الموسيقى الكلاسيكية تجتاح فرنسا بقوة

حياة جديدة لموزارت في ضواحي المهاجرين الفقيرة

TT

بعد سبات طويل وعميق تعود الموسيقى الكلاسيكية لتنتعش في فرنسا، ليس فقط في أوساط الطبقات الأرستقراطية الراقية، ولكن ـ وهذا هو المدهش ـ في الضواحي وبين الشبان وفي الأحياء الفقيرة. وزارة الثقافة الفرنسية تتحدث في تقرير لها عن منتسبين إلى معاهد للموسيقى يزيد عددهم على المنتسبين إلى نوادي كرة القدم، أكثر الرياضات شعبية، مما يؤكد أن الظاهرة تستحق الرصد والتحليل. لماذا عادت الموسيقى الكلاسيكية بهذه القوة؟ وما أسباب يقظتها المفاجئة؟

لطالما ارتبطت صورة الموسيقى الكلاسيكية في أذهاننا بقاعات الأوبرا الواسعة وصالات العرض الراقية وأجواء الأبهة والفخامة، ورغم الشهرة العالمية الواسعة لهذا النوع من الموسيقى، والتي تعدت نطاق الغرب الذي عرف مولده، فإن صورته بقيت مرتبطة بالنخبة الأرستقراطية والأوساط البرجوازية الغنية والطبقات الاجتماعية المرفهة. مثل هذه الفكرة أساءت طويلا إلى الفن الكلاسيكي الذي سجل تراجعا في شعبيته على حساب أنواع أخرى جديدة، مثل الراب والروك، وتلك الموسيقات الصاخبة التي اجتاحت العالم. لكن الجديد هو أن تقارير حديثة تفيد بعودة قوية للفن الكلاسيكي وانتشاره في أوساط الأجيال الشابة والطبقات المتوسطة في دول غربية كفرنسا، بل هناك ما يشير إلى اقتحام الكلاسيكيات فضاءات جديدة غير مألوفة كضواحي المدن، حيث يكثر تمركز الطبقات الشعبية والمهاجرين.

وزارة الثقافة الفرنسية التي تنشر هذا التقرير تتحدث عن 800,000 تلميذ يتعلمون الموسيقى الكلاسيكية اليوم في أكثر من 3000 مدرسة عامة وخاصة على اختلاف أنواعها، ما بين معهد ودار للموسيقى وجمعية ومركز ثقافي. ويضيف التقرير أن هذه الأرقام قياسية، لم تعرفها فرنسا من قبل، لدرجة أن تعليم هذا الفن فاق في انتشاره الشعبية الكبيرة التي تعرفها كرة القدم، حيث وصل عدد هواتها المسجلين في نواد رياضية إلى المليونين مقابل خمسة ملايين بالنسبة إلى الموسيقى الكلاسيكية. الأمر الذي جعل مشهد طابور الانتظار أمام كونسرفتوار «معهد الموسيقى» للظفر بمكان في قسم البيانو، الكمنجة أو التوبا شبه عادي، في نفس الوقت الذي لوحظ فيه ارتفاع محسوس ومنتظم لنسب استماع «راديو كلاسيك»، وهي الإذاعة المختصة في بث برامج الموسيقى والغناء الكلاسيكيين.

وكأن الولع بهذا الفن قد قفز جيلا كاملا، فإن الطلب على تعلمه يأتي من الشباب والمراهقين خاصة، حيث تكشف إحصائيات وزارة الثقافة الفرنسية أن نسبة المراهقين الذين يمارسون الموسيقى الكلاسيكية كهواية هي اليوم ضعف ما كانت عليه بالنسبة إلى أجيال الستينيات، كما أن متوسط عمر ثلثي هؤلاء لا يتجاوز 16 سنة. تقول هوغيت فونتان، متقاعدة وقفت تنتظر حفيدتها كلووي (8 سنوات) أمام مدرسة لتعليم الموسيقى في إحدى ضواحي باريس، إنها كانت تعزف على البيانو وهاوية كبيرة لهذا الفن، ولطالما حاولت مع أبنائها كي يتبعوا طريقها، لكنها تتذكر أن الأمر كان صعبا آنذاك، فمجرد اصطحاب أطفالها إلى معهد الموسيقى الكلاسيكية كان بمثابة تحدٍّ لجيرانها ورسالة مفادها: «إننا برجوازيون متعجرفون»، فاختارت ابنتها الرسم وولداها كرة القدم. وقد فوجئت المرأة عندما وجدت حفيدتها كلووي تُقبل بصفة طبيعية على تعلم العزف على آلة كلاسيكية. وكل ما تأسف له هذه الجدة هو أنها تخلصت من آلة البيانو التي كانت بحوزتها، ولو علمت لاحتفظت بها لحفيدتها.

فبعد عقود طويلة من صورة الفن «النخبوي الأرستقراطي» يبدو أن الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية دخل منعطفا جديدا بعد إهمال له مارسه جيل كامل، وهو ما يسميه باحث علم الاجتماع البروفسور أنتوان هونيون «الإرث الديماغوجي لما بعد مايو 1968» ليضيف بأن: «تبني صيغ جماعية لتدريس هذه الموسيقى وتسهيل شروط تعلمها، رفع من شعبية المعاهد المخصصة لها. فالتلاميذ غالبا ما يفضلون ممارسة هوايتهم مع زملائهم ضمن فرق (الأوركسترا)، مستغنيين عن مرحلة (السولفيج) الصعبة، التي كانت مطلوبة سابقا لدراسة الآلات الموسيقية».

«المدارس البلدية للموسيقى»، هي مدارس ذات تمويل حكومي لتعليم فنون الموسيقى والرقص، وهي التي كانت علامة واضحة في السياسة الثقافية للأحزاب الفرنسية ذات التوجهات اليسارية، ساهمت هي الأخرى في نشر هذا الفن في الضواحي والأوساط الشعبية. فبفضل مصاريف التسجيل المعقولة لهذه المعاهد الحكومية، ومراعاتها لدخل الأشخاص في تحديد تكاليف التعليم، فتحت الأبواب أمام الكثير من العائلات البسيطة لممارسة مثل هذه الأنشطة الثقافية التي كانت في السابق حكرا على ميسوري الحال فقط. وللوصول إلى شد انتباه الأطفال فإن طريقة التعليم نفسها تغيرت. تقول فاليري، أستاذة في إحدى مدارس تعليم الموسيقى: «عادة ما أبدأ الدروس الأولى بمقطوعات موسيقية عصرية يعرفها التلاميذ، ومن ثم أبتعد شيئا فشيئا عن العصري لأقترب من الكلاسيكي، وهي الطريقة التي وجدتها الأفضل لإثارة اهتمام هذا الجمهور الجديد. وأتوقع أني لو بدأت مباشرة بسيمفونية (براهمس) أو (موزارت) فإنني سأقابل بالمقاومة».

اهتمام شباب الضواحي بالموسيقى الكلاسيكية وصل إلى حد الرغبة في التفوق، اقتداء ببعض العناصر التي لمعت في سماء هذا الفن ووصلت إلى أعلى المراتب بالرغم من أصولها البسيطة، على غرار الفنانة الشابة زهية زيواني، ابنة المهاجر الجزائري، التي وصلت بفضل موهبتها الفذة إلى إدارة عدة فرق أجنبية كـ«أوركسترا السلام»، و«أوركسترا القاهرة السيمفونية»، و«الأوركسترا السيمفونية الجزائرية»، وتقلدت عدة أوسمة شرف. وتعتبر المرأة الوحيدة مع كلير جيبو التي تشغل منصب مايسترو في فرنسا، وتهتم الآن بصفة خاصة برعاية مواهب شابة في الضواحي الفقيرة، من خلال إدارتها لمدرسة «الموسيقى والرقص بستان»، الواقعة في واحدة من أفقر الضواحي الباريسية وهي ضاحية سان دوني، التي تستقبل سنويا أكثر من 300 تلميذ، وتمتد على مساحة 1500 متر مكعب.

التجربة نفسها خاضتها السوبرانو (مغنية الأوبرا) المعروفة مليكة بلعريبي ـ لوموال التي نشأت في الأحياء القصديرية لضاحية نانتير الفرنسية الفقيرة، قبل أن تصبح صوتا معروفا من أصوات أوبرا باريس. وهي تُدرب أطفال الضواحي منذ سنوات في ورشات بيداغوجية خاصة بفنون الغناء الكلاسيكي.

وكذلك قادر بلعربي، أول راقص باليه من أصول عربية يصل إلى رتبة «راقص نجم» في أوبرا باريس. وقد اعتزل بلعربي قاعات الأوبرا منذ سنة ليتفرغ لتعليم الشباب في إحدى ضواحي باريس أيضا.

على أن تشجيع ورعاية المواهب الفنية هو التوجه الملحوظ عموما في السياسة الثقافية لمختلف الحكومات الفرنسية في السنوات الأخيرة، حيث تنتشر عدة تظاهرات ثقافية تهتم بالترويج للموسيقى الكلاسيكية، كعيد الموسيقى أو «فات دولاموزيك» الذي ينظم كل سنة في شهر يونيو (حزيران)، تقدم خلاله فرق موسيقية كثيرة عروضا مجانية عبر كل التراب الفرنسي، بما فيها فرقة أوركسترا دار الأوبرا العريقة. هناك أيضا الحفلات الأسبوعية التي تنظمها دار الموسيقى بمنطقة لافيلات، التي غالبا ما تكون مجانية بالنسبة إلى تلاميذ المدارس، ومهرجان «ليالي نانت المذهلة»، وصالون الموسيقى الكلاسيكية، ومهرجان الموسيقى الكلاسيكية.

ما لوحظ أيضا هو أن الإقبال على تعلم الموسيقى الكلاسيكية غالبا ما يأتي بمبادرة من الوالدين، لكن لدوافع مختلفة، فبينما يؤمن بعضهم بأنه نشاط ثقافي كغيره من النشاطات، تتولد لدى القسم الآخر قناعات جديدة بأن تعلم هذه الموسيقى سيسهم أكثر في تنمية الحس الفني والإبداعي والارتقاء بثقافة الطفل إلى مستوى عالٍ. وهي الفكرة التي لاقت طريقها في السنوات الأخيرة بعد صدور عدة دراسات علمية تثبت فوائد هذه الموسيقى عند الطفل، أبرزها الدراسة التي نشرتها مجلة «ناشور» الأميركية المعروفة في السنوات التسعين بعنوان: Music and Spatial Task Performance، وتناولتها وسائل الإعلام بإسهاب تحت اسم «تأثير موزارت» أو The Mozart’s effect. وكانت هذه الدراسة قد خلصت إلى أن الأطفال الذين يستمعون باستمرار لمقطوعات كلاسيكية هم أكثر توازنا، بل وأكثر ذكاء وسعادة من غيرهم.

وكانت هذه الدراسة العلمية قد لاقت صدى واسعا ودفعت بكثير من الأولياء إلى التفكير في اختيار الموسيقى الكلاسيكية كهواية لأطفالهم، وهو ما بدأ يلاحظه كثير من أساتذة الموسيقى على أرض الواقع. يقول جيرار دوران مدير معهد تولوز للموسيقى العالمية: «بات واضحا أن الآباء لا يسجلون أبناءهم في هذه المدارس بغرض دفعهم نحو احتراف الموسيقى، وإنما فقط لمساعدتهم على تنمية ثقافتهم وحسهم الفني، والدليل الإقبال الكبير على أقسام إثارة الحس الموسيقى التي تبدأ من الحضانة إلى الروضة، أي من أشهر الطفل الأولى إلى الرابعة أو الخامسة من عمره». ويضيف نفس المسؤول: «في عصر الإنترنت وألعاب الفيديو التي تجتاح عقول الصغار، يلجأ الأولياء خوفا من التأثيرات السلبية إلى توجيه أبنائهم نحو نشاطات ثقافية أكثر هدوءا وإيجابية، وهم واثقون أن ذالك سيخدم مستقبلا، ليس فقط وضعهم الثقافي، وإنما أيضا وضعهم الاجتماعي».