أبو القاسم الشابي.. الناثر المحتجب وراء الشاعر

احتفالات تونسية وعربية بمئوية ميلاده تستمر حتى تاريخ وفاته

أبو القاسم الشابي
TT

بمناسبة مئوية ميلاد الشاعر أبو القاسم الشابي، التي صادفت يوم الرابع والعشرين من الشهر الماضي، تنظم تونس احتفاليات ضخمة في واحة توزر مسقط رأسه. وانطلقت الاحتفالات بتدشين معرض وإقامة أمسية شعرية وستستمر نحو ثمانية أشهر لتختتم في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) تاريخ وفاته. وكذلك يحتفي مهرجان دبي الدولي للشعر في دورته الحالية التي تفتتح غدا، بالذكرى المئوية لميلاد شاعر الإرادة العربية أبو القاسم الشابي صاحب البيت الأكثر شهرة في الشعر الوطني والانتصار للحياة: إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر

يشكل الاحتفال بمرور مائة عام على ذكرى ميلاد شاعر تونس الأكثر شهرة أبي القاسم الشابي ( 24 فبراير 1909 - 9 أكتوبر 1934) حدثا ثقافيا استثنائيا، تجندت له وزارة الثقافة والمحافظة على التراث التونسية، لوضع البرنامج الاحتفالي الذي يليق بشاعر في حجم الأثر الذي خلفه الشابي.

وتضمن البرنامج، الذي وضعته لجنة مختارة من شعراء ونقاد تونسيين، مجموعة من الفقرات الهامة التي تجمع بين كثافة الأماسي والحلقات النقدية وإصدار كتب وتنظيم ندوة نقدية كبرى. دون أن ننسى أن معرض تونس الدولي للكتاب، نظم من جهته معرضا وثائقيا ضخما يروي سيرة الشابي شاعرا وإنسانا، كما تجري الاستعدادات حثيثة بالنسبة إلى عدد المنتجين والمبدعين، حيث هناك من هو منشغل بإعداد شريط وثائقي وآخر بصدد تلحين إحدى قصائده ومجموعة مسرحية منهمكة في إعداد عمل يقارب الشابي مقاربة طريفة تضعه في سياقه الزمني والثقافي والتاريخي.

وكما هو معروف، فإن الشابي لم يعش طويلا (25 سنة فقط) وقد توفاه الأجل وهو في عز الشباب بعد معاناة صعبة وطويلة مع المرض زادت في حدتها رهافة حسه. وينتمي الشابي إلى عائلة علم وجاه، درس في جامعة الزيتونة وكرس حياته للشعر وللنقد وللكتابة المختلفة والصادمة، وقد نشر قصائده حتى خارج تونس وذلك في مجلة «أبولو» المصرية التي لفتت له انتباه القراء في المشرق. استطاع أبو القاسم الشابي رغم عمره الشعري القصير الذي لا يتجاوز فعليا السبع سنوات، من أن يضمن الخلود من خلال عمق الأثر الذي تركه في المدونة الشعرية التونسية والعربية والعالمية بشكل عام وذلك باعتبار أن المبدع الحقيقي ملك للإنسانية جمعاء.

أبو القاسم الشابي، شاعر تونس الكبير ورمزها الأكثر شهرة بين أدباء تونس الكثيرين، قد أسال حبر كثير من النقاد الذين أجمعوا على فرادة تجربته وتميز موهبته وإن اختلف بعضهم في تقدير حجم الموهبة ومداها.

لقد تأثر أبو القاسم الشابي بالمدرسة الرومانطقية التي أسسها أدباء المهجر وخصوصا تجربة جبران خليل جبران. لذلك اعتبر من المجددين في الشعر الكلاسيكي على المستوى الفني، في حين أن مضامينه توزعت بين النضال شعرا في خدمة الوطن وضد المستعمر وبين التأمل المغرق في كنه الوجود والكون والحياة والموت والإنسان والحب والمرأة والشعر. فقد جمع شعره بين الالتزام والرومانطقية والوجودية وكلها أبعاد شديدة الالتصاق بحياة الشاعر وبتجاربه المريرة من المرض والموت والفراق وغطرسة المستعمر، وأيضا بتعلقه بالمقابل بالحياة وبحب الطبيعة.

إن ديوان «أغاني الحياة» الذي نُشر بعد أكثر من عشرين سنة من وفاة صاحبه أبي القاسم الشابي أي في عام 1955، يغلب عليه الصدق الفني وثراء المضامين، وفيه مارس الشاعر المفهوم الذي تبناه للشعر إذ يقول نثرا في هذا الصدد: «الشعر ما تسمعه وتبصره في ضجة الريح وهدير البحار وفي بسمة الوردة الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرفرف حواليها الفراش، وفي النغمة المفردة يرسلها الطائر في الفضاء الفسيح». أما الشعراء فيصفهم على النحو التالي: «أولئك الموهوبون الذين يسبقون عصورهم فيغنون أشهى أغاني الجمال وأعذب أناشيد القلب البشري لأجيال لم تخلق بعد. وهم أولئك الذين لا يصورون عادات العصر المتغيرة المتحولة، بل عادات الحياة الخالدة على الدهر، ولا يصفون أحاديث الوعاظ والمتكلمين والمتفلسفين بل أحاديث نفس الإنسان التائهة في بيداء الزمان، ولا يعلنون أسرار القصور والمجالس، بل أسرار الأزل والأبد». إن النظرة السامية في مقاربة وظيفة الشعر وصورة الشاعر الحق، قد انسحبت أيضا على نظرة الشاعر للمرأة، تلك التي عبر عنها بوضوح شديد في قصيدته «هيكل الحب» حيث يصف فيها المرأة بأنها روح الربيع وفجر السحر وأنشودة الأناشيد وابنة النور. لقد عكست قصائد ديوان «أغاني الحياة» الموهبة الفذة والزخم الداخلي الغزير للشاعر أبي القاسم الشابي، وأظهرت في نفس الوقت ما كانت ستتفتق به موهبته لو لم ينهش المرض جسد شاعرها ويسلمه للموت مبكرا.

إلى جانب المدونة الشعرية الخالدة التي تركها أبو القاسم الشابي، فإن مدونته النثرية أيضا التي تضم المحاضرات وأشهرها محاضرته حول «الخيال الشعري عند العرب»، ومقالاته، تتوفر أيضا على مذكّرات تجمع بين القيمة الذاتية والموضوعية، بل إنها مرآة تعكس الحياة الثقافية والأدبية في فترة الثلاثينات من القرن الماضي وتكشف عن معاناة الشاعر الصعبة مع الموت ومع محيطه وواقعه الفكري بشكل عام.

وتشتمل «مذكّرات الشابي» على 22 مذكرة، تم تسجيلها على امتداد 37 يوما وذلك بشكل غير مواظب من تاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1930 إلى 6 فبراير (شباط) من نفس السنة.

وكعادة شعره، كان الشابي في مذكراته في منتهى الصدق والشفافية يطلق العنان لنزعته الرومانسية والمثالية الجامحة، الشيء الذي جعل المذكّرات بالإضافة إلى قيمتها الوثائقية لما تتضمنه من أخبار ثقافية وفكرية، ذات درجة عالية من الحميمية ومن البوح ومن الصراحة، حيث لم يتوان عن فضح الثقافة التقليدية، ولم يتأخر في إماطة اللثام عن سلبيات محيطه كافة، بما فيها معاركه الفكرية ضد الانغلاق ورفض الاجتهاد والتجديد. وقد دوّن في إحدى المذكّرات مشاحنة لفظية على النحو التالي: «وقد تعمدت إهاجته فأخذت أفند كل رأي يقوله وكل كلمة يلفظها حتى غضب غضبا أصبح معه لا يبين كلاما ثم حلف على أن لا يجادلنا بعدها، ويتناول كتابا يتشاغل به عنا فنأبى إلا الإغراق في النقد فلا يستطيع سكوتا فتثور ثائرته ويرمينا ببعض الكلمات ثم يأخذ في الاعتذار عنها. وقد استحالت قلوبنا عليه حديدا لا تشفق ولا ترحم. فدخلنا في مواضيع أخرى كلها نقد وشدة ومن بينها مسألة الزوايا و(البندير) فقد تشدّدنا في هذه المسألة وهجمنا عليها هجوما عنيفا ثم خرجنا وتركناه يغلي كالمرجل» (أبو القاسم الشابي، المذكرات، تونس، الدار التونسية للنشر، 1966، ص 86)

وقد تعمق كثير من النقاد في مضامين «مذكّرات الشابي» وقيمتها الأدبية والوثائقية، ونذكر منهم محمد صالح بن عمر الذي أقرّ في بحث له بتعدد أنماط الخطاب في نصوص المذكّرات والمتمثلة في توفر كل من السردي والشعري والحجاجي (كتاب «إطلالات على المشهد الحكائي في تونس» للباحث الناقد محمد صالح بن عمر، تونس، 2007، ص 9) ويغلب على نصوص المذكّرات تصوير الشاعر لحالته المتأزمة ولتأصل الشعور بالحزن في داخله وذلك لأسباب متعددة لعل أكثرها وجعا عند الشابي فقدانه لحبيبته وهو في الثامنة عشر من عمره وموت والده الذي ضاعف من معاناته وجعله فريسة سهلة للمرض وللموت المبكر. لذلك فقد أطلق الشابي في المذكّرات العنان للبوح المباشر والواضح، من ذلك يقول في مذكرة يوم 14 يناير (كانون الثاني) 1930: «أشعر اليوم بفتور في بدني وبتوعك في مزاجي ولا أدري مأتاه وأحس بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي وتجعلني أكره الكتب والأسفار والمحابر والأقلام». ويمعن في مذكّرة أخرى في إبراز شعوره العميق بالغربة الوجودية والاجتماعية: «أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود وأنني ما أزداد يوما في العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة، غربة من يطوف مجاهل الأرض ويجوب أقاصي المجهول ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا».

إن «مذكّرات الشابي» تستمد ثراءها من ثراء الزخم الداخلي للشاعر أبي القاسم الشابي، لذلك فهي تؤثر في المتأمل فيها وتجعله يقترب أكثر من أغوار الشاعر التي تجمع بين الحساسية العالية والفكر الثوري الحازم. بل إنها تكشف عن قوة إحساس الشابي بالمسؤولية إزاء شعبه إذ لم يترك الأحزان تخرس قلمه ولم يستسلم لسلبية الموت، فكان شاعرا في القصيدة وفي الحياة كما أولى بالشاعر الحق أن يكون. ولعل أهم ما يميز تجربة الشابي تكريسها لقيم الحداثة من خلال المناداة بالحرية ونبذه التقليد والجمود. ومن مواقفه المشهودة له التي تدل على صدقه الشعري أنه كان رافضا للمديح وحتى الرثاء لمن يوصفون بعلية القوم، ولم يرث في حياته أحدا باستثناء والده الذي شكل أحد أهم منابع حزنه وشجنه المزمن.

والسؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل قارئ لشعر الشابي هو ماذا كان يمكن أن يبدع لو أن المرض تركه يعيش سنوات أكثر؟