سمعة القرى على محك الأدب

محاكمة الأدباء بتهمة المساس بالمناطق والمدن

TT

روائي مصري مغمور، لا يزال على مقاعد الدراسة، تمت محاكمته مؤخرا بتهمة الإساءة إلى سمعة قريته. الطالب الأزهري كتب رواية عنوانها «لصوص العاصمة وشرفاء الجنازة»، أثارت غضبا وصل إلى المحاكم، وأدخلت صاحبها السجن. وهذه ليست المرة الأولى التي تغضب فيها قرية أو يعترض حيّ، وربما ثارت مدينة عربية لأن أديبا كتب عنها ما لا يروق أهلها. فهل دخلت الأماكن في حيز المحرمات هي الأخرى؟ وقريبا نرى العمارات والمدارس والمقاهي، وربما الجامعات، تقتص من كل أديب قد ينال من سمعتها! وما الذي سيتبقى للأديب كي يكتب عنه حين تصبح الأماكن تابوهات بعد أن حوصر بمحرمات لا عدّ لها ولا حصر؟

قد تكون الكتابة عبئا، وقد تكون تهمة، وبالتأكيد هي قادرة على أن تجلب لصاحبها لعنة تصاحبه ما دام لم يقلع عن التدوين! لكنها في مجتمعاتنا العربية تتخطى كل ذلك لتتحول أحيانا إلى تهمة، تجلب لصاحبها الرقباء وقد تقوده إلى السجن. النماذج عديدة وحاضرة في الأذهان، والتهم جاهزة دائما، غير أن أكثرها سخفا هي تهمة: «الإساءة إلى سمعة الوطن». هذه العبارة المهترئة التي تتعامل مع الوطن على أنه كيان هش لا يحتمل حتى مفعول الكلام. ورغم أن الكلمات في منطقتنا العربية لا حول لها ولا قوة، فإن البعض - في هذه الحالة بالذات - يفترض أن لها قوة تفوق رسوخ مفهوم الوطن لدرجة أنها تستطيع النيل منه. إنها مفارقة كان يمكن أن يستمر الحديث عنها طويلا، لولا أنها ولدت مفارقات أخرى أكثر قدرة على ضخ السخرية! فقد تعدى البعض التهمة السابقة إلى أخرى بالغة الغرابة، إنها تهمة الإساءة إلى القرية!

الأمر ليس نكتة، فقد كانت التهمة السابقة محورا لخبر مقتضب نشرته جريدة «الأخبار» القاهرية قبل أيام، وأكدت فيه التالي: «أمرت نيابة حوش عيسى بحبس طالب بجامعة الأزهر، اتهمه سكان قريته بالإساءة إليهم والتشهير بهم من خلال رواية أدبية قام بتأليفها ونشرها». وكان مأمور المركز - التابع لمحافظة البحيرة، شمال مصر - قد تلقى بحسب الخبر: «بلاغا من عدد من أهالي قرية أبو الشقاق، اتهموا فيه طالبا بجامعة الأزهر بتأليف ونشر رواية بعنوان (لصوص العاصمة وشرفاء الجنازة) تسيء إلى سمعتهم».

تم نشر الخبر في مساحة منزوية، وهو ما يعتبر تقييما ضمنيا لمحتواه. هذا المحتوى الذي تاه وسط حوادث أخرى أكثر ارتباطا بالناس مثل: «المؤبد لعضو مجلس الشعب السابق قاتل المحامي»، «حبس مفتش ضرائب ملاهي بالقاهرة طلب رشوة من صاحب محل كمبيوتر»، «طلق زوجته.. فقتله ابنه»، «سرقة 6 أطنان بصل بالإكراه»!! خبر الرواية المتهمة بالإساءة لسمعة القرية شغل مساحة مقاربة لخبر سرقة أطنان البصل، ربما لوجود ارتباط بينهما، فكلاهما غذاء للعقول أو البطون، بينما كانت أخبار القتل أكبر لأن استلاب الأرواح أهم من اغتيال الكلمات، خصوصا إذا كانت لكاتب مبتدئ قد تكون كتابته غير صالحة للنشر من الأساس.

عندما عرضنا الأمر على الروائي يوسف القعيد بدا غير مصدق. أكدنا له أن الخبر صحيح، فقد نشرته صحيفة قومية وأوردت أسماء الضباط الذين تعاملوا مع هذه القضية بحسم (!) حفاظا على سمعة القرية. هنا علق القعيد بجملة مختزلة ودالة: «إنها كارثة!». المفارقة أن الحديث مع القعيد أفرز مفاجأة حقيقية، فالروائي الذي لم يكن قادرا على استيعاب الخبر في البداية على اعتبار أنه غير قابل للتصديق، سبق أن تعرض لموقف مشابه بعد نشر روايته «وجع البعاد»، ويروي القعيد ما حدث قائلا: «تدور أحداث روايتي في عزبة العتقاء التابعة لقريتي الضهرية (تنتمي بدورها إلى محافظة البحيرة). كنت أنشر الرواية مسلسلة في جريدة (الأهرام)، وفوجئت بعدد من أهالي العزبة يرفعون دعوى قضائية ضد رئيس تحرير (الأهرام) وضدي لأنهم رأوا أن العمل يسيء إليهم ويشوه صورتهم، ويظهرهم بصورة شديدة البؤس رغم أنهم ليسوا كذلك».

غير أن حظ القعيد كان أفضل من حظ صاحب رواية «لصوص العاصمة وشرفاء الجنازة» لعدة أسباب، فإضافة إلى كون القعيد كاتبا معروفا، يصعب التعامل معه بنفس طريقة التعامل مع كاتب مبتدئ، فقد كان أيامها في بؤرة الضوء القاهرية، بينما الشاب الأزهري يقيم في نقطة «تقع شمال السماء» - بحسب تعبير القعيد، الذي يرى أنها منطقة نائية - لن يشعر بها أحد، وبالتالي لن يهتم كثيرون بتفاصيل ما يجري فيها. غير أن السبب الحقيقي لعدم اكتمال الدعوى ضد القعيد كان خارجا عن نطاق كل ما سبق. يوضح القعيد: «أقيمت الدعوى ضدي وضد رئيس تحرير (الأهرام)، ونسي المحامى الذي رفع الدعوى أن لرئيس التحرير حصانة بسبب عضويته في مجلس الشورى، فلم يقم بإجراءات رفع الحصانة مما أسقط القضية كلها»! ويرى القعيد أن كل ما يحدث هو بسبب نشوء قوى في المجتمع أصبحت تمارس رقابتها الخاصة على كل شيء، وحتى على الكتّاب المبتدئين والمغمورين.

عنوان الرواية التي كتبها الطالب مضحك حسبما يرى يوسف القعيد. نشير إلى أنها لن تكون غالبا عملا عظيما، فيعلق: «الأمر يستحق النظر، ويبدو أن الكاتب مارس فعل الانتقام من قريته عبر كتابة رواية، وهو أسلوب جديد في الانتقام، كما أن أهالي القرية لم يمارسوا الرقابة التقليدية، بل لجأوا إلى الشرطة والنيابة. الموضوع كله يحتاج، حقا، إلى وقفة». وأكد القعيد أنه سيجري اتصالاته ليعرف ما حدث، ووعدنا بإطلاعنا على التطورات.

الأمر يبدو أشبه بمشهد عبثي يحتمل تنويعات فانتازية، فتعداد سكان القرية، في كل الأحوال، لا بد أنه أضعاف عدد سكان «زقاق المدق». هذا الزقاق الذي لا يمكن أن يكون سكانه قد تجاوزوا المائة وقت كتابة نجيب محفوظ لروايته التي حملت اسمه. صاغ محفوظ شخوصه، وكان من بينها الفتاة التي انتهت إلى امتهان العهر، وصاحب القهوة الشاذ جنسيا، وصانع العاهات، وغيرهم من نماذج كانت تكفي لرفع عدة قضايا تتهمه بأنه شوه سمعة الزقاق! الأمر نفسه ينطبق على كل المبدعين الذين ارتبطت كتاباتهم بأماكن بعينها، علاء الأسواني مثلا الذي فوجئ بأنه متهم بتشويه سمعة مبنى بعد نشر روايته «عمارة يعقوبيان»، وهكذا سنجد كاتبا متهما بتشويه حي بولاق، وآخر متهما بتشويه سمعة الإسكندرية!!

غير أن هناك كتّابا محظوظين، فعبر ست روايات كتبها عن القرية لم ترفع أي قضية ضد الروائي أحمد الشيخ. يبرر الشيخ ذلك قائلا: «يجب أن يكون وعي الكاتب الاجتماعي راقيا، بحيث يتجاوز الأشخاص إلى الوقائع دون أن يقوم بالتشهير بالبشر. نحن نكتب عن الحراك الاجتماعي، مثلما فعلت في رواية (الناس في كفر عسكر). كنت أرى أن المكان ليس محصورا في حدود هذه القرية فقط، بل إنه تعبير عن مصر كلها، فأنا أرى أن الريف هو امتداد حقيقي للحضارة الفرعونية التي بدأت قبل حكاية الفلاح الفصيح بقليل».

نعود إلى موضوع سمعة المكان، فيعلق أحمد الشيخ: «الأديب يكتب عن عالم له تفاصيله الخاصة،، فإذا كان الكاتب يتعمد الإساءة لأحد فهذا ليس إنسانيا على الإطلاق. ربما يستلهم الأديب شخصية ويضيف أو يحذف من واقعها ما يفيدها على المستوى الإبداعي، أما إذا كان الكاتب يقصد الإساءة فإن الأمر يستحق وقفة تجاهه في هذه الحالة». ويرجح أن الكاتب المبتدئ الذي تسبب في فتح هذا الموضوع لم يراعِ كل هذه المحددات في كتابته.

ينتمي الكاتب أحمد الشيخ إلى مركز تلا بمحافظة المنوفية (شمال مصر)، لكن رواياته التي تتناول الريف لم تتحدث عن هذا المكان، بل انطلقت إلى عوالم أخرى أشهرها كفر عسكر. هل هو نوع من الهروب لكي لا يفاجأ ذات يوم بأنه مواجه بتهمة تشويه سمعة (تلا)؟ سؤال يرد عليه ضاحكا: «بالتأكيد لم يكن هذا قصدي. كل ما في الأمر أن اسم القرية أعجبني رغم أنني لم أزُرها في حياتي، مع أنها مجاورة لقريتي. وبعد نشر العمل وتحويله إلى مسلسل تلفزيوني فوجئت بأن هناك نحو عشر قرى في مصر تحمل الاسم نفسه». تعدد القرى التي تحمل الاسم نفسه رفع احتمالات الملاحقات القضائية، والمفارقة تلوح في الأفق من جديد. ماذا لو اعتبرت كل قرية أنها المقصودة وسعت لرد اعتبارها قانونيا؟ نسأل فيجيب أحمد الشيخ: «الأمر لم يصل إلى هذه الدرجة. كل ما في الأمر أنه عند إذاعة المسلسل اتجه برنامج تلفزيوني إلى القرية، وسأل المذيع بعض سكانها عن العلاقة بين المسلسل والواقع، ورد الكثيرون بأنهم لم يشاهدوا هذه الشخصيات في الواقع».

قبل سنوات فوجئ الفنان عادل إمام برفع دعوى قضائية ضده من أهالي إحدى قرى البحيرة (أيضا)، وهي حكاية يتذكرها يوسف القعيد ويرويها: «كان عادل إمام قد تحدث عن قرية اسمها خربتا في أحد أعماله، وفوجئ بعدها بدعوى قضائية من سكان قرية خربتا، لكنهم خسروا الدعوى لأن عادل إمام لم يذكر إلا اسمها دون أن يسيء إلى أحد». هل هي حساسية مبالغ فيها؟ أم مغامرات فردية لبعض مستخدمي مصطلح سمعة المكان في تحقيق منافع شخصية؟ هل هي الرغبة في تقليص دور الكلمة المحدود من الأساس؟ وإذا كان الأمر قد تجاوز التابوهات الثلاثة المعروفة ووصل إلى حد أن تصنع كل مجموعة تابوهاتها الخاصة، فهل يصلح هذا المناخ للإبداع الأدبي؟ أم أن كل كاتب ينبغي أن ينتبه في كتاباته القـــادمة، لكي لا يجد نفسه متهما - ذات مرة - بالإساءة إلى سمعة المقهى المجاور لمنزله؟!!