الرقص المعاصر يكسب معركته العربية

المهرجان الأكبر من نوعه يتمدد ليشمل 4 عواصم

لم يسلم المهرجان من الاتهامات في رام الله حيث لقي نقدا لاذعا واتهمته بعض الصحف بـ«المجون» و«الخلاعة» («الشرق الأوسط»)
TT

على الرغم من أنه اتهم بـ«المجون» و«الخلاعة»، فإن «مهرجان الرقص المعاصر» يتابع أعماله للسنة الخامسة، بل إن جمهوره يتزايد، ونشاطاته تتنامى بشكل يدهش المنظمين، ويجعلهم يتساءلون عن سر هذا الشغف العربي بالرقص، لا سيما في بيروت ورام الله. يوم أمس، انطلقت أعمال المهرجان في بيروت، الذي ينتظر أن يستقطب آلاف المتفرجين، فيما تتوزع العروض أيضا على أربع عواصم عربية بشكل متزامن. وفي الأيام المقبلة ستنطلق ندوات لن توفر سؤالا محرجا إلا وتطرحه. لكن من يحرك هذا المهرجان الأخطبوطي؟ وما الذي يسعى إليه؟

تنزل خمس طبقات تحت الأرض، في واحدة من عمارات شارع الحمراء في بيروت، كي تصل إلى مكتب صغير ملحقة به قاعة للتدريب، ويشكلان معا مقر «جمعية مقامات». في هذا المكان القصي الذي يبدو لك للوهلة الأولى معزولا عن العالم، تجلس مجموعة من الشبان والشابات، كل واحد منهم أمام كومبيوتره، يضعون معا ترتيبات «مهرجان الرقص المعاصر»، الذي انطلقت أولى عروضه، يوم أمس، بعمل إيطالي. المهرجان يقام للسنة الخامسة على التوالي، ويستمر لمدة أسبوعين، بمشاركة 25 فرقة عربية وغربية. وقد بدأ المهرجان عام 2004 تحت عنوان «ملتقى بيروت للرقص المعاصر»، كتظاهرة صغيرة قدمت أربعة عروض في العاصمة اللبنانية، حضرها ما يقارب 700 متفرج، ثم تطور الأمر خلال السنين القليلة الماضية، ليتمدد صوب رام الله والقاهرة. واستطاع برنامج العام الماضي أن يجتذب في بيروت وحدها 3500 متفرج، وبقيت الصالات، طوال فترة المهرجان ممتلئة عن بكرة أبيها.

هذه السنة يأخذ المهرجان هالة جديدة، وتمتد أعماله لتشمل بالتزامن مع بيروت رام الله وعمان ودمشق. كما تخصص أيام للفرق العربية ولمناقشة قضية الرقص بالنسبة لنا كعرب.

الرقص ليس مرحبا به في العالم العربي عموما، وخاصة حين يكون معاصرا. العام الماضي لم يسلم هذا المهرجان من الاتهامات في رام الله، حيث لقي نقدا لاذعا من حماس، واتهمته بعض الصحف بـ«المجون» و«الخلاعة». واعتبر النائب عن حماس سالم سلامة، أن من ساندوه «يطبقون أجندة صهيونية غربية مقابل الدولار الأميركي». وسخر هذا النائب ـ وهو ليس سوى أحد المطالبين بوقف المهرجان ـ من قول مدير التظاهرة في رام الله خالد عليان، إنها نوع من المقاومة، متسائلا: «هل سيفر أولمرت عندما يرى المتبرجات، تاركا القدس والمسجد الأقصى لأصحابهما». كما نفى عطا الله أبو السبح، وزير الثقافة الفلسطيني السابق لحكومة حماس، أن يكون الرقص قد شكل في يوم من الأيام جزءا من ثقافة الشعب الفلسطيني، ليؤكد بذلك خطورة احتضان السلطة لفن دخيل على الثقافة العربية.

ذهبت «الشرق الأوسط» لتبحث عن الأصابع الخفية التي تحرك هذا المهرجان، الذي يلقى ترحيبا هنا وتهويلا هناك، لكنه على الرغم من ذلك يكبر ويتنامي، فوقعت على شبان متحمسين، على رأسهم عمر راجح مدير المشروع في بيروت وصاحب الفكرة، ويصح وصفه بأنه المحرك والمخطط. عمر راجح راقص معروف، قدم عروضا عدة، درس في لندن، وكان قد قرر البقاء هناك، لأنه لا مكان للرقص المعاصر في بيروت، لكنه عاد عام 2002 ليقدم عملا بعنوان «بيروت صفرا» وفوجئ بالنجاح الذي لقيه، والفرص التي أتيحت لعرضه، ويكمل عمر: «قلت في نفسي، لم لا أعمل هنا، ثمة ما يستحق أن أبقى من أجله، وبقيت».

عمر لا يريد أن يرقص وحده، أحلامه تذهب إلى أبعد من ذلك، يريد أن يجمع الراقصين العرب في شبكة تمتد على مدى المنطقة، ويسعى أيضا لأن يجعل هذه الشبكة على تواصل مع العالم. هذا الراقص الشاب والهادئ لا يخفي طموحه: «هناك راقصون عرب بارعون، لا يعرفون بعضهم، وليسوا ممثلين في المهرجانات العالمية. خلال المهرجان الحالي ثمة أربعة أيام مخصصة للرقص العربي المعاصر، حيث ستقدم 17 فرقة عربية أعمالها، وتكرس الفترات الصباحية لمناقشة القضايا التي تخصنا. نقاشات يشارك فيها حوالي 150 شخصا، بينهم ضيوف هم مديرو مهرجانات رقص حول العالم، منهم من جاء من كوريا وأميركا وأفريقيا. هؤلاء سيكونون على تماس مع العروض، ويتعرفون على إبداعاتنا، ويختارون الفرق التي يريدونها أن تشارك في مهرجاناتهم». لا يخفي عمر راجح وهو يتحدث عن مشروعه أن الأسئلة كثيرة، والإجابات أقل بكثير: «نحن سنطرح في ملتقانا أسئلة من نوع: هل نحن نقلد الغرب؟ ماذا ننتظر من مشهد للرقص العربي؟ وإلى أين نريد أن نصل؟ ثم ما علاقة ما نطرحه من موضوعات في رقصنا ببيئتنا؟» لكن الملتقى العربي الذي يشكل نواة مهمة للمهرجان هذه السنة لن يكتفي بالنقاش، وسيتخذ خطوات عملية أهمها العمل على تأسيس جمعية عربية للرقص المعاصر. وهنا لا يتردد راجح في شرح الأهمية التي يعلقها على ما يسميه «التشبيك» داخل المنطقة العربية أولا، ثم خارجها، لفتح الأبواب المغلقة أمام الراقصين العرب، ويضيف: «هذا ما ستأخذه الجمعية الجديدة على عاتقها، ستفكر ما الذي يجب عمله لتطوير الرقص عندنا وتعريف العالم به، من خلال التواصل والتبادل. ففي المغرب وتونس مواهب مهمة، لكن الانتشار يبقى محدودا بسبب ضيق الفرص». ليس هناك نقابة تجمع الراقصين في لبنان، وراجح مسجل في نقابة الممثلين «هذا بسبب عدم الاعتراف بالرقص كمهنة قائمة بذاتها». ومع أن عمر راجح، يقلل من أهمية الاحتجاجات التي رافقت المهرجان في رام الله العام الماضي، إلا أنه لا يخفي أن الرقص يواجه مشكلة في مجتمعنا: «العرب يخافون من جسدهم، الجسد يخيف خاصة عندما يهتز، يبدو أنه في هذه الحالة يوحي بأفكار غير مريحة للبعض. الجسد له سلطة تفوق سلطة الكلمة. والرقص المعاصر يحمل أفكارا وليس مجرد استعراض مجاني بهلواني، فهو يتجاوز التسلية العابرة ويأخذ المتفرج إلى مكان آخر. في الدول العربية، من السهل تقديم مسرحية ولو كانت جريئة، لكن الرقص شيء آخر».

يرفض راجح، أن يعتبر الرقص المعاصر فنا مستوردا: «الرقص ليس سلعة نستوردها كالتلفزيون. نحن نستورد الأدوات هذا صحيح، لكننا نستخدمها بطريقتنا. لذلك في الغرب يقولون إننا نرقص كعرب، وهنا يعتبرون ما نقدمه فنا غربيا. لا أنكر أن الأمور تحتاج وقتا كي تتبلور، لذلك نعقد حوارات حول ما الذي نريده من الرقص، وهل ثمة فرق بين جسدنا وجسد إنسان غربي؟ نحن بحاجة لنوثق علميا تطور الفنون عندنا، لنفهم مسارها. هذا لم يطبق على المسرح والفن التشكيلي، ونتمنى ألا يصيب الرقص الآفة ذاتها». ويضيف راجح: «الحركة الفنية كل متكامل يترافق وحركة اجتماعية أيضا، الرقص المعاصر في أوروبا مرتبط بفلسفة رفضت الأحادية والمركزية الغربية، هو قرين ما كان يفكر به فوكو وديكارت. الأوروبيون لم يرفضوا التعاطي مع الهندسة المعمارية في الأندلس، لمجرد أنها عربية، التشنج في المواقف ليس ايجابيا لأحد».

مهرجان كبير كالذي تشهده بيروت هذه الأيام، هو ثمرة تعاون مع مراكز ثقافية غربية تتكفل بتكاليف فرقها المشاركة، وجمعية مقامات لها صلات مع فرق أجنبية تأتي إلى لبنان وتقيم ورشها التدريبية في مقر الجمعية لأشهر أحيانا. عمر راجح، الذي يشكل عصب هذا المهرجان يرفض أن يكون القائم وحده بالمشروع، ويشير إلى الشبان والشابات الذين يعملون معه ويقول: «نحن مجموعة هنا، وكلنا نعمل. وثمة من يغادرنا ليكمل دراسته في الخارج ثم يعود. الأمور تتحرك، وبيروت مركز خصب والمشجعون كثر». ويؤكد راجح أن «للمهرجان في رام الله جمهورا عريضا لم يكن متوقعا، على عكس القاهرة التي لم تكن بالإيجابية نفسها. وهي ظاهرة بحاجة إلى تشريح». أسئلة كثيرة تطرح حول مفارقة الاعتراض الذي يلقاه الرقص المعاصر والإقبال الشديد عليه في وقت واحد، ظاهرة يفسرها راجح وهو يضحك: «ربما لأننا لا نحب اللون الرمادي فنحن دائما متطرفون في مكان ما».