قرود داروين تثير ضجيجا في تركيا

TT

نجح داروين ونظرياته حول نشوء الكون وتطوره في إشعال خلاف جديد بين المفكرين الأتراك. وها نحن نرى من يحمل من جديد لواء المعرفة بالتنقيب العلمي والأساليب الحديثة، مقابل من ينادي باعتماد الكتب السماوية لتكون المرجع النهائي. وتحول الخلاف إلى سجال سياسي وعقائدي بين الجناحين التركيين دائمي الجهوزية للمواجهة، العلمانيين المتشددين من جهة والمحافظين الإسلاميين من جهة أخرى. مواجهة جديدة تقود الكتاب إلى الاصطفاف في جناحين، مؤيد وداعم ومنتقد ومناقض. وقد أرادت مجلة «لمان» المتخصصة في النقد السياسي الكاريكاتوري، التي تحشر نفسها غالبا في مثل هذه المواجهات، أن تحمل قيادة حزب العدالة والتنمية مسؤولية ما يجري، من خلال تقديم رسم كاريكاتوري انتقادي لرجب طيب أردوغان، على الطريقة الدارونية، وهو ما يبدو أنه سيعرضها للوقوف مرة جديدة أمام القضاء، ودفع تعويضات إلى رئيس الوزراء التركي. وهي لن تكون المرة الأولى طبعا.

الخلاف قديم أصلا بين تيارين فكريين تركيين في التعامل مع نظرية تشارلز داروين، أحدهما علماني ليبرالي، وآخر متدين محافظ، لكن الانفجار، حدث هذه المرة عندما قررت المشرفة على مجلة «علم وتقنية» التابعة لمجلس البحث العلمي التركي، تشيدام اتاكومان، حمل داروين ونظريته إلى غلاف العدد، بمناسبة قرار منظمة «اليونسكو» تنظيم احتفالات إحياء لذكرى مرور 200 عام على ولادته، و150 عاما على إعلان نظريته حول أصل الأجناس. وقد عارض كبار المشرفين على المركز هذه الخطوة، لا بل إن نائب الرئيس استدعاها طالبا منها الاستقالة بسبب التفرد في إصدار قرار من هذا النوع، في مثل هذه الظروف الدقيقة، التي تمر بها البلاد. لكن أتاكومان وبعدما أعلنت أنها لن تقدم استقالتها، لأنها لم تتجاوز صلاحياتها، تم إبلاغها بقرار تغيير موضوع الغلاف، وإلغاء مقالة مطولة حول داروين، واستبدالها بموضوع آخر يتعلق بالاحتباس الحراري، مع إبعادها عن الإشراف على المجلة.

الصحف الإسلامية أو المقربة من «العدالة والتنمية»، فضلت تجنب الخوض في النقاش، خصوصا وأن البلاد تقف على عتبة انتخابات محلية. لكن أحد كبار الكتاب في جريدة «زمان» الإسلامية، سامي أوسلو، تساءل مطولا حول إذا ما كان البعض، يريد افتعال أزمة، بتحويل داروين ونظريته إلى حصان طروادة يخترق عبرها وحدة الصف التركي، وينفذ إلى الداخل لبعثرته في ظروف صعبة، غايتها محاولة التصدي للزحف الإسلامي الواسع في أكثر من بقعة من المعمورة. كل هذا يجري على مرأى ومسمع الاتحاد الأوروبي، الذي يتابع كل شاردة وواردة داخل تركيا، التي تسعى وراء العضوية الكاملة في الاتحاد، لكننا لم نعرف بعد رأيه هو في هذه المواجهة.

القضية تحولت إلى نقاش دائم الجهوزية للانفجار داخل تركيا منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة. صراع يريد البعض من خلاله محاسبة حكومة رجب طيب أردوغان، وتصفية خلافاته معها، خصوصا في مسائل مثل حملاتها في تغيير الكثير من مضمون الكتب المدرسية، ومناهج التعليم لناحية إبعاد أو تقليص المساحات المخصصة للنظريات العلمية المشابهة لما يقوله داروين، حول الكون ووجوده وتطوره. وهنا يتهم الإسلاميون بأنهم يسعون إلى تقديم موضوعات ومسائل مبنية على أسس دينية إسلامية، كما يقول العديد من الكتاب اليساريين والعلمانيين. ما يجري له علاقة أيضا ـ كما يقول البعض ـ بسعي الحزب الحاكم للإمساك بإدارة هذا المجمع العلمي، منذ سنوات رافقتها حملة هجوم واسعة وانتقادات شنها جناح العلمانيين المتشددين، وبعض الليبراليين المقربين إليهم، مستفيدين مما يجري تحت شعار انتقاد تغيير غلاف العدد الأخير للمجلة العلمية الشهرية، التي تصدر عن المركز. المواجهة حول داروين وطروحاته بدأت قبل سنوات بعيدة، لكنها تفاعلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، عندما طلب مجلس التعليم العالي المقرب من العلمانيين، من وزارة التربية، المحسوبة على العدالة والتنمية زيادة عدد الصفحات التي تعالج نظرية داروين في الكتب المدرسية، لكن المساومات بين الجناحين لم تقد حتى الساعة إلى نتيجة مرضية، تحسم حبيا الخلاف. مجلس البحث العلمي التركي (توبيتاك)، الذي انتقد تفرد المشرفة على مجلته العلمية في إعطاء قرار إبراز موضوع داروين في الغلاف، أكد مرة أخرى أن مثل هذه الموضوعات ما زالت في مقدمة المسائل الحساسة، التي ينقسم الداخل التركي بشأنها، التي تتفاعل وتتحول إلى برميل بارود جاهز للانفجار في أي لحظة. قرود داروين تصول وتجول في الكثير من الكتابات المنتقدة لموقف إدارة مركز البحث العلمي التركي، والنقاش لا يزال مفتوحا.