لوحات الرسامين العرب قلادات للزينة من ذهب وألماس

مئات الزوار يستمتعون بقطع فريدة ستجوب عواصم المنطقة

أسماء الأسد في معرض «لتكن مجوهرات» وتحمل بيدها قلادة مستوحاة من تصميم المهندسة العالمية زها حديد («الشرق الأوسط»)
TT

هل كنت تتخيل أن تتحول لوحة تشكيلية لفنانك المفضل إلى خاتم أو سوار وربما قلادة تلبسها امرأة أنيقة، لتباهي بها؟ هل خطر لك أن عالمنا العربي بات مهتما بالفنانين التشكيليين لدرجة تحويل لوحاتهم إلى حليّ من ذهب، مرصعة بالماس واللؤلؤ، تجول في العواصم وتُباع لأثرياء الدنيا؟ السوريون هم أصحاب الفكرة، والفنانون أصحاب الحظ السعيد، هم من أنحاء المنطقة العربية. أما القطع الفريدة التي تزاوج ابتكارات الصاغة الحرفيين ببنات أفكار الرسامين، فهذه معروضة اليوم في دمشق، ومحطتها المقبلة بيروت ثم الدوحة، وأماكن أخرى.

معرض «لتكن مجوهرات» في صالة «آرت هاوس» بدمشق.. الذي زارته عقيلة الرئيس السوري أسماء الأسد الأسبوع الماضي، حمل فكرة جديدة ومبتكرة إلى عالم الفن السوري، بتحويل أعمال تشكيلية (لوحات زيتية وغرافيك ونحت) من صياغة خامات اللون والخشب والبرونز إلى حلي من ذهب وألماس وأحجار كريمة ولؤلؤ، مشغولة بحس بالغ الدقة ومفعم بجمال الفن والخامات النبيلة. وهي أعمال تستحق وصفها عن جدارة بالتحف أكثر من وصفها بمصاغ للزينة.

صاحب الفكرة ومنظم المعرض وديع الصايغ، سليل عائلة احترفت مهنة صياغة الذهب منذ أكثر من 200 عام، واهتمت عبر أجيالها بالتصميم المختلف والمتميز عما يُطرح في الأسواق، خصوصا وأن وديع الصايغ هو في الأساس مصمم جواهر في مؤسسة «الصايغ» الحائزة على جائزة أفضل تصميم في «أيام الجواهر السورية» العام الماضي.

عرض وديع فكرة مشروعه بتحويل الأعمال التشكيلية إلى جواهر على مجموعة من الفنانين السوريين والعرب. لاقت الفكرة استحسانا وأرسل إليه نحو 36 فنانا نماذج لأعمال تناسب الفكرة. خلال مدة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر تم تنفيذ أعمال لـ21 فنانا من سورية ولبنان والأردن ومصر والإمارات والبحرين لتُعرَض في دمشق، على أن تُستكمل باقي الأعمال وتُعرض في بيروت في 10 أكتوبر المقبل، ومن ثم العام القادم في الدوحة مع مجموعة أكبر. هذا ما قاله وديع الصايغ لـ«الشرق الأوسط»، ورأى أن الجديد والصعب الذي واجهه في عمله كان في تحويل لوحات إلى تصاميم لحلي. وهي المرة الأولى التي تنفذ فيه فكرة كهذه، إذ أن الاعتماد على أعمال النحاتين والمعماريين في تنفيذ مشغولات ذهبية أسهل بكثير، فالفنان المعماري أو النحات يتعامل أساسا مع كتلة وفراغ، بينما الرسام يعمل على سطوح وخطوط. وكان التحدي في إيجاد حلول حرفية تعيد صياغة اللوحة من خلال رؤية مهنية تلاءم روح الخامات الثمينة.

تعدد مشارب الفنانين الجغرافية والفنية وسّع آفاق المشغولات ما بين زخرفية عربية إسلامية، وروح فن الحداثة وما بعد الحداثة، وصولا إلى مفردات عصر الاستهلاك. فاختيار الفنانين يعود إلى أنهم ينتمون إلى جيلين، شباب ومخضرمين، من البلدان العربية، بهدف إغناء المعرض بمزيد من التنويع، ولوضع الحرفة السورية في فضاء عربي أكثر اتساعا.

إلى جانب وديع كمصمم وحرفي، قام بتنفيذ المشروع معه خمسة حرفيين، بهدف إعادة الاعتبار إلى حرفة صياغة الجواهر التي شهدت تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة، بحسب رأيه، وذلك من خلال فكرة تزاوج بين الفن والحرفة. ولعله المعرض الأول الذي يجمع في افتتاحه حرفيين وفنانين تشكيليين في فضاء واحد. وقد أمل وديع مستقبلا أن يتابع الفنانون عملية تنفيذ تلك الأعمال من أجل حوار إبداعي أعمق. ومع أن الجهود التي بُذلت للتحضير للمعرض كانت كبيرة جدا فإن القائمين عليه لم يتوقعوا أن يحمل يوم الافتتاح مفاجأة سارّة تُنسِيهم تعب الشهور الماضية، فعدا عن زيارة عقيلة الرئيس للمعرض قبيل الافتتاح بساعات قليلة ـ وهي المعروفة بمتابعتها للأنشطة الثقافية والمبادرات المميزة ـ غُصّت صالة «آرت هاوس» ومحيطها بأكثر من 600 زائر، في حدث كان شائقا على الساحة الفنية السورية. وهو ما اعتبره صاحب المشروع معيارا للنجاح أكثر من الإقبال على شراء تلك المشغولات، كما رأى في حضور السيدة الأسد «دفعة معنوية كأكبر مكافأة شجعت المنظمين لمتابعة العمل والتحضير لجعل هذا المعرض سنويا».

غالبية الفنانين المشاركين والذين لم يتابعوا تنفيذ أعمالهم بخامات المعادن والأحجار الثمينة فاجأتهم تلك المصوغات. فهي ليست مجرد إكسسوارات باهرة، وإنما إعادة قراءة مختلفة لأعمالهم. فثمة فنانون لا يمكن تخيُّل تحوُّل أعمالهم إلى حلي وجواهر، كلوحات جبر علوان المعروف بصفته شاعر الألوان. استطاع الصائغ إدهاشنا بقلادتين وخاتمين استمدهما من لوحات علوان مستبدلا بألوان الزيت الأسود والأخضر والأحمر والأصفر، الذهبَ بلونيه الأبيض والأسود المرصع بالألماس الأبيض والملون، وأحجار كريمة، لتشكل هذه المجموعة، ما يشبه قباب العتبات المقدسة. أما أعمال يوسف عبد لكي باللونين الأبيض والأسود والتي كانت دائما ما تُبرِز بشاعة القمع والاضطهاد البشري، تخففت من حمولة القهر في هذا المعرض، وظهرت رقيقة مرهفة مستوحاة من جماليات الحضارات السورية القديمة، وهي تميد تحت انعكاسات النور. ومن يشاهد القلائد المستمد تصميمها من لوحتَي أمين الباشا سيتوقف كثيرا إزاء ما يضفيه الفن على صناعة الحلي، والعكس بالعكس. فاللوحة التي ترسم وجها على نصف دائرة باللون الأصفر الكامد أخذت من معاني الموت أكثر بكثير من الولع بالحياة، واستحالت إلى ذهب أبيض تبتهج ملامحها ببريق الألماس، وكذلك العصفور برسمه المبسط المتقشف سيزهو ببذخ ألوان الذهب.

كما أن هناك فنانين شاركوا بأعمال أخذت في الاعتبار موضوع إعادة صياغتها كحلي، مثل أعمال ميشيل زيات وفائقة الحسن وخالد تكريتي وعيشى ديري وعبد القادر الريس ورنا سلام التي ابتدعت أفكارا غريبة. فكان عملها عقدا من حبات الفستق الحلبي، وقطع بوظة قضم طرفها، ولدى صياغتها كحلي تضافرت طرافة الفكرة مع فخامة المواد الخام، وجاءت حبات الفستق ملونة بأحجار روبي وزافورايس وأماتيست، وغيرها. كذلك جاءت فكرة توفيق الزين بصناعة عقد من سدادات علب المياه الغازية، تلك القطع التي تُرمى في النفايات فور فتح العلبة، ولا يمكن تخيل دخول هذه القطعة في لوحة فنية حديثة على شكل كولاج، أو حتى كمؤثر غرافيكي، كما لا يمكن تخيل صناعتها من ذهب أصفر وترصيعها بالأحجار الكريمة، لتزين نحور سيدات المجتمع المخملي. بل وأن تكون القطع المستوحاة من هذه السدادات من ضمن الأكثر لفتا للانتباه إلى جانب الطوق والسوار المصنوع من الذهب والمطعَّم بأحد أغلى أنواع الخشب (باليشالج)، حيث لا تظهر هنا جمالية التصميم المأخوذ من عمل ياسر حمود وحسب، بل إن الخشب كمادة نبيلة ونفيسة تنساب مع الذهب لتعطيه قيمة إضافية جمالية ومادية. فهذا الخشب الذي يُجلب من إفريقيا يتميز بأنه يشبه المعادن من حيث الملمس والصلابة. أما الخشب في الأعمال المأخوذة من تصاميم النحات مصطفى علي فهو أقرب إلى الصيغة المألوفة، في أعمال هي في الأساس منحوتات اعتمدت على المؤثرات التاريخية المحلية، محافظة على قيمتها الفنية بعد تحولها إلى إكسسوار، كأعمال الرسام صفوان داحول التي مكثت تشبه لوحاته بحزنها المزمن رغم بريق الألماس، فيما تجلت دقة الذهب مع تصميم ندى الدبس. أما ليونة خطوط الألماس فظهرت في تصاميم سارة شما المتميزة برسم البورتريه، في حين طغى الطابع الطفولي المرح مع تنويعات التفاصيل في تصاميم صفاء الست. أما التنويع على التصاميم المألوفة فكانت في أعمال هيلدا حياري.

المعرض اكتفى بعرض المشغولات، إلا أن من يطالع الألبوم الذي تضمن صور اللوحات إلى جانب المشغولات، سيكتشف أنه بمجرد انتقال تلك الأعمال من خامة إلى خامة غدت عملا مغايرا برؤية مختلفة ما عدا الخطوط العامة للتصميم. فمثلا الرسم الذي وضعه الفنان أحمد معلا كان خطا عربيا لبيت من شعر، قص منه مقطع مربع وجرى تحويله إلى تصميم ذي خصوصية مستمدة من الحرف العربي لقلادة رائعة من الألماس الأبيض والحجر الكريم الأحمر مع الذهب الأبيض. أما القطعة الأكثر غرابة فكانت تلك المأخوذة من تصميم الفنانة العراقية زها حديد، فهي لم تكن تشبه قطعة للزينة، وإنما أقرب إلى تحفة على شكل شبكة توحي بليونة خادعة تخفي صلابة مقترنة بالسلاسة. وقال وديع الصايغ الذي يعتز بهذه القطعة أكثر من غيرها، إنه واجه صعوبة كبيرة في تطويع أعمال زها حديد.

لا شك في أن هذا المشروع جعل الفن التشكيلي قيمة فنية وثقافية يمنح لصناعة الجواهر قيمة مضافة، ليس فقط من جانب الاستفادة من الأفكار الجمالية، وإنما من حيث إعطاء الفن قيمة أعلى من الذهب والألماس، كما أنه وسّع أفق عالم تصميم الجواهر، من خلال إغنائه بأسماء فنانين لديهم أسلوب خاص. وبدل أن تنضوي أسماء المصممين تحت العلامة التجارية، باتت أسماء الفنانين مكتوبة بالذهب وتعلق على الصدور، كما هي القلائد التي صممها الفنان عادل سيوي. ويحق لنا اعتبار هذا المشروع بمثابة تكريم للفن التشكيلي. وإذا كانت اللوحة والمنحوتة هي فن غير أصيل في مجتمعاتنا، فإن الحلي والزينة أشياء لا تستغني عنها نساء الشرق. ولعل هذا المشروع فرصة لتعميم الفن وفتح طرق جديدة أمامه، وبطاقة متميزة للدخول في تفاصيل الحياة.

ولا يستبعد أبدا أن يجري استنساخ هذه التصاميم الجميلة من قِبل محترفي صناعة الحلي التقليدية، سيما وأن لا حقوق ملكية تحول دون ذلك. ورغم اللا شرعية الأخلاقية لهذا النوع من السرقات الفكرية، فإنها لا شك ستسهم في تطوير الذائقة والحس الفنيين لدى الجميع سواء الطبقة المترفة الساعية لاقتناء النفائس والأعمال الفريدة أو الطبقات الأدنى التي يحق لها أن تتزين بلوحات تتشبه بالذهب، إن لم تتمكن من الحصول على لوحات من ذهب وألماس.