمويّة صارت هي بوابة وحشة الوجود للكائن المقذوف في الكون والمصير. الربع الخالي تلك الصحراء الميتافيزيقيّة المهيبة، بعد أن فقدت براءتها الأولى ونقاءها، صارت تربض على الكوكب بأكمله، صارت هي العالم.

> هل تشعر أن نصوصك وُلدت من رحم جيل مصاب بالانكسار؟ أم هي تنتمي إلى جيل يتطلع للتعافي من جراح الماضي وإحباطات الحاضر؟.

- طبعاً، إلى جيل مصاب بجراح الانكسار بمعناه الحضاري والوجودي وليس ثمة من أفق. إنه جيل ارتطامي. وهذا ربما مكمن إبداعه، كونه لم يدخل في نفاق التبشير السياسي والفكري. صارت العبارة الشعرية عارية من أدوات البلاغة التقليدية والسياسية، عارية ومكثفة لتستطيع التعبير عن صحراء هذا العري الدموي.

> ذات مرة وصف الكاتب الألماني فولكر كامينسكي قصائدك بأنها ذات مضمون (كئيب)، وأنك تستحضر (عالمًا مليئًا بالتعاسة والظلم والقسوة)، وتعرض (صوراً تعبّر عن الأَلم، والحرب والدمار والأَذى) ومفرداتك تحتوي (سكاكين تُغرز في أَحشاء، وسفن تغرق، وعواصف وطوفانات) واعتبر ذلك صوراً (مجازية واستعارات تعبّر عن العزلة والوحشة والهجران، بل وحتى عن اليأس وفقدان الأَمل).. إلى أي درجة كان هذا التوصيف دقيقاً، ولصيقاً بتجربتك الأدبية، وباقياً في الوجدان وفي المفردة الشعرية؟

- أرى أن توصيف (فولكركامينسكي) كان دقيقاً عن ما تمور به الكتابة من قفر وخراب.

> أصبحت مجلة (نزوى)، التي ترأسها، المنبر الثقافي الأبرز في عمان.. هل تكفي هذه المجلة للعمل كرافعة وحيدة للمشهد الثقافي هناك؟

- لا تكفي مجلة (نزوى) للتعبير عن الحراك الثقافي في عمان وهو متنوع في قديمه والأفق التطلعي لحديثه. ولا بد أن تكون هناك منابر وأشكال أخرى للتعبير، وهي قائمة، وأخرى ينبغي أن تفعّل وتقوم.

ومع الأسف أن مجلة (نزوى) التي مضى على تأسيسها 14 عاماً لم تحظَ بالاهتمام والتقدير في عمان. أتمنى أن يحصل ذلك سواء كنت فيها أو خارجها.

> أين أصبح الإبداع الأدبي والفني في عُمان؟ لماذا انكفأت التجربة الشعرية والقصصية ولم يبعث بعدُ مسرح حقيقي؟

- لا أعتقد أن التجارب الأدبية في عمان انكفأت وتراجعت على صعيد الإبداع والبحث. نقرأ ذلك في الشعر والسرد بأنواعه وبداية النقد الأكاديمي الذي أفسده المنافقون فترة من الزمن.

بالنسبة للمسرح فهناك محاولات مسرحية فاز بعضها في مهرجانات عربية، كما أن هناك ازدهاراً في التشكيل والتصوير الضوئي. بعض الأسماء فازت بجوائز عالمية مثل بدور الريامي وعبد الرحمن الهنائي وغيرهما.

وعلى أية حال، فليست الجوائز هي المعيار لكنها المؤشر في هذه الحالة. وأتمنى أن تبذل المؤسسات الرسمية جهوداً أكثر سخاءً في رعاية المواهب والإبداعات.