جواد بولس وكيل ميراث الفقيد: لا تمسوا محمود درويش في مماته

يفند أسباب الخلاف حول القصائد التي عثر عليها

TT

الألم يعتصر قلب جواد بولس، أحد أقرب أصدقاء محمود درويش، بسبب الكلام المنشور بشكل مكثف، عن وجود «خلافات» حول جمع وطباعة قصائده التي تركها وراءه. «أشعر بطعنة»، يقول، ويحاول في لقاء، خصّ به «الشرق الأوسط» في الناصرة، أن يوضح الحقائق ويرجو أن يتم اعتمادها، حتى لا يساء للشاعر الكبير بعد مماته. ويقول إن نشر الادعاءات المتضاربة، أثار الأسى والأسف لدى عائلة محمود درويش وأصدقائه المقربين. جواد بولس، هو المحامي الذي تولى الدفاع عن أسرى الحرية الفلسطينيين طوال حوالي ربع قرن، يقيم في قرية «كفر ياسيف» في الجليل، ويمضي جل وقته في القدس ورام الله ليكون قريباً من السجون ومن أهالي الأسرى، تربطه صداقة قديمة مع محمود درويش وبقية أفراد عائلته، وفي السنتين الأخيرتين كانا لا يفترقان. وقد عينه أهله وكيلا لميراث محمود درويش. وكان لنا هذا اللقاء معه:

> ما هي المشكلة التي نشأت خلال جمع وطباعة قصائد محمود درويش التي لم تنشر في حياته؟

ـ التعاطي مع نتاج محمود درويش، في غيابه، هو في حد ذاته إشكال. لكن لا يمكننا أن نتكلم عن إشكال بمعنى الخلاف. الإشكال حول كيفية التعامل مع مادة ـ بمنأى عن مدى جاهزيتها للنشر ـ لأن كل من عرف محمود درويش يعلم الصرامة والدقة والرقابة التي كان يعامل نفسه بها. وبالتالي كان من الواضح، أن أي قرار سيتخذ بشأن ما وجد في بيته كمادة أعدها للنشر، هو قرار منقوص، بواقع أننا لا نملك معايير صاحب الشأن.

> قبل خضوعه للعملية الجراحية كان محمود درويش جاهزاً لأي احتمال، فهل أخذ هذا الاعتبار أيضاً مع قصائده التي خلفها؟

ـ أخذ بعين الاعتبار الاحتمالين. إما أن يعود حياً، ويكمل هذا المشروع كما يريده، أو لا يعود. وبالتالي أراد لهذه المادة أن تنشر في غيابه، وإلا لما كان جهزها ـ كما وجدناها ـ شبه ناجزة للنشر. لذلك أود التأكيد أن الخلاف بمعنى الخلاف لم يكن موجوداً. الحديث يدور عن مسؤولية اتخاذ القرار الأقرب إلى ما نتوقع أن محمود درويش يريده، وهذا في حد ذاته، يشكل رهبة ترقى لتكون إشكالا في حد ذاته. السؤال هو كيف يتم التعامل مع هذه المادة، وكيف يمكن عرضها على القراء، أو حجبها عنهم. وكان القرار لدى كل الأصدقاء المقربين لدرويش، أنه يجب نشر هذه المواد.

> أفهم من كلامك أنك ترفض كلمة خلاف؟

ـ هناك وجهات نظر متباينة. والكاتب إلياس خوري يتطرق لذلك في الكتيب الذي أعده حول الديوان الذي صدر مؤخراً. في رأيي تجب قراءته كما هو، من باب المسؤولية الأخلاقية والأدبية والشخصية التي تحدث عنها. فهو أراد أن يشرح لمن يقرأ هذه القصائد، كيف وجدت، وكيف أعطيت للطباعة دون أن يعبث بها أحد، على الرغم من عدم نجوزها التام. نحن كتبنا أن لا أحد يملك مثل هذا الحق، ولا أحد يملك مثل هذه القدرة، ولا أحد يملك مثل هذه المسؤولية.

> إذن ما قصة هذا الكتيب؟

ـ إلياس خوري معروف كروائي كبير مشهود له بمكانته الأدبية وصداقته لمحمود درويش. وقد أوكلت له مهمة مراجعة ما وجد من أوراق لوضع آلية لترتيبها في الديوان ومكانها ونصها، ولم يكن وحيداً. فبعد أن قام بعمل يشكر عليه، لم يتفرد في القرار بل عرض النتائج على مجموعة من الأصدقاء اجتمعت في عمّان وتداولت حول ما اقترحه من حيث التبويب، النصوص، وأسماء القصائد، الخ. في هذا اللقاء اجتهد الجميع، للوصول إلى فكرة تكون الأقرب للقرار الدرويشي. نحن نقول إن محمود رحل ولم يعد بيننا، وبالتالي القول بأنه ما كان ليوافق على هذا، هو عبث يراد به فقط السلبية والتجريح. نعرف أن محمود ليس بيننا، ومن الطبيعي أنه كان سيصل إلى نتائج ونصوص أخرى، هذه ليست عبقرية وليست بشطارة أن يأتي أيا كان ليقول لنا هذا. والسؤال كان وما زال، هل نحجب تلك القصائد أو نعرضها، مع علمنا أنها غير ناجزة بالمقاييس الدرويشية؟

> ما مدى صحة ما يقال عن دور لمنظمة التحرير الفلسطينية في فض الإشكالية التي نشأت؟

ـ لم يكن أي دور مباشر أو غير مباشر، لمنظمة التحرير. الاتصال مع الناشر رياض الريس كان من خلالي أنا كوكيل لميراث محمود درويش. واللقاء كان بيني وبين مندوب دار النشر في عمان، ولم يحضره أحد غيري. وأنا من وقع معهم اتفاقية النشر. كانت أمامنا عدة إمكانيات لدور نشر أخرى مستعدة أن تتبنى بشغف إصدار هذا الكنز، لكن كان من الواضح عند أهل محمود درويش وعندي كصديق له وكمحام، وعند الأصدقاء الآخرين أنه ما دام محمود اختار دار النشر هذه التي عكفت على نشر دواوينه منذ أكثر من عشرة أعوام، لا حاجة لتغيير ذلك في مماته. وبالتالي جددت العلاقة مع دار رياض الريس، وأسبغ عليها الوضع القانوني بعد وفاة محمود. المادة التي أعطيت لرياض الريس، شملت القصائد الأخيرة مرفقة بالخاتمة التي أعدها إلياس خوري، وأردنا من خلالها أن نبين القصة الحقيقية. عندما وصلت المادة لدار النشر كان هناك رأي ـ على الأقل ـ بيني وبين رياض الريس، أنه من الأجدر، فصل ذلك عن الديوان. السبب الأول والأخير في رأي الناشر، أن كل دواوين درويش صدرت دون أن يقدم لها أحد بمقدمة أو خاتمة. طلبت منا دار النشر أن لا نغير هذا العرف، وهو رأي أخذ بعين الاعتبار، وفي نفس الوقت كان عندنا اتجاه أن هذه الدراسة يجب أن ترفق مع الديوان كي يفهم القارئ، كيف خرجت هذه القصائد إلى النور. وكان الحل أن يصدر الكراس مرفقاً بالديوان.

> هل تعتقد أن الموضوع ضخم أكثر بكثير من حجمه؟

ـ لومي على من يريد تغيير الموضوع إلى أمور شبه بوليسية. الحدث كبير بالفعل، هنالك قصائد أجمع كل من كتب حتى الآن أنها إتمام للمشروع الدرويشي العملاق، وفيها ما سيبقى إرثاً ليس فقط للشعر العربي بل للأدب العالمي. هذا ما أتمنى أن يتعاطى معه الناس. كان للدار بعض الأفكار وهذا طبيعي، وحاولنا من خلال النقاش الإيجابي التوصل إلى حلول لنأمن أي خطأ يضر بهذا المشروع. كل المحاولات، لتصوير وكأن إلياس خوري أقحم نفسه في الموضوع، هي عارية عن الصحة.

> دعني أسألك بصفتك أحد المقربين جداً من محمود درويش، لو كان شاهداً على ما يحصل، كيف تتخيل رده؟

ـ حتى في حياة محمود درويش كان هناك من حاول المس به وهم قلة؛ لأن قامة محمود جعلت من كل من حاول المس بها قزماً، وكان يتعامل مع هذا الأمر كما يتعامل كل كبير. يتصرف بهدوء الواثق، العالم، ولكن على المستوى الشخصي كان ذلك يترك عنده نوعاً من الألم الدفين حينما يسمع تهجمات عليه.

> هل هناك رؤية لحفظ إرث محمود درويش الغزير وحقوق النشر؟

ـ تم الإعلان في فلسطين عن تأسيس مؤسسة محمود درويش. وأعلن عن إقامة مركز كبير في رام الله لهذه الغاية. أما بالنسبة لعمليات سرقة نتاجات درويش في غياب قوانين وآليات تنفيذ لهذه القوانين، فنحن نشهد مثل هذه العمليات التي كانت تؤلم محمود في حياته. أما بالنسبة لحقوق النشر الأساسية فستبقى من حق عائلة محمود درويش، وبدوري كمحام أعلن بأننا نحذر من المساس بهذه الحقوق، ويمكن التوجه إلينا بكل ما يتعلق بإنتاجه. محمود درويش لم يستأثر بنتاجه ولم يحجب استعماله عن أي فنان أو مبدع. كان منفتحاً وحاول المساعدة ووضع كل ما يستطيع في خدمتهم، وسنستمر بهذا النهج.

> بعد فترة من وفاة درويش توجهت وزرت بيته في رام الله برفقة شقيقه، وفيما بعد زرتما مع أصدقاء آخرين بيته في عمان. صف لنا مشاعرك وأنت تدخل بيته في غيابه؟

ـ كانت لحظات تملكنا بها الحزن والألم الشديدان. فأنت تدخل هذا البيت، الذي دخلته عشرات المرات، كما تركه محمود وكما وصف، بسيطاً أنيقا، لكنك تلمس فيه ذلك النبل والذوق وتلك الروح الهشة لكن الرفيعة. في هذه المرة تحديدا شعرت أن كل ما ذكرت موجود في كل زاوية. تملكني شعور من الغضب، لا أعرف ضد من؟ الدخول إلى بيته والتفتيش في غيابه عن خصوصياته وفي حرماته يثير الغضب. الغضب الأبرز هو أن ما تقوم به كان لا بد منه. الخسارة لا تعوض، ويجب على أحد ما أن يقوم بما قمنا به.

> هل عثرتم في منزله في عمان على مواد أخرى لم تنشر بعد؟

ـ هناك قصيدة واحدة لم تودع في الكتاب الأخير وهي عن «محمد الدرة»، لم نضمنها الكتاب، لأن هذه القصيدة لم تكن بنفس المجموعة التي وضعها محمود. هذه القصيدة قرأها الراحل مع قصيدة «عابرون في كلام عابر» في أكثر من مناسبة، ونشرتها بعض الصحف، لكنها لم تنشر في أي من دواوينه، وسوف تتم إضافتهما ضمن المجموعة الكاملة مستقبلا.

> أخيراً، والدة محمود درويش التي غادرتنا قبل حوالي الشهرين، كيف عاشت فترة ما بعد رحيله؟

ـ أعتقد أن موت أم أحمد ـ الحاجة حورية ـ بدأ يوم وصول نبأ رحيل محمود درويش. قالت ذلك أكثر من مرة. هذه العملية أخذت منها بعض الوقت. في كل زيارة لها كنت أشعر بتلك الحرقة، وبرفضها للحياة، من بعده.