كل ما هو وضيع ومتخلف يأخذ طابعا شرقيا

إسرائيلية من أصل عراقي تكتب عن يهود هاجروا إلى إسرائيل

TT

من الظواهر النفسية المرتبطة باليهود من أصل عراقي، تعلقهم بجذورهم البابلية وحياتهم في العراق. حيثما جلسوا وتحدثوا كان موضوعهم ذكرياتهم عن حياتهم في شارع أبي نوآس وشارع الرشيد وأسواق عقد اليهود. قلما مرت سنة من السنين دون أن أستلم كتابا من أحد أدبائهم يسرد ذكرياته وانطباعاته عن حياته في العراق. حتى كاتب هذه السطور، المسلم الكرخي البغدادي الأصيل، لم يستطع مقاومة جاذبية تلك الذكريات عن حياة الطائفة الموسوية في العراق فكرس لها روايته «على ضفاف بابل».

بيد أن هذه الكاتبة الشابة راشيل شابي لم تر العراق في عينيها. ولدت في إسرائيل بعد هجرة أبويها من العراق. لم يشعر والداها بالسعادة والراحة في إسرائيل، فهاجرا مرة ثانية، وفي هذه المرة إلى بريطانيا، حيث نشأت وتربت هذه الفتاة اليهودية العراقية الإسرائيلية، ثم عادت ككاتبة صحافية إلى إسرائيل لتدرس حياة الشريحة الكبيرة من المجتمع الإسرائيلي، شريحة اليهود الشرقيين، وبصورة خاصة اليهود الذين هاجروا من البلدان العربية.

خرجت من هذه الدراسة بكتاب غني ينم عن قدرة كبيرة في ملاحظة الظواهر الاجتماعية وتحليلها. الفكرة الأساسية في الكتاب أن هؤلاء اليهود الشرقيين يعانون من تمييز عنصري على كافة المستويات. هناك ـ حسب مطالعاتها ـ انقسام جذري في المجتمع الإسرائيلي بين هاتين الكتلتين، اليهود الاشكناز الأوروبيين واليهود المزراحي الشرقيين. وفي هذا الانفصام يعاني الشرقيون من قمع في سائر الميادين بما فيها اللغة والتراث والموسيقى والفنون.

تحاول السلطات الإسرائيلية الاشكنازية التغطية على هذا الانفصام وهذا التمييز العنصري بتعيين بعض الشرقيين في مناصب عالية ولكن الكاتبة تورد بالأرقام مدة التمييز ضد الشرقيين على المستوى العملي. أجور الاشكناز مثلا تعلو بمقدار 39 نقطة فوق معدل الأجر الرسمي، في حين أن أجور المزراحيين تقل عن ذلك المعدل بست نقاط. وكانت العوائل الاشكنازية في التسعينات تشكل 88% من ذوي الدخل العالي بينما كان المزراحيون يشكلون 60% من ذوي الدخل الواطئ. دأبت المؤسسة الصهيونية على تبرير ذلك بالإشارة إلى أن المزراحيين جاءوا من بلدان شرقية متخلفة وعلى مستويات واطئة من الثقافة والمعرفة. وأن الزمن الذي سيتكفل برفع مستواهم الثقافي في إسرائيل سيمحو هذا التباين بين الكتلتين. وهنا تقول الكاتبة إن ذلك لم يتحقق. لقد مر أكثر من نصف قرن على مجيء هذه الفئة الكبيرة إلى إسرائيل ومعظم أولادهم ولدوا في إسرائيل، ومع ذلك فالبون ما زال قائما بين من يتميزون ببشرة بيضاء ومن يتميزون ببشرة سمراء.

وبوحي هذه النظرة العنصرية، جرى إسكان القادمين إلى إسرائيل. فمن جاء من روسيا أو بولندا أو رومانيا يستلم بيتا في المدن الكبرى والأحياء الراقية، ومن جاء من العراق أو المغرب مصيره الخيام والبيوت المؤقتة وأخيرا المدن والقرى الحدودية النائية. وفي هذا الاتجاه قامت راشيل شابي بدراسة ميدانية لبلدة سديروت المقابلة لقطاع غزة، وهي البلدة التي وجه الفلسطينيون صواريخهم نحوها. وجدت راشيل أن معظم سكان هذه البلدة من أصل مغربي وتحدثوا إليها باللهجة المغربية اليهودية ليعبروا فيها عن قرفهم واستيائهم من المعاملة العنصرية التي تلقوها من السلطات الإسرائيلية وراحوا يشعرون بالحنين إلى قراهم اليهودية في المملكة المغربية.

تعرج الكاتبة إلى موضوع اليهود اليمنيين وتدخل في ذلك الموضوع الحساس الذي يتحاشى الإسرائيليون ذكره، وهو عمليات خطف الأطفال اليمنيين من عوائلهم لإعطائهم لعوائل اشكنازية تتبناهم. كسب الكثيرون من الإسرائيليين الاشكناز مبالغ جيدة من هذه التجارة، تجارة خطف أطفال العوائل اليمنية لبيعهم إلى الأسر الاشكنازية الموسرة. جرت تحقيقات عديدة في هذا الميدان وسعى البعض للبحث عن مصير أطفالهم دون جدوى.

يورد الكتاب أمثلة دقيقة حية عن النظرة العنصرية المتعالية التي ينظر بها الاشكنازيون نحو المزراحيين. تجد هذه الأمثلة حتى في استعمال الكلمات والإشارات البذيئة. كل ما هو وضيع ومتخلف يأخذ طابعا شرقيا، وعلى الغالب عربيا، وكل ما هو رفيع وأنيق يأخذ طابعا أوروبيا. تجد مثل الموقف حتى في الميادين الفنية والموسيقية. فموسيقى المقام العراقي التي يتباهى ويتميز بها اليهود العراقيون تعتبر حقيرة ومتخلفة وتتطلع المؤسسة الإسرائيلية إلى انقراضها وزوالها. لا تراهم يقدمون لها ولأمثالها من التراث الشرقي أي دعم أو اعتراف على نطاق وطني.

هذا كتاب جدير في رأيي بالترجمة إلى العربية وتشجيع توزيعه على نطاق عالمي للكشف عن جانب آخر من انتهاكات إسرائيل.