«شارع العطايف».. مفترق طرق بلا دليل ولا زاد ثقافي

بين صورة تتشكل للرواية الجدية وصورة تتكرس لروايات الإثارة

عبد الله بن بخيت
TT

ينقسم نقاد سعوديون بشأن الإصدارات الروائية الأخيرة، وخاصة رواية «شارع العطايف» لعبد الله بن بخيت، حيث يجد بعضهم أن الرواية تؤسس لمرحلة جديدة في تطور الرواية السعودية، وتبعدها عن روايات الإثارة التي سجلت حضورا بداية القرن الحالي، وتميزها عن روايات السيرة الذاتية، التي شهدناها في التسعينات، لكن نقادا آخرين يرونها مجرد إضافة للروايات التي تتوسل بالإثارة ولا تقدم جديدا.

ويعكس الجدل التصور الذي ينشده كل اتجاه بين النقاد، لما يجب أن تكون عليه صورة الرواية وفضاؤها وتقنياتها السردية، وهو في جوهره كذلك يستبطن الخلاف بين أنواع القراءات واتجاهاتها للواقع الاجتماعي، وطريقة التعاطي معه.

وبالرغم من أن المشهد الروائي في السعودية، شهد ازدحاما في عدد الروايات خاصة منذ التسعينات، إلا أن مواهب الإبداع الروائي تفتقت لدى الأدباء السعوديين، لتقدم في نحو عشرين عاما أضعاف ما قدمه الأدباء في السعودية من روايات منذ صدور أول رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري عام 1930.

وقد ظهرت أسماء سعودية عرفت في عالم الرواية كغازي القصيبي، ورجاء عالم، ويوسف المحيميد، والراحل عبد الله الجفري، وزينب حفني، وعبده خال، وأحمد الدويحي، وعواض العصيمي، وعبد الكريم الخطيب، ومحمد حسن علوان، وعبد الحفيظ الشمري، وإبراهيم شحبي، وعبد الله المعجل، ومحمد المزيني، وإبراهيم الناصر الحميدان.

وبين الروايات التي صنفت باعتبارها قريبة من السيرة الذاتية، والروايات الشبابية التي قدمت لغة أكثر قربا من الواقع بتحرر أكبر، تظهر اليوم مجموعة روايات تعتمد على التاريخ الاجتماعي للمدن والقرى السعودية، بين هذه الروايات رواية «شارع العطايف» للكاتب السعودي عبد الله بن بخيت، التي صدرت مؤخرا عن دار الساقي، وتقع في 398 صفحة، وتنقسم إلى ثلاثة فصول، كل منها قصة شبه مستقلة.

وقد أحدثت رواية «شارع العطايف»، لعبد الله بن بخيت سجالا لدى النقاد والمثقفين، الذين رفع بعضهم الرواية كفتح في مجال السرد الأدبي، الذي يتفاعل مع حركة وتطور المجتمع، في حين رآه آخرون، مجرد تبسيط تعتريه السطحية والفضائحية لتحقيق الشهرة.

القحطاني: العطايف سرد مكشوف

برأي الناقد والأديب السعودي الدكتور سلطان القحطاني، فإن رواية «شارع العطايف» لعبد الله بن بخيت، وأمثالها من الحكايات السردية، لم تقدم جديدا للرواية العربية على وجه العموم والسعودية على وجه الخصوص، وهي سرد مكشوف يفتقد التقنية الفنية، ولا يمثل ثقافة مجتمعية، كل ما قدم صورة للذكريات التي مر بها الكاتب أو رويت له، ولم تعالج بلغة روائية تعكس ثقافة المجتمع، بحسناته وسيئاته.

وبرأي القحطاني، فإن الرواية الحقيقية هي التي تمثل كل شرائح المجتمع، مضيفا أن الإثارة التي تخلقها الرواية سرعان ما تزول.

وقال الدكتور القحطاني، لا اعتقد أن هذا النمط من السرد قدم أو سيقدم فنا، وهذه الحكايات مدفوعة الثمن للناشرين، تهافت الناس على شرائها ليروا ما يمكن أن يقال، عن مجتمع كان يصور على أنه طاهر 100 بالمائة، وهذا وهم مارسه الطرفان، فلو أن الحقائق جاءت كما ينبغي لما حصل مثل هذا الطوفان من الحكايات، التي تخلو من عناصر الفن الروائي، الذي أصبح ثقافة وليس تهريجا لشغل من لا شغل له، فالرواية التي أحصاها البعض بالمئات لم تصف إلا على العشرات، والبقية حكايات جنى عليها ما يسمى بالنقد، وشجع على التنافس على إصدارها.

وأضاف القحطاني، مستشهدا برأي مثقف لاحظ أن (هناك رواية تشترى لتقرأ، ورواية تشرى لتبقى)، أما الذي يشترى ليقرأ فمثل الجريدة تقرأ مرة واحدة، والتي تشترى لتبقى هي الرواية الحقيقية، التي لا يوجد منها سوى أعداد قليلة، وكتابها يعدون على الأصابع، مضيفا، (لا عبرة بكثرة المبيعات، ولا حتى الترجمة، فالغرب يسعى ليرى أخطاءنا ويكتشفها، أما الثقافة الحقيقية فيعرفها الجميع).

العباس: العطايف خلت

من الزعيق الأيديولوجي

من جانبه يرى الناقد السعودي محمد العباس، أن رواية «شارع العطايف» تقوم على اقتطاع لحظة حاسمة في حياة مجتمع، وليس حياته كلها، ثم إعادة بنائها وفق صيرورة يلعب فيها الخيال السردي دورا كبيرا، ليس بمعنى تزوير الوقائع، إنما بنية (الاختلاق) حسب المفهوم النقدي للسرديات، أي بإضفاء لمسة جمالية، جعلت من شخصيات روايته أبطالا على درجة من الجاذبية والتأثير. وأشار العباس، إلى أن عبد الله بن بخيت، كاتب رواية «شارع العطايف»، تمكن من خلال تلك الشخصيات تمرير معتقداته كراو، والتعبير عن مزاجه وأحاسيسه، واستعراض صورة بانورامية أمينة للواقع، بدون أي صراخ أيدلوجي، مع ملاحظة أن السرد يعني من الوجهة الفنية بالنسبة له إنطاق الشخصيات بهواجسها المفترضة داخل روايته، التي ليست بالضرورة دواخله ككاتب. وأكد العباس، أن ابن بخيت تمكن أيضا من إحالة الأماكن المنسية المهمشة إلى فضاءات ذات دلالة، واستعادها برهافة وشفافية عالية من ركام الذاكرة، بدون أن يمارس أي حالة من الاحتفاء أو التجميل، بل نقل بأمانة وصراحة حقيقة لحظة أثيرة على نفسه وتداعياتها المعاشة، وعلى الرغم من أنه كان متيقظا في التقاط أدق التفاصيل المادية والروحية، إلا أنه لم يبالغ في تعداد مآثر تلك اللقطة الزمكانية، لئلا يصيب إيقاع السرد بالبطء، أو يقع في شبهة التسجيل، ولئلا يقع كغيره فيما يعرف بالبيتية الثقافية، حيث الإيغال في التوصيف وتمجيد متعلقات المكان والناس والتاريخ، المتأتية أصلا من حنين رومانسي غايته التوثيق أو التخليد بمعنى أدق، وهذا هو سر متانة السرد في «شارع العطايف».

واعتبر العباس، أن «شارع العطايف» من الأعمال الإبداعية المتأتية كثمرة افتتان للحظة استثنائية، وهي من القوة والجاذبية بحيث لم يتمكن ابن بخيت من تجاوزها إلا برغبة تدوينها في الذاكرة، والإصرار على تعتيقها، حيث أسهم ولعه الواضح بتلك اللحظة في استفزاز مكنوناتها، وإخراجها من مكمونها.

ويعتقد العباس، أن كاتب الرواية عبر بشخوصه إلى ما يمكن أن تسميته روائيا بالأرض الحرام، أي حواف المحرم الثقافي والاجتماعي، موضحا أن الرواية مكتوبة بلغة جريئة وشفافة، وببلاغة تراعي واقع الوسط الاجتماعي المبثوثة منه، ولذلك خلت من الزعيق الأيديولوجي، والأحلام الرومانسية، ودعاوى النضال، بمعنى أنها تتلازم بنيويا مع اللحظة المروية، وإذا كانت لا تنهل من الوثيقة التاريخية بنقولات حرفية، ولا تنسخ بشكل آلي من الواقع الاجتماعي، إلا أنها ارتقت فنيا لتكون هي الوثيقة التاريخية المضيعة، وتتأهل لتكون سجل العار الاجتماعي المسكوت عنه، بما تختزنه من ضمير سردي، لا يعلي من شأن الأخلاقي بطهورية، ولا يستعرض العورات الاجتماعية والعاهات النفسية بابتذال، بل بتوصيفات تنتصر للمضطهدين الذين يواجهون مصائرهم فرادى، وبدون أي أوهام دونكيشوتية. وقال: «إنها ليست رواية جيل، بل هي سيرة شريحة اجتماعية داخل لحظة تاريخية يراد لها أن تنسى، لكن ابن بخيت أراد أن يجعل منها ملحمة القاع الاجتماعي، وأن يجسد من خلالها عوالمه السفلية بدون رتوش، وأعتقد أنه استطاع بالفعل أن يقيس المسافة جيدا، وبوعي فني متعال، ما بين الواقع والواقعية، فحقق معادلة فن الحدوث ببراعة».

الدويحي: الرواية ليست ضد المجتمع

ومن ناحية أخرى أقر الروائي السعودي أحمد الدويحي، بأن الهطول الروائي شيء مفرح في مشهد ثقافي، توسل من زمن بعيد حضور الرواية كجنس أدبي له خصوصية قي واقعنا الثقافي، تنبع من داخل حياة مجتمع مدني، لترسم فضاء موازيا له، وتحضر الفنون الأخرى داخله بالضرورة، وبقي الأمل عقودا طويلة منتظرا، لتفرض الرواية حضورها كجنس أدبي مبهج، ويخطئ من يظن أن الخوف المتبادل الآن بين كتاب الرواية والمجتمع، وهو خوف حقيقي له دلالة لا أحد يستطيع تجاوزها، شكل الحاجز الأول الذي غيب الكتابة الروائية كل هذه الفترة الطويلة، ولم يكن السبب الأول والوحيد.

وفي معرض تعليقه على رواية «شارع العطايف»، قال الدويحي: الروية فن بعيد كل البعد عن الأيديولوجيات، وليست ضد المجتمع، ولا تمثل الفرد الأحادي، وهي في النهاية فن عال، لا تتوسل الحوار والنقاش، فهي عالم وفن للمتعة، وإلا أصبحت دراسة نقدية تتناول ظواهر مجتمعيه ما، وبوقا لخطابات مضمرة كالصحوة، أو خطابا أيديولوجيا آخر ينحر الفن من الوريد للوريد. وقال: نلمح كثيرا من الأعمال الروائية المواجهة للصحوة، وتتحدث عن إشكالية محددة جدا، ووصمها النقد بأنها من الروايات الناجحة، وهنا تكمن الأزمة والخطيئة الكبرى، فلا يمكن أن تعمم على كل كتاب الوطن قضية المرأة وكذلك الصحوة، فشرائح الوطن متنوعة غنية وثرية، ولا يجب النظر لها وفق ما يرغبه النقد، فالصحوة ظاهرة بينما الرواية لا تتوسل الظواهر، بل هي فن يغوص في أعماق المجتمع، وتخلق مجتمعا موازيا له.

سعد الحميدين: اللهث

وراء المخفي بطرق فضائحية

وفي هذا السياق أوضح الناقد سعد الحميدين، أنه يلاحظ في الساحة الثقافية في السعودية، أن هناك تمددا روائيا متمثلا في كثرة الإصدارات في هذا المجال، حتى إن المنشور من الروايات فيها قد لفت إليه الأنظار في الوطن العربي ككل، وليس في بقعة معينة منه، لأن الروايات التي التفت إليها كانت تستحق أن تكون في دائرة الضوء، لأنها تتحدث عن حالات كانت تعتبر في عرف المجتمعات الأخرى مجهولة وغير مطروقة، وأنها تمس الأعماق وتعطي صورة مغايرة للمعهود والمعروف عن المجتمع الموسوم بالمحافظة، التي يطبعها ويميل إليها حسب تكوينه المجتمعي والجغرافي، وتأثيره في الآخر بدرجات مؤثرة، بالرغم من تأثره بالآخر، الذي هو بدوره يحدد مدى التأثر والتأثير.

وبناء على ذلك، يعتقد الحميدين، أن بعض الروايات السعودية قد جرت إلي المخفي والمسكوت عنه بطرق قد تكون عند البعض فضائحية، ولكن هي من الصور التي يمكن أن تكون وربما كانت، والروائي فنان له حقه في الخيال والإضافة بشكل فني، يمكنه من أن يوصل فكرته ورأيه في واقعه، ومتخيله وأمانه في صور وشرائح مجتمعية من الجنسين، وحسب متطلبات الأمر الفني والتقني.

ويرى الحميدين، أن «شارع العطايف» في عداد روايات أخرى سبقتها أعطت صورة واضحة، مستمدة أجزاءها من واقع معاش وخيال فني يلامس الواقع، فكان قبولها للدخول في تفاصيل المجتمع بغية المقارنة عند البعض، والغرابة عند آخرين، ولا بد من التباين في القبول والرفض.