المرض يقود الأدباء إلى السجن أو العالم الآخر

اكتب كما تشاء وإن مرضت فهذا شأنك وحدك!

TT

قبل سنوات كاد الروائي علاء الديب يدخل السجن، لم يكن في الأمر جريمة أو حتى رأي أغضب السلطة، لكنه بالرغم من ذلك وجد نفسه في مواجهة حكم بالسجن لثلاث سنوات لأنه لم يستطع دفع نفقات مستشفى عولج فيه! لكن حظ الديب أفضل من غيره، حيث إنه أنقذ حياته ولو كان الثمن هو السجن، ونجا من مصير آخرين حصدهم الموت في انتظار من يدفع نفقات علاجهم، مثل يوسف أبو رية وقبله الشاعر محمد الحسيني والروائية نعمات البحيري، بينما يرقد حاليا الشاعر وليد منير في انتظار من يتدخل لإنقاذه. البعض وجدوا من يهب لنجدتهم من خارج مصر ويدفع مصاريف علاجهم مثل الشاعر محمد أبو دومة والراحل عبد الوهاب المسيري. كل هذا يثير شجنا كبيرا ويطرح أسئلة محرجة. لماذا يعامل بعض الأدباء بسمن وآخرون بزيت؟ ما هي المقاييس؟ ومن الذي يقررها؟

مثلما يمر الإبداع غالبا في صمت دون أن ينتبه إليه إلا قلة نادرة، تظهر في كل مرة دعوة خجلى للمساهمة في علاج مبدع ما، ثم تمر الدعوة من دون أن تلقى إلا دعما لفظيا، وكلاما متكررا عن تجاهل السلطة للمثقف، وتنتهي القصة برحيل المبدع المريض ليجتر المثقفون كلماتهم المعتادة، التي لا تمنع المرض عن آخرين، وتتفاعل مقارنات متكررة بين ما يحدث للأدباء وما يمكن أن يحدث مع راقصة ما، لو أعلن خبر مرضها. مقارنة ليست في صالح الأديب لأن ردود الفعل تتباين إلى حد التناقض، فإضافة إلى فاعلي الخير الذين سيتبارون لعلاجها سيصدر قرار عاجل بعلاجها في الخارج على نفقة الدولة، لتشتعل على الفور فتنة بين أدباء لا يوفر لهم الأدب حتى ثمن الطعام وفنانة يكفي أجرها في ليلة واحدة لعلاج نحو خمسة أدباء من مرض عضال!! غير أن القاعدة لها استثناءات، فهناك كتاب تصدر لهم قرارات علاج فورية وخارج البلاد بمجرد شعورهم بقليل من الصداع. الأمر ليس لغزا يبحث عن حل، كثيرون يرددون الأسباب نفسها التي يختزلها الروائي محمد البساطي: «المسألة محكومة بسلطة لا تنظر إلا للمثقف الموالي للحكم بينما تتجاهل من لا يوالي». لكن القاعدة ليست هكذا دائما، فالمبدعون خاصة الروائيين خارج نطاق الحسبة: «الروائيون في أحيان كثيرة لا يوضعون ضمن تلك المعادلة، لأن السلطة لا تعرف إلا الكتاب الذين يكتبون كتابات مباشرة». يضرب البساطي أمثلة بصحافيين كل ما كتبوه مجرد مقالات تدافع عن سياسات الحكومات المتعاقبة. نتساءل: هل يتم التعامل مع الشعراء بمكيال آخر، لأن الشعر يمكن أن يكون أكثر مباشرة من الرواية، مما يجعل صاحبه قادرا على تقديم خدمات للساسة؟ يجيب البساطي: «يمكن أن يحدث هذا، لكن في المقابل يوجد شعراء لا يقدمون خدمات بقصائدهم لكنهم أيضا غير محسوبين على المعارضين، وبالتالي لا يكون هناك أي اهتمام بهم مثلما يحدث حاليا مع الشاعر وليد منير». يختزل البساطي ما يحدث في عبارة واحدة: «الأمر يعتمد على نظام يبحث عن مؤيديه ولا يتعامل إلا معهم».

الرؤية نفسها يدعمها الروائي فتحي إمبابي قائلا: «المسألة محكومة بقانون وحيد هو علاقة المبدع بالسلطة». فالمثقف المحظوظ: «إما أن يكون بيروقراطيا يرتبط بعمل ما في أحد مستويات السلطة، أو يكون قريبا من وزير الثقافة أو غيره، أو مدافعا عن سياسات الدولة. في هذه الأحوال يتم تذليل جميع العقبات، ويطير على الفور إلى الخارج للعلاج». المشكلة تتحول إلى كوميديا سوداء عندما نجد أن الجهات نفسها التي تتخاذل عن حماية المبدع من مرضه تطمع فيما قد يأتيه من الخارج، لهذا السبب تحديدا لم يمر رحيل الأديب يوسف أبو رية في هدوء مثلما حدث مع آخرين. فأموال العلاج كانت موجودة، وتتمثل في عشرين مليون جنيه تبرع بها حاكم الشارقة لاتحاد كتاب مصر وخصصها لعلاج المبدعين. لكن جهات رسمية طمعت في المبلغ ورأت أنه يمكن أن يخصص لبنود أخرى!! الأمر مستفز وعبر عنه إمبابي في عبارة واحدة: «المشكلة أننا خسرنا أبو رية، في ما تبرع الشيخ القاسمي موجود».

هذا التبرع يمضي في سياق سلسلة من الأحداث المشابهة، يستحضر محمد البساطي منها ما حدث مع الدكتور عبد الوهاب المسيري: «لو كان ينتمي لأي بلد آخر لحظي باهتمام غير عادي لكن علاجه كان يمول من الخارج!». ويواصل البساطي: «كل مثقفي بلدك لم تكن لديهم فرص علاج متاحة حتى قدم الشيخ القاسمي تبرعه الذي كان ينبغي أن يشعر معه المسؤولون بالمهانة، لكن على العكس بدأت محاولات اغتصاب المبلغ لصالح وزارة الثقافة التي كانت ستنفقها على حفلاتها بدلا من علاج الأدباء». ويتحفظ البساطي على قيام رئيس اتحاد الكتاب بطلب التبرع من حاكم الشارقة متسائلا: «من أعطاه حق الطلب؟ هناك من الكتاب المصريين من يفضل الموت على أن يمد يده، ورغم ذلك جاء المبلغ واختفى لعامين لولا مأساة أبو رية التي أشعرت الجميع بالحرج فاضطر رئيس اتحاد الكتاب لاتخاذ موقف وتحركت وزارة المالية، مما يعطى انطباعا بأن المسألة بها قدر كبير من التواطؤ».

الموت الخاطف ليوسف أبو رية فجر دلالاته، ولم يضع هباء لأنه كشف ما كان يخطط لمنحة حاكم الشارقة وأعاد الأمور إلى مسارها الأساسي. الشاعرة فاطمة ناعوت فضلت أن تكتب وجهة نظرها بدلا من أن تتحدث عنها. بدأت ناعوت كلماتها من عند يوسف أبو رية، وكتبت: «هل يجوزُ أن أقولَ، على نحو يخلو من أيّة إنسانية، إنني فَرِحةٌ أن يوسف أبو رية قد مات في ذلك التوقيتِ النبيل عينِه، وبتلك الكيفيةِ الرفيعةِ عينِها؟! يتطلّبُ الأمرُ بعضَ (ترويض النَمِرةِ) داخل نفسي، اقتباسا من شكسبير. يتطلبُ الأمرُ أن أحرِّرَ عقلي من حبي ليوسف، وأحرِّرَ عنقي من صداقتي له، وأحرِّر قلبي من حَزَني على فقده، وأحرر روحي من شعوري بالمرارة عليه وعلينا وعلى فكرة الثقافة بمجملها، في مجتمع غير قارئ لا يحفل كثيرا بالثقافة ولا المثقفين. حينما أتحرر من كل ما سبق، سأنظر إلى الأمر على نحو أكثر تجريدا؛ فأكتشفُ أن يوسف قد اختار أن يطيرَ خفيفا متحررا من عبء الدَّين وتبعة مدِّ اليد. حتى ولو كان مدُّ اليد لمطالبةٍ بحق. فأنا من الذاهبين إلى أن الحقَّ أحقُّ أن يأتي طواعية، ذاك أن (الحقَّ) كيانٌ مستقلٌ لا يؤخذُ ولا يُمنحُ بل هو حريٌّ بأن يأتي إلى صاحبه بشرف دون أن يضطر، أو حتى يفكر، صاحبُ هذا الحق أن يطالبَ به. لم ترُقْ لي مرةً كلمة: ما ضاع حقٌّ وراءه مطالب. لماذا يضيعُ الحقُّ أصلا؟!». الحديث عن أيد خفية يمضي في سياق يدعمه عدد من المثقفين الذين يرون أن ما يحدث مقصود وليس عفويا. وهو ما يشير إليه فتحي إمبابي بقوله: «عندما يكون لدى الدولة هؤلاء المثقفون ذوو القيمة فلا ينبغي عليهم أن يطرقوا باب أحد في الداخل أو الخارج، لكن عندما نجد أن هذا يحدث باستمرار فإنه لا يفسر إلا على نحو واحد: إنها محاولة لتجريس المثقف وخلق حالة إذلال وامتهان لكرامته لكي لا يكون حرا. عندما يصل المبدعون إلى سن ومكانة عاليين ولا يعرفون كيف يتدبرون طريقة علاجهم فإننا نكون أمام فعل فاشي!».

سألنا فتحي إمبابي عن علاج المبدعين وعن الجهات التي يمكنها أن تعد مشروعا علاجيا متكاملا، فحددها في ثلاث: «المجلس الأعلى للثقافة؛ بوصفه المؤسسة الثقافية التي تمثل سياسة الدولة بشكل عام وتستخدم المثقفين في الدفاع عن تلك السياسات، واتحاد الكتاب، ووزارة الصحة التي يفترض أنها ملتزمة بالحق الدستوري الذي يتيح لأي مواطن أن يعالج على نفقة الدولة، على هذه المؤسسات أن تضع مشروعا يلتزم بمعايير موضوعية، مثلما يحدث في النقابات».

في كلماتها تنطلق فاطمة ناعوت دائما من يوسف أبو رية لتتماس مع الأوضاع المتردية كلها. فالحالة هذه المرة تشبه ما يحدث عندما يموت جندي في ميدان القتال للدفاع عن حقه، والحق لا بد ألا يموت بموت صاحبه، لهذا تستكمل ناعوت تقديم حيثيات فرحها المجازي: «أقول إنني فرحة بطيران يوسف على مستويين. الأول أنه تحرر من تبعة مكرمة من دولة أو وزارة، وهي حقّه الأصيل لدى هذه الدولة: أولا كمواطن مصري، وثانيا كمبدع كبير، وكذا تحرر من مكرمة من ثري عربي يشعر بمعنى وقيمة كلمة مبدع، في حين أن حكومة بأسرها لم تشعر بذلك، وهو بعض حقوقنا المهدرة لديها.

أما المستوى الثاني، الذي وراء فرحي، اللا إنساني والجاحد، بموت أبو ريّة فهو أنه قد تحول، بموته الخاطف، إلى أيقونة أمل، ومسيحٍ يَفتدي ـ كما أتمنى ـ زملاءه الذين سيرقدون رقدته على فراش المرض.

اختار يوسف أبو رية أن يموتَ مثله مثل المئات يموتون كل يوم، مثله مثل أطفال مصريين يأكلهم السرطان بماء ملوث وطعام فاسد وتطعيمات منتهية الصلاحية. مات يوسف بينما زوجته الطبيبة تجوب بقميصه الملوث بدم الذئب على المسؤولين تناشدهم أن ينقذوا زوجها، وأصدقاؤها يكتبون المقالات تلو المقالات أنْ أنقذوا يوسف الذي صَدَقَكم رواياتٍ ومقالاتٍ ونضالا. لكن لسانَ حال الحكومة لم يقل سوى كلمة رادّة حاسمة: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخلو لكم وجه أبيكم. شكرا لك يا عزيزي يوسف أن اخترت الميتة الصحيحة الوحيدة، غيرَ مَدين لأحد، ودائنا للجميع».