أميركيون يسألون: لماذا يفشل العرب في فصل الفن عن السياسة؟

بعد المهرجان العربي الكبير في واشنطن

مشهد من مسرحية «قصص تحت الاحتلال»
TT

السؤال الكبير الذي أثاره الأميركيون بمناسبة المهرجان الثقافي العربي الأكبر من نوعه في تاريخ أميركا الذي أحياه مؤخرا «مركز كنيدي للفنون التمثيلية»، هو: لماذا لا يفصل العرب بين الفن والسياسة؟ لم يكن سراً أن هذا النقاش ما كان سيثار لولا مسرحية «حي من فلسطين: قصص تحت الاحتلال» التي عرضت خلال المهرجان، ولم يكن سراً أن غالبية الذين اعترضوا على المسرحية هم من اليهود. أما النتيجة فهي حوار طرشان شهدته واشنطن طوال الأسابيع الماضية.

انتهى مؤخرا، المهرجان الثقافي العربي في واشنطن بعد أن استمر ثلاثة أسابيع، وقدم عشرات الأعمال الفنية العربية، بحيث وصل عدد الفنانين المشاركين إلى 800 فنان، ينتمون إلى البلدان العربية المختلفة. كتبت الصحف الأميركية بشكل عام، تقارير إيجابية عن المهرجان، وخصصت له جريدة «واشنطن بوست» غلاف ملحقها الأسبوعي الثقافي. وقدمت قنوات تلفزيونية لقطات من المسرحيات والرقص والمعارض. لكن، أثارت مسرحية «حي من فلسطين: قصص تحت الاحتلال» أكثر الاهتمام والضجيج.

من جانب آخر، دافع عن المسرحية، وعن كل المهرجان، المسؤولون في مركز كنيدي. وقال مايكل كايسر، رئيس المركز «ان الإعداد للمهرجان بدأ قبل خمس سنوات. وان للموضوع صلة بالعداء بين العرب وأميركا بسبب هجوم 11 سبتمبر وحروب الرئيس بوش. وكان هناك خوف من أن الفنانين العرب سيرفضون الحضور إلى أميركا، أو أن المسؤولين الأميركيين، سيمنعون مجيء بعض المشتركين. وأضاف: «سعدنا لأن العرب يفرقون بين الشعب الأميركي وسياسة الرئيس بوش». وقال إن مركز كنيدي غير سياسي، رغم أن في مجلس إدارته شخصيات مثل كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة. وقال إنهم لم يشاوروها، أو أي عضو في مجلس الإدارة، في ما سيعرض وما لن يعرض.

لاحظت جاكلين مارتن، صحافية من وكالة «اسوشييتد برس»، ان الأميركيين اهتموا أكثر ما اهتموا بمسرحية «حي من فلسطين: قصص تحت الاحتلال»، لم تكتب الصحافية عن تفاصيل النقاش، ولم تشر إلى معارضة بعض اليهود للمسرحية، لكنها استعملت وصفا أميركيا تقليديا، وهو أن المسرحية كانت «كونتروفيرشيال» (مثيرة للنقاش). لكن، انتقد المسرحية الصحافي نيلسون بريسلي، في جريدة «واشنطن بوست». وقال: «لم تكن مسرحية مرحة لأن الحرب اختلطت بالنكات، حتى خلال حديث ضاحك في مدرسة فلسطينية بين أستاذ وتلاميذه، استعملوا كلمات مثل: (مدفعية) و(دبابة)، وحولوا المسرح ساحة حرب بالكلمات، بدون قنابل وصواريخ». وأضاف: «أنه عمل فكاهي لا يريد أن يضحك المشاهدين، ولكن أن ينتصر عليهم».

لكن جورج إبراهيم، مدير فرقة «القصبة» التي قدمت المسرحية، قال إن المسرحية لم تقدر على إهمال حقيقة واضحة، وهي احتلال إسرائيل للضفة وغزة، بل ان فرقة «القصبة» تأسست قبل تسع سنوات بعد أن دمرت طائرات إسرائيلية مكتب شرطة رام الله، وبدأ فنانون يقفون فوق الحطام ويمثلون، وشعراء ينشدون قصائد ضد الاحتلال، وأدباء يتناقشون. «وبعد أسابيع، قررنا ان نجمع كل هذه النشاطات في فرقة فنية هي فرقة القصبة». لم تقدر اليشيا آدامز، نائبة رئيس مركز كنيدي للبرامج العالمية، على الدفاع دفاعا مباشرا عن ما قاله إبراهيم. لكنها قالت: «هذه قصص حقيقية، ليست تحليلا سياسيا، أو عرضا تاريخيا. هذه قصص عن أناس عاديين. نحن، في مركز كنيدي لا نقدم عروضا سياسية».

لكن الصحافي بريسلي اعتبر المسرحية «غير متوازنة»، لأنها لم تقدم «وجهة النظر الأخرى». وربما يقصد أن يقف ممثل إسرائيلي وسط الفرقة ويهاجم الإرهاب. بل ان الصحافي بريسلي سأل رئيس الفرقة، إذا كان سيعرضها في إسرائيل، واستغرب إبراهيم السؤال. كما لا بد أن يستغرب إبراهيم إذا عرف أن الصحافي كتب عنه «انه فلسطيني مسيحي، وليس مسلما». فهل قصد انه اقل عنفا لأنه مسيحي ومن المستبعد أن تربطه صلة بمنظمة إرهابية؟ كرر إبراهيم في مقابلة مع جين لويس، لـ«واشنطن تايمز»، «ان المسرحية ليست سياسية». لكن، يبدو ان هذا كان مثل حوار الطرشان.

فمن جانب، يقول العرب إنها ليست سياسية لأنها لا تهاجم إسرائيل، وإنما تصف أوضاع عرب تحت الاحتلال. ومن جانب آخر يقول أميركيون إنها سياسية لأن مجرد نقد الاحتلال الإسرائيلي سياسة. ولا بد من فصل الفن عن السياسة. قال عرب مؤيدون: لا يجب أن يكون الفن من أجل الفن، بل ان يخدم قضية. وقال أميركيون معارضون: يجب أن يكون الفن من أجل الفن، لا من أجل السياسة. وما دام فيه سياسة، لا بد من عرض وجهة النظر الأخرى.

وكرر إبراهيم لكل صحافي أميركي قابله: «تحاشينا السياسة عمداً». لكن، طبعا، حتى اسم المسرحية سياسي: «قصص تحت الاحتلال». لهذا، ربما عاد جورج إبراهيم من أميركا أكثر حيرة عندما عرف أن أي إشارة إلى الاحتلال هي سياسة في نظر الأميركيين.

بسبب النقد الذي بدأ بعضه قبل عرض المسرحية، قرر كايسر، رئيس مركز كنيدي، بعد نهاية العرض، أن يتجمع الممثلون، ليسألهم المشاهدون عما يريدون.

طبعا، كانت أغلبية الأسئلة عن «غياب وجهة النظر الإسرائيلية». استغرب الممثلون، وتذمروا، وهتف واحد منهم: «يسقط الاحتلال». وزاد هذا الطين بلة. وقال مشاهد أميركي: «حتى إذا لم تكن المسرحية سياسية، صارت الآن».

وأجرى الصحافي بيتر ماركز من جريدة «واشنطن بوست» مقابلة مع جورج إبراهيم، وسأله: «لماذا سميتم الفرقة القصبة؟» وضع إبراهيم إصبعه على قصبته الهوائية وقال: «هذه قصبة التنفس»، وقصد أن الفرقة تنفث آلام الفلسطينيين. لكن، بدا وكأن اسم الفرقة نفسه «سياسيا». ولم ينس الصحافي أن يشير إلى أن جورج إبراهيم مسيحي. وان لغته الانجليزية «مكسرة»، وكأنه يريد أن يقلل من قيمته وقيمة عمله.

لم يكن إبراهيم يعرف كل هذه التعقيدات. وبشيء من السذاجة كرر للصحافي ما قال لصحافيين آخرين: «جئنا إلى أميركا نحمل رسالة، لا نريد أن نكون مجرد خبر في نشرة المساء. نحن أناس مثلكم، نحس ونفرح ونحزن. نريد منكم أن تشاهدوا الجانب الآخر، أنتم معتادون على جانب واحد».

وقال لمراسلة «اسوشييتد برس»: «لا نريد أن نكون أرقاما من قتلى وجرحى. نحن فنانون. نقول للأميركيين: لا تنظروا فقط للسياسة، انظروا إلى ثقافتنا».

لكن، كان إبراهيم مثل الذي يصرخ في وادٍ. لأن صحافي «واشنطن بوست» كتب معلقا: «تكلم إبراهيم بغضب عن ظلم الاحتلال، ومع ذلك قال إن المسرحية ليست سياسية».

صحافية «واشنطن تايمز» سألت إبراهيم: «ألا تخلط المسرحية بين الأخبار والدعاية؟» أجابها: «هذه ليست دعاية، هذه حقيقة». وسألت الصحافية نفس السؤال لكايسر، رئيس مركز كنيدي، وكأنها تجرمه. فأجاب وكأنه يعتذر: «نعم، في المسرحية أشياء حساسة، ربما تغضب بعض الناس. لهذا، بعد المسرحية، أشركنا الجمهور»، وأضاف: «صحيح، جزء من ثقافة العرب سياسي أكثر مما يجب».

سبب حوار الطرشان هذا هو اختلاف أساسي، ليس فقط بين الثقافة الأميركية والعربية، ولكن، أيضا، بين طريقتين في التفكير.

يفكر الأميركيون بعقلانية مبالغ فيها أحيانا، يريدون: المساواة في الفرص، وفي الرأي، وفي الأخذ والرد، وفي الرأي والرأي الآخر. و«ليف اند ليت ليف» (عش، ودع غيرك يعيش). لكنهم يفعلون ذلك لأنهم يستمتعون بالحرية. وينسون أن هناك شعوبا ليست حرة، ولا تعرف سوى رأيين: حرية؟ أو ظلم؟ وتريد الأولى، وتحارب الثانية. لكن مجرد كلمة «حرب» أو «قتل» تنفّر الأميركيين. لهذا، فإن التحدي الذي واجه جورج إبراهيم هو: كيف يقنع المترفين أن يفكروا مثل المتألمين والبائسين؟

يهود أميركا حالة مختلفة. هؤلاء يعيشون في مجتمع عقلاني، لكنهم يركزون على عواطفهم: على «محرقة» هتلر، وعلى «عداء السامية»، وعلى «إرهاب العرب». يخافون، ويريدون من الأميركيين أن يخافوا مثلهم. لكن، بالنسبة لغالبية الأميركيين يصح القول إنهم أولا، يحاولون تحاشي العواطف، وخاصة الغضب والخوف والحزن.

ثانيا، يقولون إنه، في ظل الفردية، يحدد الشخص سبب غضبه أو خوفه.

أي أن اليهودي هو الذي يقول: «هذه المسرحية تخيفني»، أيضا، يقدر الأسود أن يقول إن شخصا يرتدي ملابس «كوكلاكس كلان» يخيفه، أو أن من يستعمل كلمة «نيغر» (عبد) يحتقره. في الحقيقة، وصل الموضوع إلى المحكمة العليا، التي تفسر الدستور، وقالت، نعم، لا يعرف الخوف إلا صاحبه.

لهذا، ظهرت في الإعلام الأميركي أوصاف مثل: «كونتروفيرشال» (مثير للنقاش) و«سينسيتيف» (حساس)، و« تيب تو» (المشي على أصابع القدمين) لوصف الأشياء الحساسة. وعن مسرحية «قصص تحت الاحتلال» انتقل النقاش إلى دور السياسة في الفن، ودور الفن في السياسة. وطبعا، ليس هذا النقاش جديدا. فمنذ أكثر من مائة سنة، ظهر الفن الاشتراكي، والشيوعي، والنازي (الذي يعظم الدم الآري). وقبل وبعد ذلك، يظل الفن يعبر عن قضايا الظلم والجوع والفساد والاستبداد والاستعمار (تعتبر رسوم وتماثيل المسيح جزءا هاما في العقيدة المسيحية).

وعن المهرجان، قال رئيس مركز كيندي: «نحن سعداء لأنه أعطى الشعب الأميركي فرصة لينظر إلى جانب من الثقافة العربية نظرة جادة». وحكى أساس فكرة المهرجان، وقال إنه كان في سورية، وشاهد فرقة من 120 طفلا. وأضاف: «ينظر الأميركيون إلى سورية نظرة سياسية سلبية. قلت ربما إذا نظروا إليهم نظرة ثقافية، ستكون إيجابية». وأضاف: «عندما يرى الأميركيون هذه الوجوه البريئة الجميلة تغني، لا يمكن أن ينظروا إليهم كأشرار».

كايسر يعترف بأن نظرة الأميركيين إلى العرب نظرة سياسية، وان الهدف من المهرجان استبدالها بنظرة أخرى، لكن يبدو أن المسألة لم تكن بسيطة. فالأميركيون توقعوا من العرب فنا خالصا أو فنا للفن، وهذا ليس سهلا على شعوب شغلها الشاغل هو التعبير عن الظلم والقهر الواقعين عليها.