علمانية الأتراك ومأزق «الإخوان» التقليدي

التجربة التركية في كتاب «التيار الإسلامي والعلمنة السياسية»

TT

في «سلسلة دراسات استراتيجية»، يصدرها معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بير زيت، في الضفة الغربية، يحتل بحث د. خالد الحروب «التيار الإسلامي والعلمنة السياسية: التجربة التركية وتجارب الحركات الإسلامية العربية»، الصادر أواخر السنة الماضية الرقم 19. وبمعنى آخر، الإضافة رقم 19 في سياق محاولات المعهد توفير دراسات وأبحاث أكاديمية في مجالات سياسية راهنة، وأخرى حول «موضوعات تتطلب صنع سياسات، وتكون لذلك موجهة بذلك الاتجاه (...) توزع على المؤثرين في صنع السياسة المتعلقة (بموضوع البحث)، وتكون في متناول المهتمين والجمهور أيضا»، كما يقول تقديم المعهد.

يقع بحث الحروب في 60 صفحة من القطع المتوسط فقط، منها عشر صفحات خصصت لتعقيب قدمه النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني (عن حركة حماس)، د. أيمن دراغمة. وهذا تقليد حافظ عليه المعهد في إصدارات السلسلة، بوصفها أوراق عمل، توفر للقارئ والباحث، مادة أولية للنقاش، ومفاتيح أخرى مساعدة غير تلك التي اعتمد عليها صاحب الدراسة موضع التعقيب.

ينطلق البحث من التحدي الكبير، الذي يطرحه نجاح الإسلاميين الأتراك في الوصول إلى الحكم في بلادهم، «على عموم الحركات الإسلامية المعتدلة، التي تتبنى نهج التغيير السلمي، وبخاصة المنتسبة منها لمدرسة حركة الإخوان المسلمين، أو تلك المتأثرة بها»، كما يقول الباحث في مستهل دراسته، وفي جوهر ذلك، التحدي، الذي يطرحه عمل قوى إسلامية في إطار نظام علماني بالأساس.

يتقدم الكاتب من التجربة التركية بحذر إيجابي، تفرضه مخاوف أكاديمية، من تعجل الاستنتاج لتجربة لا تزال قيد التشكل، ولم تقدم دروسها كاملة بعد.

قسم الباحث مادته إلى خمسة حقول، يتناول أولها بالبحث، مشروع حزب العدالة والتنمية. ويبحث الحقل الثاني في موقف الإسلاميين العرب من العلمانية. ويتناول الثالث الإسلاميين الأتراك والمسألة العلمانية. ويحاول الكاتب في البحث الرابع، التعرف على أوجه الشبه والاختلاف بين التجربتين الإسلاميتين العربية والتركية، وصولا إلى الحقل الأخير الذي ينفرد بمعالجة الإسلام الفلسطيني والعلمنة السياسية، وهو برأيي جوهر ما يستهدفه البحث، الذي يشق طريقا صعبة نظرا لحداثة التجربة وتعقيداتها الراهنة.

يؤرخ د. الحروب، بشكل موجز، للحالة الإسلامية الراهنة في تركيا، وتطورها عبر العقود الأخيرة، وصولا إلى حزب العدالة والتنمية، الحاكم حاليا، ملاحظا الفوارق الأساسية التي تميز هذا الحزب عن «محيطه» من الأحزاب الإسلامية. فهو مثلا، «لا يعرف نفسه من الناحية السياسية والأيديولوجية بأنه حزب إسلامي، بل يبتعد عن كل ما قد يفهم منه أن للحزب برنامجا إسلاميا. (ص 14)، ولا تظهر أدبياته و(مانفستو) الحزب أي إشارة دينية، بل على العكس من ذلك، هناك تأكيد على نوع من العلمانية يطلق عليه الباحث «العلمانية المؤمنة» غير الصارخة، عن طريق رفع شعار «الديمقراطية المحافظة» (ص 14).

«هذا النهج الذي يغاير ما اتبعته الأحزاب الإسلامية العربية، هو ما مكن زعيم الحزب رجب طيب أردوغان، من تحقيق نجاحات أساسية. فهو طمأن قوى العسكر الواقفين تقليديا على بوابة العلمانية التركية، يفتشون الداخل إليها والخارج منها، بأنه وحزبه ليسا خطرا على العلمانية، ولا يحملون متفجرات أيديولوجية تستهدف نسفها. العسكر لم يعودوا بحاجة إلى تشديد الحراسة على علمانية التجربة، كما كان عليه الحال إبان تجربة اربكان، التي قادت إلى «تهميش شرائح علمانية واسعة ومؤثرة في الدولة وإخافتها، ودفعت بالمؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية للاتفاق على إسقاط الحكومة، لكونها تشكل تهديدا للأسس العلمانية للدولة» (ص 13). ببساطة، هذا ما تفتقر إليه الحركات الإسلامية العربية، التي تسارع، كعادتها، إلى «افتراس» القوى العلمانية في أقرب فرصة، وربما قبل أن تصل هذه الحركات إلى الحكم، أو تخوض مع القوى العلمانية حربا دموية من أجل هذا الحكم، كما في تجربتي الجزائر وحماس في قطاع غزة. وهي في حال تسلمها زمام السلطة في بلادها، لا تقوم بطمأنة العلمانيين، الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، لا على الصعيد السياسي ولا الاجتماعي.

لماذا لم يتعلم التيار الإسلامي العربي من ملامح هذه التجربة، ويشتق بدوره ملامحه التي تتجاوز صورته التقليدية ومأساته «التقليدية» أيضا؟

تجيب ورقة د. الحروب البحثية، لأن التركي ورث دولة علمانية لا يمكن تجاوز ما رسخته. بل إن فوز حزب اردوغان في الانتخابات وتسلمه الحكم، يعود أساسا إلى علمانية الدولة التركية نفسها، فهو لم يرث خلافة. أما الدول العربية، فهي أبعد ما تكون عن الدول الحديثة، وارتباطها بالعلمنة ضبابي ومشكوك فيه ومخادع، إذ لا نفهم كيف تكون الدولة علمانية مثلا، بينما تعتبر الدين مصدر تشريع أساسي لها. صحيح أن الدولة تفترق مع الإسلاميين في مسألة تطبيق الشريعة، لكنها تبتعد عن العلمانية في رهن دستورها للقياس الديني، بدرجات متفاوتة بالطبع.

هذا التقدم بالنقاش، والعديد من الأسئلة المثيرة للجدل والدافعة به إلى مناطق جديدة، استوقفه حاجز التعقيب في نهاية الكتاب. فالمعقب، الدكتور أيمن دراغمة، أعاد النقاش إلى ما قبل التجربة التركية، إلى جمود تجربة الإخوان العرب ومراوحتها عند مواقفها التقليدية من الشريعة والمجتمع والعلمانية. مجد الدراغمة، الديمقراطية التركية بحماس كبير، لكنه كعادة باحثين ومفكرين إسلاميين كثيرين، رفض علمانيتها بالحماس نفسه، متخطيا حقيقة ارتباط المفهومين. يقر المعقب، بأن نجاح العدالة والتنمية «يشكل ردا آخر على المتقولين بصعوبة التوافق بين الأداء الإسلامي والحداثة والتطور والتقدم العلمي، ومد جسور التعاون مع العالم» (ص52). لكنه، وكالعادة أيضا، يتجنب الاعتراف، بأن هذا النجاح إنما يعود إلى التفاعل مع مفاهيم الحداثة وتشرب الديمقراطية والعلمانية، بل وإلى الاعتراف صراحة بأن العدالة والتنمية ينتمي إليها، أكثر من انتمائه إلى إسلامية الأتراك التقليدية، التي تعثرت مع خطوات أربكان.